فصول في سيرة الإمام الحسن المجتبى(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد
۱- الحسنُ المجتبى(ع) جدُّه رسول الله (ص) وأبوهُ علي بن أبي طالب وصِيُّ رسول الله (ص) وأمُّه فاطمة سيِّدة نساء العالمين وأخوه الحسين الشهيد، وهما كما أفاد الرسول الكريم (ص) “سيِّدا شباب أهل الجنَّة”، “وهما خير أهل الأرض”.
۲- وُلِدَ الحسن المجتبى (ع) في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك في السَّنة الثالثة من الهجرة النبوية في مدينة الرسول (ص) المنوَّرة، وحينما وُلِدَ تصدَّى الرسول (ص) بنفسه بإجراء سُنَنِ الولادة عليه فأذَّن وأقام في أذنيه وسَرَّاه وأَلبَاه بِرِيقه وضمَّه إلى صدره ثمَّ رفع يديه بالدُّعاء قائلاً: “اللهم إنِّي أُعيذه وذرِّيَّته من الشيطان الرجيم …”. ثمَّ سمَّاه “الحسن” وأَخبر أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد سمَّاه بذلك.
۳- الحسن المجتبى (ع) هو أحد مَن نزلت فيهم آية التَّطهير وآية المباهلة وآية المودَّة وسورة الدهر وهو مِن الثَّقلين اللَّذين خلَّفهما رسول الله (ص) في أمَّته وأمر بالتَّمسُّك بهما وأخبر أنَّهما لن يفترقا حتَّى يَرِدا عليه الحوض، وهو من الَّذين شبَّههم رسول الله بسفينة النَّجاة والَّتي يهوى ويغرقُ كلُّ مَن يتخلَّف عنها ثمَّ هوَ إمامٌ قام أو قعد كما أفاد رسول الله(ص). هذا وقد نصَّت الروايات الكثيرة الواردة عن رسول الله (ص) والأئمَّة (ع) على إمامته بعد عليّ بن أبي طالب(ع).
۴- امتدَّ عمره الشريف ثمانية وأربعين سنةً قضى سبعًا منها أو تزيد مع جدِّه رسول الله (ص) وقضى ثلاثينَ مِنها مع أبيه أمير المؤمنين (ع) واطَّلع بدور الإمامة بعده فكانت سِنينُها عشرًا استشهد بعدها مسمومًا، وكان قد دَسَّ إليه السمَّ معاوية سنة خمسين للهجرة، ودُفِن (ع) في بقيع الفرقد بعد أحداثٍ مؤلمةٍ وقعت أثناء تشييع جنازته.
۵- بقي الإمام (ع) منصرفًا عن شؤون السياسة والحكم طيلة خلافة الخلفاء الثلاثة وكان جُلُّ اهتمامه في تلك المرحلة يتمركز في العمل على تربية الأمّة وتعليمها أصول العقيدة وتفسير القرآن وسنَّة الرسول الكريم(ص). ورغم ذلك ظلَّ مراقبًا لما كان يدور من أحداث، وكان يستثمر كلَّ فرصة للتأكيد على انحراف الخلافة عن المسار الذي رسمه رسول الله (ص).
۶- عَمِل الإمام (ع) بجانب أبيه أمير المؤمنين وبذل جهدًا مضنيًا من أجل دَرء الفتنة التي ابتُليت بها الأمّة في أواخر خلافة عُثمان إلاّ أنَّها لم تكن لتهدأ، ذلك لأنَّها نشأت عن تراكمات ورثتها الأمّة من سياسة الماضين وغذَّتها شخصيَّات من ذوي الوزن الثقيل ثمَّ جاءت بطانة عثمان لتُشعل فتيلها فلم يكن حينئذٍ من الممكن إخمادها بل وحتَّى تطويقها فكان من نتائجها مقتل الخليفة وافتعال حروب طاعنة، ثمَّ لم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل بقيت هذه الفتنة تُلقي بظلالها القاتم على مسار التَّاريخ الإسلاميّ.
۷- بعد أن قُتل عثمان بايع المسلمون عليَّ بن أبي طالب (ع) فقبل البيعة بعد تمنُّعٍ شديدٍ منه وإصرارٍ منقطع النظير منهم، وحين قام بالأمر كان همُّه الأكبر تطويق الفتنة والتقليل من آثارها وإصلاح مسار الأمّة الذي انحرف عن خطّ الرسالة على أكثر من صعيد، فأعلن (ع) عن مشروعه الإصلاحي فكان فيما أعلن إلغاء الإمتيازات الشخصيَّة والقبليَّة والإنتصاف للمظلوم وإعادة الأمور إلى نصابها وعزل الولاة الفاسدين وإرجاع الأموال التي صُرِفت بغير حقّ إلى بيت المسلمين وتحكيم القرآن والسنَّة في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة دون استثناء أو محاباة.
هذا وقد كان الإمام الحسن المجتبى (ع) أحد أهم الأركان التي اعتمدها الإمام علي (ع) في تنفيذ وترويج مشروعه الإصلاحي فكان سنده الأكبر الذي ظلَّ يعوّل عليه في معالجة الأزمات التي كان يفتعلها المتضرِّرون من هذا المشروع.
۸- ساهم الإمام الحسن المجتبى (ع) مساهمة فاعلةً ومتميِّزة في الحروب الثلاث التي خاضها الإمام علي (ع) فكان هو الذي عبَّأ جيش الكوفة الذي واجه به عليٌّ (ع) الناكثين في البصرة. فقد استعصى على مجموعة من القادة تعبئتهم نتيجة التخذيل والتثبيط الذي كان يمارسه بعض المتنفذين في الوسط الكوفي فاضطر الإمام علي (ع) إلى بعث الإمام المجتبى (ع) إليهم يحثُّهم على القتال والمؤازرة، فعبَّأ منهم جيشًا يربوا على التسعةِ آلاف مقاتل، هذا وقد أبلى الإمام في الحروب الثلاث بلاءً حسنًا تجلَّت من خلالها بسالته ورباطة جأشه وملكاته القتالية.
۹- استشهد الإمام عليٌ (ع) وبعدُ لم يكتمل مشروعه الإصلاحي، فالأمَّة لم تكن تستوعب أبعاد نهضته أو لم تكن تقوى على التعاطي معها، وقد ذهبت بها سياسة الماضين بعيدًا عن خطّ الصمود والجديَّة التي ينبغي أن يكون عليها حَمَلةُ شعار الإصلاح، هذا بالإضافة إلى أنَّ الشرخ كان عميقًا جدًّا ومتماديًا وُمترامِيَ الأطراف، فلا تكاد جوانبه تقترب من الالتئام إلاّ وتفغر أزمةٌ يزداد بها الشرخ اتِّساعًا وامتدادا.
۱۰- رحل الإمام علي (ع) إلى ربِّه بعد أن أكَّد على الأمَّة وصية رسول الله (ص) في الحسن المجتبى (ع) وأنَّه الخليفة بالحقِّ من بعده، فنهض بالأمر مستعينًا بالله عزوجل، فكان أوَّلُ شيء أعلن عنه هو الاستمرار في الخط الذي رسمه أمير المؤمنين (ع) والذي هو امتدادُ الخط الرسالي الذي صدع به رسول الله (ص)، فلم يقبل من أحدٍ بيعةً إلاّ على شرط الكتاب والسُّنة.
۱۱- بادر الإمام الحسن(ع) بعد أنْ بايعته جميعُ الحواضر الاسلامية باستثناء الشام، بادر إلى مراسلة معاوية يحذِّره التمادي في الباطل ويأمره بالدخول فيما دخل فيه النَّاس من البيعة له (ع) إلا أنَّ معاوية ظلَّ مكابرًا ومتماديًا في غيِّه، ورغم ذلك بالغ الإمام (ع) في نصيحته وتحذيره عواقب الأمور. فلما رأى منه عدم الاستجابة ورأى منه الإصرار على الحرب بادر إلى تعبئة الأمة للجهاد وأخذ يستحثُّهم ويستنهض عزائمهم.
فقال فيما قال (ع): “إن الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرها”، ثمَّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين: “اصبروا إن الله مع الصابرين فلستم أيُّها الناس نائلين ماتحبون إلاّ بالصبر على ماتكرهون …إنَّه بلغني أن َّمعاوية بلغه أنَّا كُنَّا ازمعنا المسير اليه فتحرك لذلك فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنُّخيلة”.
۱۲- لم يلقَ الإمام استجابةً كافية، فلم يذهب إلى النُّخيلةِ إلا عددٌ محدود بالنسبة إلى جيش معاوية ورغم ذلك كان الإمام والمخلصون من قوادِه يستحثون النَّاس ويستنهضون عزائمهم إلاّ أنَّ الوَهن قد تمكَّن من قلوبهم. ورغم محدودية مَن خرج إلى النُّخيلة بالقياس إلى جيش الشَّام ظلَّ الإمام متمسِّكا بخيار المواجهة إلى أن دبَّ الوهن في صفوف معسكره نتيجة الخيانات التي صدرت من بعض قواد جيشه، لذلك أخذت قطاعاتٌ من جيشه تنسحب في جنح الظلام إمَّا رغبةً في العافية أو للعطايا التي كان يمنيِّهم بها عملاء الجهاز الأموي.
فكان جيشه مهلهلاً متهرِّءً، هذا بالإضافة إلى أن رؤساء العشائر قد مُلئت غَرَارهم ذهبًا وفِضة، فلذلك أبدَوا لمعاويةَ استعدادهم في أن يغتالوا الإمام أو يحملوه مصفَّدًا إلى الشام. فلم يكن الإمام يأمن على نفسه حتى أنَّه كان يخرج للصلاة متدرِّعًا، وقد تجاسر جمعٌ منهم على اقتحام خيمته وسلب متاعها، وتمادى بعضهم فطعن الإمام خلسة في فخذه وكان يقصد قتله.
۱۳- توالت الخيانات في معسكر الإمام الحسن (ع) فبعد أن انسلّ عبيد الله بن العباس ليلاً ودخل في معسكر الشام ومعه ثمانية آلاف التحق بمعسكر معاوية قائد من كندة كان قد بعثه الإمام الحسن (ع) في أربعة آلاف على جبهة الانبار وبعده التحق بمعاوية قائد من (مراد) في أربعة آلاف.
۱۴- بعدئذٍ وبعد أن انهارت معنويات البقية الباقية من جيش الإمام (ع) نتيجة الخيانات المتوالية والإشاعات التي كان يبثها عملاء الجهاز الأموي عرض معاوية بواسطة وفوده على الإمام (ع) الصلح بعد أن حملوا إليه كتب رؤساء العشائر والتي عبّروا فيها عن ولائهم لمعاوية واستعدادهم لاغتيال الامام الحسن (ع) أو تسليمه.
وجاؤا له بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها بخط معاوية وختمه(إن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ماشئت فهو لك).
۱۵- رفض الإمام الاستجابة لعروض الوفد الأموي وتوجه إلى ما بقي من جيشه وخطب فيهم قائلاً:
( إنّ أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبى السيوف وإن أردتم الحياة قبلنا الصلح وأخذنا لكم الرضا) فناداه الناس من كل جانب (( البقية البقية)).
۱۶- وهنا وجد الإمام نفسه بين خيارين إمّا الاستمرار في خيار الحرب والمواجهة وإمّا القبول بعقد الصلح.
أما الخيار الأول فنتيجته العسكرية محسومة لصالح معاوية بلا ريب ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل من المحتمل قوياً أن يتم اغتيال الإمام (ع) من قبل المندسين في معسكره وحينئذٍ يتنصل معاوية من قتله فلا يكون لشهادته من صدىً أو أن يتم تسليمه لمعاوية أسيراً فيعفو عنه وهو ما يوجب دخول الوهن الشديد على الخط الرسالي الذي كان يُمثِّله الإمام (ع) ويظهر معاوية في مظهر الحليم فيكون أكثر قدرة على التضليل ويكون سلطانه أكثر استحكاماً بعد أن لم يكن للإمام حينذاك فرض شروطه على معاوية لأنه في موقع المنهزم الذي منَّ عليه معاوية بالحياة.
وهكذا لو انهزم جيش الإمام، وأما الخيار الثاني فيحتفظ للإمام بحقه في العودة للمواجهة لو نقض معاوية بنود الصلح كما يُظهره في مظهر المخادع الناقض لعهود الله عز وجل فحتى لو لم يتمكن الإمام (ع) من تعبئة جيش لمواجهته فإن التأريخ سوف يدينه وسوف يحتفظ الخط الرسالي بقداسته، ولو التزم معاوية ببنود الصلح فإنّ الأمر سيعود إلى نصابه بعد وفاة معاوية، فإن الصلح نصَّ على أن الأمر بعده يكون للإمام الحسن (ع) وإلا فللحسين (ع).
۱۷- قبِل الإمام (ع) بالصلح دون أن يعطي لمعاوية أية شرعية لأنه كشف للأمة والتاريخ أسبابه وأن معاوية لم يكن جديراً بهذا المنصب إلاّ أن ضعف الأمة وتخاذلها عن الحق أدى للقبول بهذا الخيار الصعب.