الرجعة والمعاد الاكبر
حقيقة الرجعة وامتيازها عن التناسخ والمعاد
تختلف الرجعة في حقيقتها عن طبيعة الحياة الأُولى والولادة في دار الدنيا، كما أنّها تختلف أيضاً عن التناسخ والنسخ، وتختلف – كذلك – عن المعاد الأكبر في يوم القيامة.
والرجعة في تعريف كثير من علماء الإماميّة هي معادٌ أصغر، ولكن هناك بعض الاختلاف بين الرجعة والعَوْدِ الأصغر إلى دار الدنيا، وبين المعاد الأكبر.
ويمكننا تعريف الرجعة بكلمات مضغوطة ومختصـرة وهي: أنّ الرجعة عبارة عن عَودة الإنسان إلى دار الدنيا بجسده الدنيوي الذي جُعل في القبر – يعني خروج الإنسان من القبر إلى دار الدنيا – هذه هي الرجعة، بخلاف القيامة الكبرى، فهي رجوع الإنسان بجسده من القبر، ولكن ليس إلى دار الدنيا، بل إلى الدار الآخرة.
فإذن هناك اشتراك بين المعاد الأكبر الجسماني والرجعة في أنّ الرجوع بالجسم، ولكن تختلف الرجعة كمعاد أصغر عن المعاد الأكبر، بأنّ الرجعة رجوع الإنسان بجسمه إلى دار الدنيا، أمّا في المعاد الأكبر، فرجوعه إلى الدار الآخرة.
فيكون الرجوع التكويني في القيامة بالجسم إلى دار الآخرة، بينما في الرجعة يكون الرجوع إلى دار الدنيا، وهي الأرض، أرض الدنيا، فكلٌ منهما رجوع بالجسم، ولكن الرجوع مختلف.
هذه هي جهة افتراق حقيقة الرجعة عن المعاد الأكبر.
وأمّا فرق الرجعة عن التناسخ، أو عن الحياة الأُولى حين الولادة، فهو يكمن في كون الحياة الأُولى – التي تولَّدَ منها الإنسان – عبارة عن خروج وولادة من أرحام الأُمّهات ونطف الآباء، بينما في الرجعة عَود الإنسان بجسمه من القبر.
ومِن ثَمَّ كان هناك اختلاف من هذه الجهة أيضاً بين الرجعة والتناسخ.
طبعاً التناسخ معتقد باطل، بينما الرجعة عقيدة حقّة، والتناسخ على اختلاف مذاهب القائلين به له تعريف مشترك: وهو عبارة عن عَود الإنسان إلى نطفة جديدة في رحم جديد، سواء كانت نطفة في رحم إنسان أو رحم حيوان، أو كانت بذرة نبات أو طينة جماد، فهنا التناسخيّة يقولون: إنّ العَود إمّا إلى إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد، والمهمّ هو أن تتعلّق الروح العائدة من القبر لا بالجسم السابق، بل بمادّةٍ جسمانيّة جديدة أُخرى، وتبدأ دورة جديدة، إمّا دورة جماديّة أو دورة نباتيّة أو دورة إنسانيّة، تبدأها من جديد.
وهذا هو الفرق الثاني بين حقيقة وماهية التناسخ وبين ماهية الرجعة.
رجعة الإمام الحسين عليه السلام ببدنه إلى الدنيا من قبره الشريف
بعد معرفة الرجعة بشكل عام، فإنّ رجعة سيّد الشهداء هي رجعة أيضاً ببدنه سلام الله عليه من قبره الشريف إلى دار الدنيا، وهو أوّل المعصومين رجوعاً.
فقد روى الحسن بن سليمان الحلّي في مختصر بصائر الدرجات، بسنده عن محمد بن مسلم، قال: (سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدّثان جميعاً – قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث – أنهما سمعا أبا عبد الله عليه السلام يقول: «أول مَن تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، الحسين بن علي عليهما السلام». (مختصر بصائر الدرجات:24)
وروى في المختصر أيضاً، بسنده عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إنّ أول مَن يرجع لَجاركم الحسين عليه السلام، فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر». (مختصر بصائر الدرجات:22)
ويرجع في أواخر حياة ودولة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف عند الظهور، يرجع سيّد الشهداء إلى دار الدنيا من قبره، ويكون هناك تزامن مع أواخر دولة الإمام المهدي، ثمّ بعد فترة يُقتل الإمام الثاني عشر وتكون الإمامة لسيّد الشهداء عليه السلام.
فقد أخرج الكليني في الكافي، بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في قوله تعالى: {ثُمَّ رَددنا لَكُمُ الكَرَةَ عَليهِمْ} – قال: «خروج الحسين عليه السلام في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهب، لكل بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه، وأنّه ليس بدجال ولا شيطان، والحجة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنّه الحسين عليه السلام، جاء الحجّةَ الموتُ، فيكون الذي يغسّله ويكفّنه ويحنطه ويُلحده في حفرته الحسين بن علي صلى الله عليه وآله، ولا يلي الوصي إلا الوصي». (الكافي الشريف:8/206
وجاء في مختصر بصائر الدرجات عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «ويقبل الحسين عليه السلام في أصحابه الذين قُتلوا معه، ومعه سبعون نبياً كما بعثوا مع موسى بن عمران، فيدفع إليه القائم عليه السلام الخاتم، فيكون الحسين عليه السلام هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواريه في حفرته». مختصر بصائر الدرجات:48ـ49)
غاية الرجعة وأهدافها
إنّ غايات الرجعة وفلسفتها بصورة عامّة تكمن في كون هذه الحياة الدنيا قد قدّر الله تعالى لها أن تبلغ بأهلها كمالات عالية، ولكن جور الظالمين، والفساد في الأرض حجب هذا المشروع الإلهي؛ وبالتالي فإنّ كلّ فرد له كماله المنشود الذي لا بدّ أن يصل إليه، والرجعة عبارة عن فتح باب الفرصة مرّة أُخرى؛ لتكامل كل إنسان وبلوغه الكمال المنشود، ولتُفتح له فرص التكامل وفرص الخير في ظل دولة العدل؛ لأنّه من دون دولة العدْل لا يمكن أن تُفتح للإنسان الفرصة والمجال ليبلغ كماله، ولا المجتمعات ولا الشعوب أيضاً تكون قادرة على نيل كمالاتها، بينما في ظل دولة العدل يمكن حصول ذلك لكلّ إنسان، بل إنّ هذا قانون عامّ، يُلقي بظلاله على كل البيئات، ولا يختصّ بالبيئة الإنسانية، فحتّى بيئة الجنّ والنباتات والحيوانات والطبيعة وكل البيئات الأُخرى، لا يمكن أن تبلغ الكمال المنشود إلاّ في دولة العدل.
فلسفة رجعة الإمام الحسين عليه السلام
إنّ رجوع سيد الشهداء لها ميزان وضابطة ومِنوال على منوال رجوع بقيّة أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهي أنّ الله عز وجل أمر كلَّ إمام من أئمة أهل البيت أن يقوم بمهمّة خاصّة في الأرض، وهذا هو الذي ورد في رواية إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أنّه قَالَ: «إِنَّ الْوَصِيَّةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ كِتَاباً – أي مكتوباً بخط إلهي مشاهد من عالم الأمر كما أن جبرئيل عليه السلام كان ينزل عليه في صورة آدمي مشاهد من هناك – لَمْ يُنْزَلْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله كِتَابٌ مَخْتُومٌ إِلَّا الْوَصِيَّةُ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ وَصِيَّتُكَ فِي أُمَّتِكَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: أَيُّ أَهْلِ بَيْتِي يَا جَبْرَئِيلُ! قَالَ نَجِيبُ اللَّهِ – أي من نجبائه بمعنى الكريم الحسيب، وقد كنى به عن أمير المؤمنين عليه السلام – مِنْهُمْ وَذُرِّيَّتُهُ لِيَرِثَكَ عِلْمَ النُّبُوَّةِ كَمَا وَرَّثَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَمِيرَاثُهُ لِعَلِيٍّ عليه السلام وَذُرِّيَّتِكَ مِنْ صُلْبِهِ، قَالَ وَكَانَ عَلَيْهَا خَوَاتِيمُ قَالَ: فَفَتَحَ عَلِيٌّ عليه السلام الْخَاتَمَ الْأَوَّلَ وَمَضَى لِمَا فِيهَا – أي أدى وتمثّل لما أمر به فيها – ثُمَّ فَتَحَ الْحَسَنُ عليه السلام الْخَاتَمَ الثَّانِيَ وَمَضَى لِمَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ وَمَضَى فَتَحَ الْحُسَيْنُ عليه السلام الْخَاتَمَ الثَّالِثَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنْ قَاتِلْ فَاقْتُلْ وَتُقْتَلُ وَاخْرُجْ بِأَقْوَامٍ لِلشَّهَادَةِ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ إِلَّا مَعَكَ قَالَ فَفَعَلَ عليه السلام فَلَمَّا مَضَى دَفَعَهَا إِلَى عَلِيِّ ابْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام قَبْلَ ذَلِكَ فَفَتَحَ الْخَاتَمَ الرَّابِعَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنِ اصْمُتْ وَأَطْرِقْ – كناية عن عدم الالتفات إلى ما عليه الخلق من آرائهم الباطلة وأفعالهم الشنيعة – لِمَا حُجِبَ الْعِلْمُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَضَى دَفَعَهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عليهما لسلام فَفَتَحَ الْخَاتَمَ الْخَامِسَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنْ فَسِّرْ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدِّقْ أَبَاكَ وَوَرِّثِ ابْنَكَ وَاصْطَنِعِ الْأُمَّةَ – أي أحسن إليهم وربّهم بالعلم والعمل – وَقُمْ بِحَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلِ الْحَقَّ فِي الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَلَا تَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَفَعَلَ ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَنْتَ هُوَ! قَالَ: فَقَالَ مَا بِي إِلَّا أَنْ تَذْهَبَ يَا مُعَاذُ فَتَرْوِيَ عَلَيَّ – أي ما بي بأس في إظهاري لك بأني هو، إلا مخافة أن تروي ذلك عليّ فأشتهر به فأقتل بسببه – قَالَ فَقُلْتُ: أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي رَزَقَكَ مِنْ آبَائِكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ أَنْ يَرْزُقَكَ مِنْ عَقِبِكَ مِثْلَهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ قَالَ قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ يَا مُعَاذُ قَالَ فَقُلْتُ: فَمَنْ هُوَ جُعِلْتُ فِدَاكَ! قَالَ: هَذَا الرَّاقِدُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ – أي الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام – وَهُوَ رَاقِدٌ». (الكافي الشريف:1/280-281)
فقد نزل على النبيّ كتاب مختوم بخواتيم، خاتم فيه ما أُمِرَ به النبيّ صلى الله عليه وآله، وخاتم فيه ما أُمر به أمير المؤمنين عليه السلام، وهكذا الصدّيقة فاطمة والحسن والحسين وبقيّة الأئمّة عليهم السلام، فكلُّ إمام ومعصوم يعمل بما خُتِمَ في ذلك الكتاب.
إلاّ أنّ الظالمين حالوا بين أئمة أهل البيت عليهم السلام وبين القيام بهذه المهمّة والمسؤولية.
ومِن ثَمَّ في رجعتهم عليهم السلام يُنجزون ما أمرهم الله به من مشاريع إلهيّة عملاقة على وجه الأرض، هذه المشاريع هدفها يكون عبارة عن الوصول للكمال المنشود في المستويات كافّة.