الاتجاهات الحديثة في التفسير

 تمهيد تاريخي :

احتلّ القرآن الكريم مكانة متميّزة في ترشيد مسار التفكير الإسلامي ، وبناء مقوّمات الحضارة الإسلاميّة ، وتوجيه التجربة التاريخيّة للاُمّة ، بدرجة لا يرقى إليها أي كتاب سماوي أو أرضي آخر في حياة البشرية . فالكتب السماوية الماضية كانت عرضة للضياع والتحريف ، وتراكم الشروح والتأويلات المضطربة المتناقضة ؛ ولذلك عجزت عن أداء وظيفتها في هداية البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور ، فلبثت مجتمعاتها في حالة سكون تكرّر ذاتها قروناً عديدة ، ولم تحقّق تلك المجتمعات أية خطوة إلى الأمام إلاّ بعد أنْ تحرّرت من سلطة النصوص المحرّفة ومفهوماتها التعطيلية .

بينما تجلّى أثر النص القرآني بوضوح في إعادة تشكيل العقل ، وإرساء أُسس منهجية قويمة للتفكير الصحيح . فبعد نزول القرآن استفاق وعي العقل , وأبصر العالم بمنظور بديل تبدّى فيه الإنسان والكون في صورة مغايرة للصورة الملتبسة التي ظلّ العقل أسيراً لها أحقاباً متمادية ، وأصبح هذا الوعي إطاراً لمنهج مختلف في معرفة العالم وصياغة الرؤى والمواقف المحدّدة إزاء مشكلاته وقضاياه . وعلى ضوء هذا الوعي أنجز الإنسان المسلم عناصر ومقوّمات حضارة عظمى قدّمت للبشرية عطاءً هائلاً في شتّى الميادين ، وأعادت للعقل المهمّة التي أناطها الله تعالى به .

فالإنجاز الحضاري للبشرية المتمثّل بهذه الثروة المتراكمة من العلوم والمعارف والفنون إنّما هو ثمرة لمعطيات سيادة التفكير العقلي الذي هو أدق تعبير للمنهج الذي بشّر به القرآن , هذا المنهج الذي تأسّس على نفي الجهل والضلال وكلّ ما من شأنه تزييف الوعي وإبعاد الإنسان عن الرشد والصواب .

وكانت حالات الازدهار والانحطاط في مسار الحضارة الإسلاميّة أجلى تعبير لمستوى تجسيد المنهج القرآني في التفكير ، فحين تلقّى الجيل الأوّل القرآن بصدق ، وتوثّقت وشائج ارتباطهم به ، استطاع اُولئك النفر القليل الذين كانوا مشتّتين في الجزيرة العربية من إحراز مكاسب وانتصارات ، لا يمكن أنْ تحقّقها أيّةُ اُمّة أخرى بنفس القدر من الإمكانات المادية والعسكرية ؛ فاكتسحوا الإمبراطوريات الكبرى في العالم وقتئذٍ ، وأمسى العالم من تخوم أوروبا إلى الصين في قبضتهم في سنوات معدودة .

فيما فقدَ المسلمون بعد قرون مساحات شاسعة من ديارهم ، واستحالوا إلى ركام مبعثر عُرف باسم ( الرجل المريض ) ؛ لمّا هجروا منهج القرآن في تفكيرهم ، وابتعدوا عنه في سلوكهم . وتلك سُنّة جارية ؛ فإنّه متى ما نهلتْ الاُمّة من معين القرآن وجسّدتْه في أفكارها وحياتها فإنّها تستلهم روح الهداية ، وتختزن فعالية حضارية متدفّقة ، بينما تتلاشى إمكانات نهوضها ، ويتبلّد وعيها , وتنضب فعاليّتها عندما تهجر القرآن .

 

آفاق التفسير :

لم يستأثر كتاب من الكتب السماوية باهتمام أتباعه مثلما استأثر القرآن الكريم ؛ فقد كان القرآن ـ ولمّا يزل ـ هو المنهل الذي اسْتَقَتْ منه المعارف الإسلاميّة بأسرها ، حتى إنّ العلوم الإسلاميّة بمختلف حقولها ، فضلاً عن الدراسات الخاصة بالقرآن ، تلتقي بمجموعها في العودة إلى النص القرآني , والاستناد إليه في بيان مفهوماتها ، أو الاستدلال عليها ، أو تبريرها وشرعنتها من خلال تقويل هذا النص وتأويله ؛ ولهذا كانت الكتابات في حقول التفسير وعلوم القرآن والدراسات القرآنية من أغزر الحقول التي تعاطاها المؤلّفون والدارسون على مرّ العصور(1) .

فربّما لا نجد أحداً لم يسهم بذلك على الأقل ولو برسالة صغيرة ، مهما كان اهتمامه وتخصّصه ، بل سعى الكثير من الباحثين القدماء الى اكتشاف أو خلق وشائج عضوية بين مختلف المعارف والقرآن الكريم ، وهذا ما نلاحظه بجلاء في التفسير خاصّة ؛ فإنّ المتكلّم حاول أنْ يحوِّل النص القرآني إلى نص كلامي ، ويُسْقِط عليه قوالب التفكير الكلامي .

وهكذا فعل الفيلسوف ، والفقيه ، والمحدِّث ، والبلاغي ، والصوفي والعارف ، وغيرهم , فأضحى التفسير ميداناً واسعاً تتمظهر فيه تيّارات الفكر الإسلامي في مختلف العصور ، وصار النص القرآني يتشكّل في وعي الباحثين في صور مختلفة ، ويتلون فهمه بألوان متنوّعة ، تبعاً لتنوّع البيئة والمحيط الخاص للمفسّر ، ونمط ثقافته واهتماماته ، وذوقه الشخصي , فقاد ذلك إلى تنامي ركام هائل من التأويلات والانطباعات الذهنية ، والثقافات السائدة في مختلف الأزمان ، في مدوّنات التفسير ، بنحو باتت فيه هذه المدوّنات مرآة للعصر الذي أُلّفت فيه ، تحكي همومه وتطلّعاته ، وآماله وتصوّراته ، وتصوّر قضاياه ومسائله بمختلف أبعادها .

وربما أغرق البعض مدلولات الآيات بمفاهيم لا تتّصل بأهداف القرآن , وتتنافى مع وظيفته ، فاستحالتْ آياته إلى ملتقى للعلوم الغريبة ، ( حتّى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل , وردّ الكلمات إلى الزبر والبيّنات , والحروف النورانية والظلمانية وغير ذلك )(2) حسب تعبير العلاّمة الطباطبائي ، وهام البعض وغاص بباء البسملة وصاد الصراط(3) حسب قول السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني .

 

القرآن يفسّره الزمان :

يتّفق المصلحون من علماء الاُمّة في العصر الحديث على أنّ إيقاظ الاُمّة واستنهاضها لن يتحقّق من دون العودة إلى القرآن الكريم والتمسّك به ، ويشدّد هؤلاء العلماء على ضرورة وعي القرآن وعياً جديداً يتحرّر من ترسّبات التأويلات المتنوّعة التي حجبتْ النص القرآني ، وحالتْ بينه وبين إنارة وجدان المسلم .

وقد وجد هؤلاء المصلحون أنّ دعوتهم لإعادة النظر في تفسير القرآن ، والعمل على صياغة تفسير حديث يبرّرها ـ مضافاً إلى ما تقدّم ، من اصطباغ التفسير وتلوّنه بالأفق الذهني للمفسّر ـ أنّ الأُطر التقليدية للتفسير لا تتّسع لتحوّلات العصر ومستجدّاته واستفهاماته ، والقرآن كتاب لا يختصّ بزمان دون زمان ، ولا يُعنى بمشكلات قوم دون سواهم ؛ ( لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة )(4) ، كما قال الإمام الرضا (عليه السّلام) .

كما أنّ المكاسب التي جناها العلم الحديث في اكتشاف عالم الطبيعة ، والتعرّف بصورة أدق على سنن النفس والمجتمع ، وتطوّر البحث في مجال علم اللغة والدلالة ، ستساهم في التعرّف على مداليل آيات القرآن بصورة أجلى وأدق ؛ لأنّ القرآن الكريم يهدف إلى البناء الأمثل للاجتماع البشري ، ولذلك يعالج في مساحة واسعة منه سنن هذا الاجتماع ، فيلتقي القرآن مع العلم في بلوغ النموذج السليم للاجتماع البشري(5) , مضافاً إلى أنّ معطيات العلم يمكن توظيف بعضها ، خاصة العلوم الإنسانية ، في استكناه شيء من مداليل النص القرآني .

وبتعبير آخر أنّ بموازاة كتاب الوحي القرآني هناك كتاب ثانٍ هو كتاب الطبيعة الذي يتضمّن ظواهر الوجود الكوني كافّة ، ( فالقرآن العظيم والكون البديع كلاهما يدلّ على الآخر ويرشد إليه ، ويقود إلى قواعده وسننه ، فالقرآن يقود إلى الكون ، والكون أيضاً يقود إلى القرآن )(6) ، وهذا يعني وجود تناغم واتّساق بين نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع البشري من جهة , ومعطيات القرآن الكريم ومدلولاته من جهة أخرى ، وأنّ الأبعاد الغائبة والمداليل الخفيّة في كتاب الوحي ستتجلّى بالتدريج تبعاً لِمَا يتجلّى في كتاب الكون وما يزخر به من ظواهر ، ولعلّ في الحديث المنقول عن ابن عبّاس ( إنّ القرآن يفسّره الزمان )(7) ما يشي بهذه الحقيقة .

غير أنّ ذلك لا يتحقّق وِفق عملية دمج تبسيطية ، مثلما تفتعل ذلك بعض الكتابات التي تبالغ في توظيف معطيات العلم وفرضيّاته ، وتسعى لقراءة النص القرآني قراءة عاجلة ، تسرف في الافتراض والشطط ، وإنّما يتوقّف ذلك على اكتشاف ( العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن من ناحية ، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود من ناحية ثانية ، مع الناظم المنهجي الذي يربط بينهما )(8) .

 

روّاد الاتجاهات الحديثة :

يتّفق الدارسون على أنّ السيّد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني كان أوّل مَن دعا إلى إعادة النظر في مناهج التفسير القديمة ، ومهَّدَ للاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن ؛ لأنّ مشروعه الإحيائي استند إلى القرآن كمرجعية يصدر عنها في دراسة واقع المسلمين ، والتبصّر بمشكلاته وأمراضه ، وفي تحديد الوسائل والأدوات اللازمة لتقويم هذا الواقع ، وبناء المقوّمات اللازمة لإيقاظه ونهوضه .

وكان جمال الدين أوّل مفكّر مسلم في العصر الحديث يؤكّد بصراحة أنّ السبيل الوحيد لنجاة المسلمين هو العمل بأحكام القرآن وتطبيقها في الحياة(9) ، ويرى أنّ بعث الاُمّة واستنهاضها لن يتحقّق من دون ( بعث القرآن ، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور , وشرحها على وجهها الثابت ، من حيث يأخذ بها إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة )(10) .

وقد تنبّه جمال الدين باكراً إلى العلّة التي أقعدتْ المسلمين عن صياغة تفسير للقرآن يوائم مستجدّات الزمان ويستجيب لرهانات العصر ؛ فصرّح أنّ هذه العلّة تكمن بتقديس التفاسير الكثيرة التي تراكمت حول النص القرآني ، عبر مختلف عصور الحضارة الإسلاميّة ، وتشبّعت بملابسات الزمان والمكان ، وعقيدة المفسّر ، ورؤيته المنبثقة من بيئته الخاصّة ، وما تمور به من أسئلة ومعارف لا تتجاوز الفضاء الداخلي للبيئة .

فحين يتعامل البعض مع رأي المفسّر كما يتعامل مع الوحي ، يتحوّل هذا الرأي إلى نصّ ثان يطمس النص القرآني ، ويحول دون استنطاقه واستيحاء دلالاته المتجدّدة التي لا تنضب أبداً ؛ فإنّ القرآن كما يقول الإمام علي (عليه السّلام) : ( بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ ، وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ ، وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ )(11) .

لقد حذّر جمال الدين بشدّة من الخلط بين النص القرآني ( وما تراكم عليه ، وتجمع حوله من آراء الرجال , واستنباطاتهم ونظرياتهم ) , ووضع حدّاً فاصلاً بين آراء الرجال هذه والنص القرآني ، وَبَلْوَرَ منهجاً واضحاً للتعاطي مع الثاني ( كَوَحْي ) , والأوّل الذي ( نستأنس به كرأي ) فحسب . من هنا يجب أنْ نميّز رأي المفسّر بدقّة ( ولا نحمله على أكفّنا مع القرآن )(12) .

ولم يتوقّف جمال الدين عند هذا الحد ، بل عمل على تطبيق منهجه هذا على الآيات الكريمة التي كان يستهلّ بها مقالاته في مجلّة ( العروة الوثقى ) ، والتي تعالج قضايا الاُمّة وهمومها ، كقضية التخلّف والانحطاط الحضاري ، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الإسلام ، والعجز النفسي وذبول العزيمة ، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر .

وحينما نطالع مجموعة أعداد العروة الوثقى يلوح لنا اُسلوب جديد في التفسير انتهجه جمال الدين ، لا نرى ما يماثله لدى من سبقه أو عاصره من المفسّرين ؛ ذلك أنّ جمال الدين سعى لاستلهام الرؤية السياسية والموقف من الأحداث من روح القرآن الكريم ، وهكذا كرّر هذه التجربة في كلّ مسألة اجتماعيّة أو اقتصادية أو ثقافية ، تناولها في مقالاته .

فقد تصدّرت مقالات جمال الدين في العروة الوثقى آيات قرآنية ، وتدلّت المفاهيم والرؤى المنبثة في كل مقال من معين الآية التي يستهلّه بها ، وما يتّصل بها من آيات تضيء مدلول تلك الآية ، فصار المقال تفسيراً باُسلوب مختلف للآية ، تفسيراً لا يتورّط في نقض وإبرام أقوال المفسّرين ، ولا يستغرق في متاهات لفظية لا تتّصل بالحياة ، ولا يفتعل مشاغل فكرية تبتعد عن هدف القرآن في هداية الإنسان ، وإنّما هو تفسير اجتماعي يقنّن موقف المواطن والاُمّة حيال القضايا الحياتية المتنوّعة ، ويصوغ رؤية سديدة من منظور القرآن .

فمثلاً افتتح مجلّة العروة الوثقى بقوله تعالى : ( ... رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )(13) ، وصدّر المقال الذي يليه بالآية الكريمة : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) ، حين تناول ( ماضي الاُمّة وحاضرها وعلاج عللها )(14) ، وفي معرض حديثه عن ( انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك ) افتتح مقاله بالآية : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ... )(15) ، وفي مقال ( رجال الدولة وبطانة الملوك ) بدأ بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... )(16) ، وأورد الآية : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) في كلامه عن ( امتحان الله للمؤمنين )(17) .

ولمّا بحث ( سنن الله في الأُمَم وتطبيقها على المسلمين ) جاء بالآية : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(18) ، وعندما بحث أثر الخوف في هزيمة الاُمّة وذوبانها ، تحت عنوان ( الجبن ) ، ذكر الآية : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... ) ، ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ... )(19) ، وفي بيان موقف ( الاُمّة وسلطة الحاكم المستبد ) استوحى قوله تعالى : ( ... وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )(20) ، وعندما حاول إيقاد ( روح الأمل وطلب المجد ) لدى الاُمّة استلهم مادّته من : ( ... إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ، ( ... وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ )(21) .

هكذا دأب جمال الدين على استيحاء روح القرآن واستلهام معالجاته لمشكلات الاُمّة وأمراضها(22) ، فباشر بذلك تجربة رائدة في رسم اُصول ( التفسير الاجتماعي للقرآن ) ، وتدشين أسسه في خطابه النهضوي .

واستأنف لاحقاً تلميذُه الشيخ محمّد عبده الامتداد بتجربة اُستاذه في اُسلوب التعامل مع تراث المفسّرين ، ومنهجه في الكشف عن المداليل الاجتماعيّة للذكر الحكيم ، وهو ما يتجلّى في رسالة سياسية بعث بها محمّد عبده إلى أحد أعضاء جمعية العروة الوثقى ، يكتب فيها : ( وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلاّ لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه ، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متّصله ، ثمّ اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه ، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه ، وضمّ إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية ، واقفاً عند الصحيح المعقول ، حاجزاً عينَيك عن الضعيف والمبذول )(23) .

واقتفى التلميذُ عبده خُطى الاُستاذ في تفسيره ، و ( طبّق فيه منهج اُستاذه الأفغاني )(24) ، وتحدّث بصراحة في مقدّمة دروسه في التفسير التي قرّرها تلميذه السيّد محمّد رشيد رضا ، عن أنّ التفسير الذي يرمي إليه ( هو فهم الكتاب من حيث هو ، دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة )(25) ، وأوضح أنّ التفاسير السابقة ابتعد الكثير منها عن مقصد الكتاب الكريم ، عبر استغراقها في مباحث البلاغة والإعراب ، وتتبّع القصص ، وغريب القرآن ، والأحكام الشرعية ، وعلم الكلام ، والمواعظ والرقائق ، والإشارات الصوفية .

وأورد محمّد عبده تساؤلاً يتكرّر في عصره والعصر الذي تلاه ، ويتلخّص في قول البعض ، بأنّه ( لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن ؛ لأنّ الأئمّة السابقين نظروا في الكتاب والسُنّة ، واستنبطوا الأحكام منهما ، فما علينا إلاّ أنْ ننظر في كتبهم ونستغني بها )(26) . ثمّ أجاب بصيغة استفهام استنكاري ، بأنّ هذا الزعم ( لو صحّ لكان طلب التفسير عبثاً ، يضيع به الوقت سُدىً ، وهو مخالف لإجماع الاُمّة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى آخر واحد من المؤمنين ، ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ؟! )(27) .

وشدّد على أنّ المخاطب في القرآن هم أفراد النوع الإنساني في كل زمان ، والقرآن أُنزل لهداية هذا النوع ، ( فهل يُعقل أنّه يرضى منّا بأنْ لا نفهم قولَه هذا ، ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه ، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتّباعه ، لا جملة ولا تفصيلاً ؟! ) . وأردف هذا الاستفهام بنفي قال فيه : ( كلاّ ، إنّه يجب على كل واحد من الناس أنْ يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته ، لا فرق بين عالم وجاهل )(28) .

وفي محاولات التفسير اللاحقة حرص المصلحون من علماء الدين على ترسيخ صِلَة الاُمّة بالقرآن ، وباشروا تجارب رائدة في التفسير ، اتّخذوا كتاب الله تعالى فيها محوراً لخطابهم الإصلاحي ، ووظّفوا تعاليمه في مقولاتهم ، واهتمّوا بإحياء مصطلحاته ومفهوماته ، وصرّح الكثير منهم بعجز التفاسير السابقة عن تلبية متطلبات الاُمّة المتنوّعة .

وحرصوا جميعاً على تدريس التفسير ، وتدوينه ببيان ينتفع به كلّ الناس ؛ لأنّهم وجدوا أنّ إحياء الاُمّة غير ممكن ما لم يستند إلى بعث القرآن ، وإشاعة تعاليمه وأفكاره ، فاقترنت دعواتهم باستلهام روح القرآن ، وفَهْم قضايا الاُمّة في ضوء توجيهاته على الدوام ، حتى إنّ المجاهد الشيخ عبد الحميد بن باديس ( آثر البدء بتفسيره درساً تسمعه الجماهير ، فتتعجّل من الاهتداء به ، ما يتعجّله المريض المُنْهَك من الدواء ، وما يتعجّله المسافر العجلان من الزاد )(29) ، وعكف عليه إلى أنْ ختمه في خمس وعشرين سنة ، فاحتفلتْ الجزائر احتفالاً بهيجاً عام 1357 هـ بمناسبة ختمه لتفسير القرآن .

وقد ضاق المستعمر الفرنسي ذرعاً بروح المقاومة والوعي الجديد الذي أَجّجتْه دروس بن باديس التفسيرية في الاُمّة ، وكان بن باديس قد تنبّأ بانفجار الثورة على المستعمر الغازي ، ( فعبّأ لها الجهود ، وأشار إلى جبال أوراس الحصينة ، وقال لأبنائه وطلاّبه : من هنا تبدأ الثورة .. وبايع بعضهم فرداً فرداً ، استعداد للتعبئة ولإعلان الجهاد الإسلامي والحرب ضد فرنسا ، ولكنّ المنيّة عاجَلَتْهُ )(30) .

وكان الشيخ أبو الأعلى المودودي يعمل على تفسير القرآن ، وهو في غمرة مهامّه في العمل في سبيل الله ، فأمضى ثلاثين عاماً من حياته في إعداد تفسيره ( تفهيم القرآن ) ، ولم تَثْنِهِ العوائق المتنوّعة كالسجن وملاحقة السلطة عن أداء هذه المهمّة(31) . وهكذا أمضى الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور خمسين عاماً كاملة في تأليف تفسيره ( التحرير والتنوير )(32) .

أمّا السيّد محمّد حسين الطباطبائي فقد أنفق ثماني عشرة سنة تقريباً في تدريس وتدوين تفسيره ( الميزان في تفسير القرآن )(33) .

ودشّن السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر حركته في مناهضة الاستبداد بسلسلة دروس في التفسير ألقاها على طلاّب الحوزة العلمية في النجف الأشرف , بدأها ببيان الثغرات المنهجية في الاتجاه التجزيئي السائد والمتوارث للتفسير ، وأوضح ( أنّ قروناً من الزمن متراكمة مرّت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ، لم يحقّق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة ، وظلّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلاّ قليلاً خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلتْ بها الحياة في مختلف الميادين )(34) .

وخلص الشهيد الصدر إلى ضرورة تبنّي اتجاه جديد في التفسير ، يتحرّر فيه التفسير من الحالة التكرارية ، التي أقعدتْه عن التطوّر والنمو ، ويخلّص النص القرآني من الآراء والأفكار المختلفة التي راكمها المفسّرون حول هذا النص ، فأبعدتْه عن الواقع .

 

الاتجاهات الحديثة :

تنوّعت اتجاهات التفسير في القرن الأخير ، وظهرتْ في إطار كل واحد من هذه الاتجاهات اجتهادات متعدّدة ، عبّرت عن نفسها بآراء وتسميات ، عادة ما تلتقي بمحور مشترك ، تتوحّد فيه اُصولها ومنطلقاتها وغاياتها ، وإنْ كانت لا تتوحّد في أدوات استنطاق النص ، وأساليب صياغة المفاهيم القرآنية .

وفي مراجعة سريعة لمدوّنات التفسير والدراسات القرآنية الحديثة ، يمكن استخلاص أبرز الاتجاهات التي ترسّمها المفسّرون في أعمالهم ، مع العلم أنّ بعض مدوّنات التفسير يلتقي في ثناياها عدّة اتّجاهات يستند إليها المفسّر في معالجة النص واستكناه دلالاته . وفيما يلي إشارات موجزة تعرف بهذه الاتجاهات في التفسير :

 

1 ـ التفسير العلمي :

يعتمد هذا اللون من التفسير على تحكيم الفرضيات والنظريات والقوانين العلمية في معاني آيات الكتاب الكريم ، وبذل محاولات تأويلية تتجاوز المدلول الظاهر للآية أحياناً ، بُغْيَةَ القول بتطابق مدلولها مع معطيات العلم الحديث .

وترتد هذه النزعة إلى عدّة قرون تسبق العصر الحديث ، كما نلاحظ لدى الغزالي في ( جواهر القرآن )(35) ، والفخر الرازي في ( التفسير الكبير )(36) ، والزركشي في ( البرهان في علوم القرآن )(37) ، والسيوطي في ( الإتقان في علوم القرآن )(38) ، وغيرهم .

لكنّ تَعَرُّف المسلمين على مكاسب العلوم الحديثة ومنجزاتها الواسعة أوجد أرضية جديدة للتفسير العلمي ، فعمد بعض المفسّرين إلى اقتباس معطيات العلم وتطبيقها على النص القرآني ، وكانت أقدم محاولة في هذا المضمار في العصر الحديث لمحمّد بن أحمد الإسكندراني الطبيب من أهل القرن الثالث عشر الهجري ، ومؤلّف كتاب ( كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلّق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية ) المطبوع في القاهرة سنة 1297ﻫ .

ثمّ ظهرت الكثير من المؤلّفات بمرور الزمن في التفسير العلمي ، غير أنّ أشهر هذه المؤلّفات وأوسعها ، هو : ( الجواهر في تفسير القرآن الكريم ) للشيخ طنطاوي جوهري ، الذي مزج فيه ـ كما يقول ـ الآيات القرآنية بالعجائب الكونية والبدائع الأرضية ، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع ، وكان يرمى إلى أنْ يكون كتابه هذا ( داعياً حثيثاً إلى درس العوالم العلوية والسفلية ، وليقومنّ من هذه الاُمّة مَنْ يفوقون الفرنجة ، في الزراعة ، والطب ، والمعادن ، والحساب ، والهندسة ، والفلك ، وغيرها من العلوم والصناعات )(39) .

وبالرغم من أنّ تفسير طنطاوي جوهري اشتمل على مباحث وإشارات عديدة تعالج مشكلات التخلّف ، وتدعو إلى مقاومة الاستعمار ، والثورة ضدّ الاحتلال ، ومناهضة الاستبداد ، إلاّ أنّ النزعة العلمية طَغَتْ على هذا التفسير ، فاستغرق صاحبه في اقتباس الفرضيات والحقائق العلمية ، وتطبيقها على الآيات القرآنية ، بمناسبة أو غير مناسبة ، ممّا أثار حفيظة الكثير من الدارسين ، الذين رأوا في طريقة طنطاوي جوهري إسرافاً ومبالغة مفرطة في مزج فروض العلم واحتمالاته وقوانينه بمعاني القرآن ، فظهر تيّار يعارض هذا الاُسلوب في التفسير ، ويحذّر بشدّة من التفسير العلمي للقرآن .

غير أنّ الكثير من المفسّرين في العصر الحديث أفاد من نتائج الاكتشافات العلمية ، ففسّروا بعض الآيات التي تتحدّث عن الظواهر الطبيعية على ضوء هذه الاكتشافات ، وصدرت مجموعة دراسات تعالج قضية الإعجاز العلمي وتسعى للاستعانة بشيء من معطيات العلوم الحديثة في البرهان على إعجاز القرآن .

 

2 ـ التفسير الأدبي :

ظلّت البلاغة القديمة تتناول النص القرآني تناولاً جزئياً ، يهتمّ بالخصائص الدلالية والجمالية للكلمة والجملة والفقرة ، من دون أنْ يتعدّى ذلك لتحليل الخصائص المفهومية والفنية للنص بتمامه ، من خلال تشخيص النسيج العضوي الذي تنتظم في سياقه الفقرات بمجموعها ، فتشكّل وحدة موضوعية ، تشي بدلالات إضافية لا يحكيها التناول الجزئي للنص ، مضافاً إلى أنّ محاولة استجلاء الصورة الفنية للنص بملاحظة جُمَله وفقراته كوحدات مستقلّة غير مترابطة ، سوف لنْ يؤدّي إلى خفاء تلك الصورة فحسب ، وإنّما يعكس لنا دلالات مبعثرة وصوراً مشتّتة ، بمثابة ما يرتسم من صور في المرآة المهشّمة .

( فمثلاً لو تناولنا سورة الكهف وأخضعناها للتناول الجزئي ، لَمَا خرجنا بأكثر من آيات أو جُمل متناثرة ، منفصل بعضها عن البعض الآخر ، على نحو الأعضاء المنفصلة عن جسم الإنسان ، كاليد أو الوجه أو الصدر ، لكنّنا لو أخضعناها للتناول الكلّي لخرجنا بنتيجة أخرى ، هي مواجهتنا لنصّ فني متناسق الأجزاء على نحو التناسق الذي نلحظه في تركيبة الجسم البشري ، أو سائر الأجسام والأشكال الطبيعية )(40) .

وعلى هذا الضوء انتهج جماعة من المفسّرين في العصر الحديث منهجاً جديداً في التفسير الأدبي للقرآن ، يستند إلى استجلاء الوحدة الموضوعية والوشائج العضوية التي تربط الآيات والسور القرآنية .

وقد بدأت بذور هذا الاتجاه في التفسير تظهر في تفسير محمّد عبده ، ومحمّد رشيد رضا ، ومحمّد مصطفى المراغي ، لكنّ جهودهم في هذا الصدد لا تتعدى الإشارات واللمحات العابرة (41) .

أمّا الولادة الحقيقية للتفسير الأدبي الحديث ، وتبلور اُصوله النظرية ، وتدشين تلك الاُصول في تجارب تفسيرية ، فقد تبلورتْ على يد الشيخ أمين الخولي وتلامذته ؛ حيث أصَّلَ أمين الخولي بعض المرتكزات المنهجية لهذا الاتجاه في بحثه الذي كتبه تعليقاً على مادّة ( التفسير ) في ( دائرة المعارف الإسلاميّة )(42) . ثمّ توسّع في بيانه في بحوث أخرى ، وتمثّلت تلميذته الدكتورة بنت الشاطئ شيئاً من هذه المرتكزات في كتابها ( التفسير البياني للقرآن الكريم ) ، وأوردتْ مستخلصاً في مطلع كتابها لضوابط التفسير التي رسمها اُستاذها ، واستندتْ إليها في تفسيرها ، بما يلي :

1 ـ الأصل في المنهج : التناول الموضوعي لِمَا يُراد فهمه من القرآن ، ويبدأ بجمع كلّ ما في الكتاب من سور وآيات في الموضوع المدروس .

2 ـ في فهم ما حول النص : ترتّب الآيات فيه على حسب نزولها ، لمعرفة ظروف الزمان والمكان ، كما يستأنس بالمرويّات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابَسَتْ نزولَ الآية .

3 ـ في فهم دلالات الألفاظ : تلتمس الدلالة اللغوية الأصيلة ، التي تعطي حسّ العربية للمادّة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية ، ثمّ يخلص لِلَمْح الدلالة القرآنية باستقراء كل ما في القرآن من صِيَغ اللفظ ، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ، وسياقها العام في القرآن كلّه .

4 ـ في فهم أسرار التعبير : يُحتكم إلى سياق النص في القرآن ، بالالتزام بما يحتمله نصّاً وروحاً . وتعرض عليه أقوال المفسّرين ، فيقبل منها ما يقبله النص ، ويتحاشى ما أُقحِم على كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليات ، وشوائب الأهواء المذهبية ، وبدع التأويل(43) .

ويمكن أنْ نلحظ تجربة رائدة في التفسير الأدبي تسبق محاولة بنت الشاطئ بما يزيد على ربع قرن ، ظهرت للمرّة الأولى في دروس التفسير التي ألقاها العلاّمة الشيخ محمّد عبد الله درّاز على طلاّب كلية اُصول الدين بالجامع الأزهر ، في أوائل العقد الرابع من القرن العشرين .

وقدّم الشيخ درّاز في دروسه التفسيرية اُسلوباً آخر في التفسير الأدبي لا يتطابق مع اُسلوب الشيخ أمين الخولي ، وإنْ كان يتّفق معه في السعي لاكتشاف الوحدة الموضوعية والنسيج العضوي في الآيات . فقد لمحنا اهتمام الخولي بمعالجة موضوع قرآني معيّن ، وصياغة موقف القرآن إزاءه ، عبر تتبّع موارده في القرآن ، واستقراء دلالات اللفظ في ضوء استعمالاته المختلفة في الآيات ، بينما نجد درّاز يفتّش عن الترابط العضوي في السورة ذاتها ؛ لأنّها ذات ( بُنية متماسكة ، قد بُنيت من المقاصد الكلّية على أُسس واُصول ، وأُقيم على كلّ أصل منها شُعبٌ وفصول ، وامتدّ من كلّ شعبة منها فروع تقصر أو تطول ، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حُجُرات وأفنية ، في بنيان واحد ، قد وضع رسمه مرّة واحدة ...

بل إنّها تلتحم كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان ، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما ، كما يلتقي العظمان عند المفصل ، ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب ، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب ، ومن وراء ذلك كلّه يسري في جملة السورة اتجاه معيّن ، وتؤدّي بمجموعها غرضاً خاصّاً ، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً ، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد ، مع اختلاف وظائفه العضوية )(44) .

وبعد ما يزيد على نصف قرن ، طَبّق منهج درّاز في التفسير الشيخُ محمّد الغزالي في كتابه : ( نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم )(45) ، الذي اهتمّ فيه بدارسة الوحدة الموضوعية في كل سورة ، وحاول أنْ يكتشف الأواصر بين مستهلّ السورة ووسطها وختامها ، ويوضّح ما خفي من دلالات مشتركة وراء المدلول الخاص للآيات ، متوكّئاً على تجربة الشيخ درّاز في كتابه : ( النبأ العظيم ) ، عندما تناول سورة البقرة ، وهي أطول سورة في القرآن ، فجعل منها باقة واحدة ملوّنة نضيدة (46) .

ولم يقتصر هذا اللون من التفسير على الأعمال المذكورة ، وإنّما ترسم منهجة غير واحد ، من المفسّرين في العصر الحديث ، ومن هؤلاء الاُستاذ محمّد عزّة دروزه صاحب ( التفسير الحديث ) الذي رتّبه على أساس تاريخ النزول ، فاعتبر أنّ الفهم الأمثل للقرآن يستند إلى ملاحظة السياق والتناسب والترابط بين الفصول والمجموعات القرآنية ؛ لأنّ أخذ القرآن آية آية أو عبارة عبارة أو كلمة كلمة ، يؤدّي إلى التشويش على صِحّة التفهم والتدبّر والإحاطة ، أو على حقيقة ومدى الهدف القرآني(47) .

وفي عام 1960 نشر الاُستاذ محمّد المبارك دراسة أدبية لنصوص القرآن تحت عنوان : ( من منهل الأدب الخالد ) ، تضمّنتْ طريقته في التفسير الأدبي لبعض السور القرآنية ، من خلال النظرة الشاملة التي تنظّم الآيات كلّها ، دون الاكتفاء بدراسة الآيات منفصلة ؛ لأنّ النظر إلى الآيات بمجموعها يقودنا إلى استخلاص الخصائص والسمات الفكرية والفنية المشتركة في مختلف الآيات ، التي لا تتبدّى إلاّ بالتناول الكلّي للسورة . فالتناول الكلّي يضيء لنا الفكرة العامّة للسورة ، ويوضّح ما تضمّنته من أفكار ، ويكشف ما بين هذه الأفكار من صلة ويربطها بما تضمّنه القرآنُ من مفاهيم وأفكار(48) .

وقد كان للشهيد سيّد قطب دور رائد في انتهاج اُسلوب متميّز في التفسير الأدبي ، افتتح فيه حقلاً آخر يعالج وحدة التصوير والتعبير في نصوص القرآن ، واقترحه لأوّل مرّة في مقال نشره في مجلّة المقتطف عام 1939 تحت عنوان : ( التصوير الفني في القرآن ) ، وبعد خمس سنوات أي في عام 1944 أصدر كتاباً يحمل العنوان ذاته ، تناول فيه التناسق في التعبير والتصوير في القرآن ، وحاول أنْ لا يتوقّف عند خصائص النصوص المفردة ، بل تجاوزها إلى إدراك الخصائص العامّة ، واقتناص السمات المطّردة ، والطريقة الموحّدة في التعبير عن جميع الأغراض في الكتاب الكريم(49) .

 

3 ـ التفسير الموضوعي :

التفسير الموضوعي مصطلح في التفسير ذاعَ في العصر الحديث ، وتداوله الباحثون في الدراسات القرآنية في أكثر من معنى ، تتوحّد هذه المعاني في جمع المفسر للآيات في موضوع معيّن ، ثمّ استخلاص رؤية القرآن حيال هذا الموضوع منها .

وقد تناول أمين الخولي هذه المسألة في معالجته لضوابط التفسير الأدبي الذي دعا إليه ، وأوضح أنّ ترتيب القرآن في المصحف لم يلتزم بوحدة الموضوع ، كما لم يلتزم بالترتيب الزمني لظهور الآيات ، وإنّما تحدّث عن الموضوع الواحد في سياقات متعدّدة ، ومناسبات متنوّعة ، وهذا يقتضي أنْ يفسّر القرآن موضوعاً موضوعاً لا قطعة قطعة ولا سورة سورة ، وأنْ تُجمع الآيات الخاصّة بالموضوع الواحد ، ويعرف ترتيبها الزمني ، ومناسباتها وملابساتها الحافّة بها(50) .

غير أنّ الدكتورة بنت الشاطئ التي استهلّت كتابها : ( التفسير البياني ) بمقدّمة حدّدت فيها النهج الذي تسير عليه في تفسيرها ، وشدّدت على أنّه المنهج الذي تعلّمتْه من الشيخ أمين الخولي ، طبّقت مجموعة الضوابط التي رسمها اُستاذها للتفسير ، ما خلا فكرة الموضوع ، فإنّها لم ترتبط في تفسيرها بفكرة الموضوع التي شدّد الخولي في دعوته إليها ، واعتبرها واحدة من الاُصول الأساسية في التفسير الأدبي الذي اقترحه(51) .

ووُجد في تلامذة أمين الخولي مَن يلتزم بفكرته في مراعاة وحدة الموضوع في التفسير الأدبي ، وهو الدكتور محمّد أحمد خلف الله ، الذي تقدّم برسالة دكتوراه سنة 1947 حول ( الفنّ القصصي في القرآن ) ، واستهلّها بالقول : إنّ السبب الذي دفعه لأنْ يجعل القرآن ميدان أبحاثه ، يرجع إلى نوع من الاستهواء ، غرسه في نفسه اُستاذه الخولي ، عن النهج الأدبي في فهم القرآن وتفسيره(52) .

إلاّ أنّ هذه الرسالة أثارت احتجاجات واسعة ، وسِجَالات عنيفة وقتئذٍ ؛ بسبب تبنّي صاحبها لآراء غريبة في القصص القرآني ، يخالف بها المشهور لدى المفسّرين .

وصدرتْ نماذج تمثّل محاولات متفاوته ، لدراسة موضوع معيّن من منظور القرآن ، تناول مؤلّفوها النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقضائي وغير ذلك ، مثل كتاب : ( الدستور القرآني في شؤون الحياة ) لمحمّد عزّة دروزة ، و ( تفسير آيات الربا ) لسيّد قطب ، و ( المجتمع الإسلامي كما تنظّمه سورة النساء ) لمحمّد محمّد المدني ، و ( القرآن والمجتمع ) لمحمود شلتوت ، وسلسلة ( مفاهيم القرآن ) لجعفر سبحاني ، وغيرها .

لكنّ النموذج المتميّز من هذه النماذج ، والذي حاز قصب السبق في تشييد بناء نظري قرآني متين ، هو كتاب : ( دستور الأخلاق في القرآن ) للشيخ محمّد عبد الله درّاز ، الذي قدّمه كأطروحة دكتوراه بجامعة السوربون نهاية عام 1947 ، واتّبع فيه نظاماً منطقياً لاستكشاف دلالات الآيات ، وبالتالي استخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه(53) .

ومع شيوع عنوان التفسير الموضوعي ، واهتمام بعض الدارسين به ، واتّخاذهم له كعنوان لأبحاثهم القرآنية ، لكنّا نلحظ اضطراباً في طرائق دراسته ، فقد أسمى البعضُ أيّة محاولة للتكديس العددي للآيات في قضية مشتركة تفسيراً موضوعيّاً ، واصطلح آخرون على كلّ محاولة لانتزاع مفهوم قرآني من بضعة آيات هذه التسمية .

ويعود هذا الالتباس إلى عدم تجلّي الاُصول النظرية لهذا النوع من التفسير ، إلاّ في وقت متأخّر عن معظم المحاولات المارّة الذكر ؛ فقد تبلورت الصياغة النظرية لمنهج التفسير الموضوعي في دروس التفسير التي ألقاها السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر عام 1979 على طلاّب الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، وحدّد فيها بوضوح سمات هذا التفسير وطريقة تناوله للنص ، وصلته بالحياة البشرية ، وما تحفل به من أفكار وأنشطة ومواقف .

فأوضح أنّ هذا اللون من التفسير يتيح للمفسّر التواصل مع التجربة البشرية ، واستيعاب معطياتها المتنوعة ، والصعود منها إلى النص ، بمعنى أنّ التفسير الموضوعي ( يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن ، لا أنّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن ، فتكون عملية التفسير منعزلة عن الواقع ، ومنفصلة عن تراث التجربة البشرية ، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن ، بوصفه القيِّم والمصدر الذي تحدّد على ضوئه الاتجاهات الربّانية بالنسبة إلى ذلك الواقع )(54) . وبذلك يتحقّق نحوٌ من الاندماج والتلاحم العضوي بين النص والواقع ، وتُتَاح للمفسّر إمكانات تغتني وتتّسع باتّساع التجربة البشرية ، وما يلابسها من منعطفات وتحوّلات ، وما تنجزه من مكاسب في شتّى المجالات .

من هنا كان التفسير الموضوعي قادراً على أنْ يتطوّر وينمو ؛ لأنّ التجربة البشرية تتطوّر وتنمو باستمرار ، وبذلك تساهم في إثرائه على الدوام(55) .

كما صرّح الشهيد الصدر بأنّ التفسير الموضوعي لا يهدف إلى إجراء تبسيطي يتمثّل بتحشيد كمّي لطائفة من الآيات في موضوع واحد ، واستظهار المدلولات التفصيلية لها ، ثمّ القيام بعملية دمج مبسّط بين تلك المدلولات ، وإنّما هو محاولة لاستخلاص المركّب النظري ، والتوصّل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التفصيلي ؛ بُغْيَة استلهام ( أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية ، والوصول إلى مركّب نظري قرآني ، وهذا المركّب النظري يحتلّ في إطاره كلّ واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب ، وهذا ما نسمّيه بلغة اليوم بالنظرية ، يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوّة ، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي ، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ ، وهكذا )(56) .

ويمكن استخلاص ضوابط التفسير الموضوعي تبعاً لرؤية الشهيد الصدر بالآتي :

أ ـ انتخاب موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعيّة أو الكونية(57) .

ب ـ استقراء كل ما يتّصل بهذا الموضوع في القرآن الكريم من آيات(58) .

ج ـ استيعاب ما أثارتْه تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل ، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول ، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ، ومن نقاط فراغ ، أي البدء من واقع الحياة البشرية ، وحَمْل التجربة البشرية إلى القرآن ، والتوحيد بينهما ، لا بمعنى تحميل هذه التجربة على القرآن ، وتأويل النص طبقاً لها ، وإنّما بمعنى أنّ المفسِّر يقوم بعملية يوحّد فيها بين التجربة والنص في سياق بحث واحد ، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق ويستنطق موقف القرآن تجاه هذه التجربة(59) .

د ـ استخلاص أوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات ، وتحليل ودمج وتركيب المدلولات ؛ بُغْيَة الوصول إلى مركّب نظري قرآني(60) ، تنتظم في إطاره المدلولات التفصيلية باتّساق متناغم(61) .

على هذا الضوء يكتسب التفسير الموضوعي معنى لا تندرج تحته الكثير من المحاولات التي عدّها مؤلّفوها نماذج لهذا التفسير ؛ لأنّها لم تبلغ أو لم تهتدِ للنظرية القرآنية ، وتوقّفت عند صياغة المفهوم القرآني فحسب .

4 ـ التفسير الاجتماعي :

تناول المفسّرون في العصر الحديث مشكلات الحضارة ، والانحطاط والتخلّف ، وتفشّي الأُمِّيّة ، والجهل ، والمرض ، والفقر ، ومصادرة الحرّيات ، والظلم والاستبداد ، وغياب الدور الاجتماعي للمرأة ، وغيرها من الأبعاد الغائبة في معظم آثار السابقين . واقترن ذلك بالدعوة لتحرير التفسير من الاستغراق في المباحث اللغوية ، وسرد آراء الفِرق ، والافتراضات البعيدة عن روح القرآن .

وكانت السمة المميّزة لخطاب المصلحين في هذا العصر تتمثّل بإحياء دور القرآن في حياة الاُمّة ، واستلهام رؤيته حيال المشكلات والهموم الاجتماعيّة والثقافية والسياسية والاقتصادية للمواطن ؛ كي يعود القرآن من جديد لتوجيه المجتمع ، والحضور الفاعل في دنيا الناس .

وقد استفاق وعي نخبة من العلماء على أفكار السيد جمال الدين الذي اهتمّ بالتعامل مع القرآن الكريم من منظور اجتماعي ، وحرص على استجلاء معالجات القرآن وتدبيراته وسننه في الاجتماع البشري ، كما يتبدّى لنا من مراجعة مقالاته في مجلّة ( العروة الوثقى ) . فمثلاً خصّ جمال الدين مسألة التفسير السٌّنني بأكثر من مقال ، مضافاً إلى الإشارات والتطبيقات السننيّة في تمام كتاباته . فقد كتب موضوعاً بعنوان : ( سنن الله في الأُمم وتطبيقها على المسلمين ) ، كشف فيه عن قوانين النهوض والانحطاط في الاجتماع البشري ، وحثّ على ضرورة إدراك الاُمّة ووعيها الدقيق لهذه القوانين ، إذا ما أرادتْ المساهمة في صناعة التاريخ(62) .

وفي فترة لاحقة سعى تلميذه محمّد عبده لتطوير هذا المنحى في فكر اُستاذه ، فتوسّع في بيان جذور السنن في القرآن الكريم في تفسيره ، ولم يقتصر محمّد عبده على ذلك ، بل دعا لتدوين علم جديد يعنى بفقه السُّنن ، ووجد أنّ تخلّف المسلمين اليوم يبرّر تدوين مثل هذا العلم ، فمثلما برّرتْ حاجات الاُمّة في الماضي تدوين علوم اُصول الدين والفقه وغيرهما ، فإنّ المتطلّبات الجديدة تقضي ببناء علم السُّنن(63) .

وفيما بعد وجد فقه السنن تطبيقات ناضجة له في أعمال مالك بن نبي ، التي عالجتْ مشكلات الحضارة والعوامل النفسية والاجتماعيّة لتطوّر الأُمم وانحطاطها(64) . وهكذا تحدّث الشهيد مرتضى المطهّري عن المصير المشترك للاُمّة وسنن اعتلائها وسقوطها في القرآن الكريم ، وبيّن شمول هذه السنن ودوامها متى ما توفّرت أسبابها وشروطها(65) . واستخلص الشهيد الصدر أشكال السنن التاريخيّة في القرآن ، وحلّل في سياق بحثه عن نماذجها عناصر المجتمع في القرآن وموقع الدين في هذه العناصر ، وانتهى إلى صياغة قوانين الثورة في ضوء ما يقرّره التفسير السنني(66) .

كذلك عالج أشهر المفسّرين في العصر الحديث مشكلات الاجتماع الإسلامي ، في ضوء ما يشي به النص القرآني ، وحرصوا على استنطاق الآيات القرآنية واستكشاف رؤية القرآن ومعالجاته لهذه المشكلات .

كما يتجلّى ذلك في تفسير ( التحرير والتنوير ) للشيخ محمّد الطاهر بن عاشور ، الذي عمل فيه على استيحاء مقاصد القرآن وأهدافه ، وهي المقاصد التي خصّص لها المقدّمة الرابعة من المقدّمات العشر الممهّدة لتفسيره ، ودعا فيها المفسّر إلى استقراء المقاصد وبيانها في التفسير ، والقارئ إلى طلب المقاصد عوض الوقوف الجامد عند الجزئي من معاني وألفاظ القرآن(67) .

أمّا تفسير ( تفهيم القرآن ) للشيخ أبي الأعلى المودودي ، فقد تلوّن بطبيعة الحياة الحركية لمؤلّفه ، وغدا بمثابة سجل لجهاده الدؤوب ، وأنماط العوائق والاستفهامات التي اكتنفتْ حركته ، ولعلّ ذلك هو الذي جعل المودودي يشير في مقدّمة تفسيره إلى أنّ الإنسان إنّما يستطيع أنْ يتدبّر القرآن ويفهمه فهماً سليماً ، في الوقت الذي ينهض فيه ويبدأ الدعوة إلى الله ، وهنا سينال تربية تقوده إلى سلوك خاص ، يصطلح عليه المودودي ( السلوك القرآني ) ، ويتّسم هذا السلوك بوفرة المنازل في رحلة السالك ، إذ يلتقي في كلّ مرحلة من رحلته بآيات وسور تنبئه أنّه نزل في هذه المرحلة ، فتفيض عليه ما يلزمه من زاد(68) .

وبموازاة التجارب المذكورة في التفسير ، نطالع تجربة رائدة جسّدت النموذج الأمثل للتفسير الاجتماعي ، نهض بها السيّد محمود الطالقاني في إيران ، فمنذ عام 1939 تقريباً شرع الطالقاني بدروس لتفسير القرآن ، ولم يقتصر على تلك الدروس ، وإنّما انطلق في مواعظه وخطبه على المنبر من القرآن ، وتوكّأ في دعوته لإقامة القسط والعدل ، وشجب الطغيان والظلم ، على مفاهيم القرآن . فاصطبغ التفسير لدى الطالقاني بصبغة المقاومة والثورة ومناهضة الاستبداد ، ممّا أثار حفيظة البعض الذين فوجئوا بتوظيفه للقرآن في بعث الحياة واستنهاض المجتمع ؛ لأنّ هؤلاء ألفوا القرآن يوظّف في حالات موت الإنسان ، أو دفنه ، أو تلقينه تحت الثرى ، أو إقامة العزاء عليه ، فاقترن الكتاب الكريم لديهم بالموت والأموات ، ولم يألفوا أيّة صلة له بالحياة والأحياء ، حسب تعبير السيّد الطالقاني(69) .

ويبدو المدلول الاجتماعي للقرآن بأجلى صورة في تفسير ( الكاشف ) للشيخ محمّد جواد مغنية الذي قال عن تفسيره : ( حاولت أنْ أُطبّق آيات القرآن على حياتنا ، وأربطها بأفعالنا ما استطعتُ )(70) . وأشبعه بالمشاغل والهموم اليومية للمجتمع ، وعبّر عن رؤية القرآن حيالها ببيان ميسّر يفهمه كل أحد ، ولم يتكلّف فيه لغة خاصّة بالنخبة ؛ ولهذا كان تفسير ( الكاشف ) من أوفر التفاسير حظاً من الانتشار بين القرّاء .

بقي أنْ نقول إنّ هذه الإشارات العاجلة لم تهدف إلى رصد الآثار الهامّة في التفسير ، وإنّما أرادت أنْ تعرّف بأبرز الاتجاهات الحديثة في التفسير ، فاقتبست أمثلة وألمحتُ إلى بعض التفاسير بإجمال .

كما أنّها ليست بصدد نقد وتقويم التفاسير أو الاتجاهات الحديثة في التفسير ، وإنّما توخّت الإلمام بشيء من بواعث نشأة هذه الاتجاهات ومسارها ، حسب ما يتطلّبه التمهيد لدراسة بعض أنواع التفسير الجديدة التي يضمها هذا العدد .

ـــــــــــــــــــ

(*) نقل وتنسيق قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السّلام) للتراث والفكر الإسلامي ، من موقع : مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد .

(1) حدّثني المرحوم عبد الحميد العلوچي رئيس تحرير مجلّة المورد : أنّه جمع ما يقارب مليوني عنوان كتاب ومقالة في الدراسات القرآنية ، مما كُتب بمختلف اللغات ، منذ عام 1952 إلى عام 1992 ، وهو يَعُدّ لموسوعته في الدراسات القرآنية ( الخزانة القرآنية ) ، لكنّه غادر الحياة قبل أنْ ترى هذه الموسوعة الببليوغرافية النور .

(2) السيّد محمّد حسين الطباطبائي : الميزان في تفسير القرآن : بيروت : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، 1411 ﻫ ـ 1991 م ، ج1: ص10 .

(3) قدري قلعجي . ثلاثة من أعلام الحرية : جمال الدين الأفغاني ، محمّد عبده ، سعد زغلول ، بيروت : شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، 1994م ، ص20 .

(4) محمد باقر المجلسي . بحار الأنوار . ج92 : ص15 .

(5) الشهيد مرتضى المطهّري : التعرّف على القرآن : ترجمة : محمّد جواد المهري ، طهران : 1982م ، ص26 .

(6) د . طه جابر العلواني : الجمع بين القراءتين : قراءة الوحي وقراءة الكون ، القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1417ﻫ ـ 1996م ، ص15 .

(7) ذكر هذا الحديث الشيخ جعفر السبحاني في كتابه : مفاهيم القرآن : ج1 ، ص19 . عن كتاب : النواة في حقل الحياة . لمفتي الموصل الشيخ العبيدين .

(8) د . طه العلواني : مصدر سابق : ص18 .

(9) جمال الدين الأفغاني : الأعمال الكاملة : تحقيق : د . محمّد عمارة ، بيروت ، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر ، 1981م ، ج2 ، ص67 .

(10) عبد القادر المغربي : جمال الدين الأفغاني ، ذكريات وأحاديث : القاهرة ، دار المعارف ، 1948م ، ص27 .

(11) الإمام علي بن أبي طالب : نهج البلاغة : جَمَعَهُ : الشريف الرضي ، خطبة 198 ( في صفة القرآن ) ، فقرة 28 .

(12) عبد القادر المغربي : مصدر سابق : ص61 .

(13 ـ 21) جمال الدين الأفغاني ، ومحمّد عبده : العروة الوثقى : بيروت ، دار الكتاب العربي ، ص53 ، 70 ، 128 ، 152 ، 169 ، 182 ، 145 ، 120 .

(22) لاحظ الموارد الأخرى في : العروة الوثقى : الصفحات : 63 ، 79 ، 107 ، 155 ، 156 ، 162 ، 166 ، 337 .

(23) محمّد عبده : الأعمال الكاملة : دراسة وتحقيق : د . محمّد عمارة : بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ج1 : ص589 .

(24) المصدر السابق : ص28 .

(25) محمّد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار : بيروت ، دار المعرفة ، ج1: ص17 .

(26 ـ 28) المصدر السابق : ص19 ـ 20 .

(29) محمّد البشير الإبراهيمي : ( خصائص التفسير الباديسي ) : تصدير لكتاب تفسير ابن باديس ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1995م ، ص20 .

(30) توفيق محمّد شاهين . ( تعريف بالإمام عبد الحميد بن باديس ) : نفس المعطيات السابقة ، ص 13 .

(31) أسعد جيلاني : أبو الأعلى المودودي : فكره ودعوته : ترجمة : د . سمير عبد الحميد إبراهيم : لاهور : 1978م ، ص234 .

(32) إسماعيل الحسني : نظرية المقاصد عند الإمام محمّد الطاهر بن عاشور : فيرجينيا ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1995م ، ص91 .

(33) السيد محمّد حسين الطهراني : مهرتابان ( بالفارسية ) : ص41 .

(34) السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر : المدرسة القرآنية : بيروت ، دار التعارف للمطبوعات ، 1981م ، ص18 .

(35) أبو حامد الغزالي : جواهر القرآن : ص30 .

(36) الفخر الرازي : التفسير الكبير : (سورة الأعراف : الآية 54 ) ومواضع أخرى .

(37) بدر الدين الزركشي : البرهان في علوم القرآن : ج2 ، ص154 ـ 155 ، 181 .

(38) جلال الدين السيوطي : الإتقان في علوم القرآن : ج2: ص125 ـ 129 .

(39) طنطاوي جوهري : الجواهر في تفسير القرآن : ج1: ص2 ـ 3 .

(40) د . محمود البستاني : القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي : ص14 .

(41) د . عفت محمّد الشرقاوي : اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث : ص278 .

(42) دائرة المعارف الإسلاميّة : ( مادّة التفسير ) : ص368 ـ 374 .

(43) د . عائشة عبد الرحمان ( بنت الشاطئ ) : التفسير البياني للقرآن : القاهرة ، دار المعارف ، ص10 ـ 11 .

(44) د . محمّد عبد الله دراز : النبأ العظيم : الكويت ، دار القلم ، ص155 .

(45) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم : صدر عن دار الشروق ، في 560ص ، سنة 1996م .

(46) المصدر السابق : ص5 .

(47) محمّد عزّة دروزة : القرآن المجيد : بيروت ، المكتبة العصرية ، ص 199 ـ 204 .

(48) محمد المبارك : من منهل الأدب الخالد : بيروت ، دار الفكر ، ص 6 ـ 8 .

(49) سيّد قطب : التصوير الفني في القرآن : القاهرة ، دار الشروق ، ص 34 ـ 35 .

(50) أمين الخولي : ( مادّة التفسير ) في ، دائرة المعارف الإسلاميّة ، ج 5 : ص 368 ـ 369 .

(51) د . محمّد إبراهيم شريف : اتجاهات التجديد في تفسير القرآن في مصر : ص 597 .

(52) د . محمّد أحمد خلف الله : الفنّ القصصي في القرآن : ص 1 .

(53) د . محمد عّبد الله درّاز : دستور الأخلاق في القرآن : ص 8 ـ 10 .

(54) السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر : المدرسة القرآنية : ص 22 .

(55) المصدر السابق : ص 23 ـ 24 .

(56) المصدر السابق : ص 27 .

(57) (60) المدرسة القرآنية : ص 28 ، 29 ، 27 ، 19 .

(61) للتعرّف على أسس المنهج النظري لدى الشهيد الصدر ، لاحظ مقالنا : ( منهج التأصيل النظري في فكر الإمام الصدر ) ، في كتاب : محمّد باقر الصدر : دراسات في حياته وفكره ، لندن ، دار الإسلام ، 1996 ، ص 127 ـ 147 .

(62) جمال الدين الأفغاني : الأعمال الكاملة : ج 2 : ص 55 ـ 60 .

(63) محمّد هيشور : سنن القرآن في قيام الحضارة وسقوطها : القاهرة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1996م ، ص 9 .

(64) المصدر السابق : ص 124 ـ 131 . ( صدرتْ مؤلّفات مالك بن نبي في سلسلة تحت عنوان : مشكلات الحضارة ) .

(65) لاحظ كتابي : المجتمع والتاريخ ، وفلسفة التاريخ : للشهيد مرتضى مطهّري .

(66) المدرسة القرآنية : ص 39 ـ 238 .

(67) محمّد الطاهر بن عاشور : التحرير والتنوير : ج 1 : ص 38 ـ 45 .

(68) أسعد جيلاني :