الوالدان و الولد حقوق و واجبات
بر الوالدين
أولى الإسلام الحنيف – ضمن دائرة اهتمامه ببناء العلائق الاجتماعية المتينة – فصول علاقة الولد بوالديه كبير اهتمامه، وعميق عنايته، بل خصها من ذلك بما ميّزها عن سواها من مفردات المنظومة الاجتماعية، ووضع لهـا أسـساً وقواعد رصينة تستوعب كل جزئياتها، وتشيد منها نظاماً اجتماعياً وأخلاقياً فاضلاً متكاملاً.
إن المتتبع للنصوص الواردة عن رسول اللّه الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام في هذا المضمار، يجوب أفـقاً واسـعاً حاشداً بالتوجيهات السديدة، والاضاءات الكاشفة الهادية إلى مشارع الحق، وسواء سبيل الرشد والصواب.
ولا تفوتنا الإشارة – وهي جديرة بالذكر – أن القرآن الكريم قد عُني أيّ عناية ببيان هذه الحقيقة، وإبراز مـا لهـا من دور بالغ، وقيمة مثلى، في تكوين الصرح الأخلاقي في هيكل الشريعة الإسلامية المقدسة، وأجلى أوجه تلك الحقيقة في وحي اللّه المبين، أن المولى تبارك وتعالى قد قرن أمر توحيده بأمر بـر الوالدين والإحـسان إليهما في موارد قرآنية عـدة بـلغت أربـعة موارد، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا…}(الإسراء/22) وضمّ لزوم شكرهما إلى وجوب شكره في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}(لقمان/14)، وذلك واضـح في دلالته على كبير حقهما وحرمتهما في نظر الشـارع الأقـدس.
1. عن أبي أمامة أن رجلاً قال: (يا رسول اللّه، ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال: «هما جنّتك ونارك»).
تضمن هـذا الحـديث الشـريف دلالة عميقة، وإشارة دقيقة; فإن السؤال كان عن حق الوالدين عـلى ولدهما، ولكن الجواب لم يأت بذكر شيء من ذلك الحق المسؤول عنه، وإنما أوحى النبي الكريم صلى الله عليه وآله لسائله أن شـأن الولد مـع والديه إما طريق يسلك به إلى الجنة، وذلك إذا برّ بهما وأحسن إليهما، أو باب يـفضي بـه إلى النار، إذا عقّهما ولم يقم بما يلزمه لهما، وهذا الجواب أبلغ في الأداء، وأجلى في البيان.
2. وعنه صلى الله عـليه وآله قال: «مـن سـرّه أن يمدّ له في عمره ويزاد في رزقه فليبرّ والديه، وليصل رحمه».
3. وعن عـبد اللّه بـن مـسعود قال: (سألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله: أي العمل أحب إلى اللّه؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قـال: «بـر الوالدين»).
عبّر هذا النص النبوي عن حقيقتين كبيرتين، فكما أن أفضل العلائق الإيمانية التي تـربط الإنـسان بربه وتشده إليه هي الصلاة; لما فيها من توجّه مباشر ومستمر إلى اللّه عزّ وجل، وانـقطاع كامل عن كل ما سواه، كان أمثل الروابط الاجتماعية، وأولاها باحترام الإنسان وعنايته، هي صلته بـوالديه، فـهما أحق الناس ببره وإحسانه.
4. وجاء إليه صلى الله عليه وآله رجل فقال: (جـئتك أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»).
5. وعنه صلى الله عليه وآله (أنه أتـته أخـت له من الرضاعة، فلما أن نظر إليها سرّ بها وبسط رداءه لها فأجلسها عليه، ثـم أقـبل يحدّثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت، ثم جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بـها، فـقيل: يا رسول اللّه، صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟، فقال: «لأنّها كانت أبـرّ بأبيها منه»).
6. وعنه صلى الله عليه وآله قال: «رضا اللّه في رضا الوالد، وسخط اللّه في سخط الوالد».
7. قال أمير المؤمنين عـليه السـلام: «برّ الوالدين من أكرم الطباع».
إنما كان بر الوالدين من أكرمطـباع المـرء; لما فيه من الوفاء لهما، وشكرهما عـلى معروفهما، وجـزاء إحسانهما بمثله، ولا ريب أن تلك الخصال مـن مكارم أخلاق الإنسان، بل من أكرمها.
8. وعنه عليه السلام: «بر الوالدين أكبر فريضة».
9. من دعاء الإمام زين العابدين عليه السـلام لأبـويه: «اللّهم اجـعلني أهـابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طـاعتي لوالدي وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثـر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، وأستكثر برهما بي وإن قـل، واستقل بري بهما وإن كثر، اللّهم خـفض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألن لهما عريكتي، وأعطف عليهما قلبي وصيرني بـهما رفيقاً، وعليهما شفيقاً».
سلك معظم الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السـلام مسلك الهداية والتوجيه والتربية والتعليم، ومنها هذا الدعاء، الذي يفصّل فيه الإمام السجاد عليه السلام بعض أوجه معاملة الولد لوالديه، وما يلزمه أن يأخذ به في مصاحبتهما ومعاشرتهما، وأبـرز مـا في هـذا النـص الشـريف هو أن يؤثر الولد رغبة والديه ورضاهما على رغبة نفسه ورضاها، ولا يستكثر ما يقدمه في سبيل برهما وخدمتهما مهما عظم في ظـاهره، بل يعدّه قليلاً في جنب فـرضهما عليه، غيرَ واف بـما لهـما من حق لديه.
10. عـن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال: «الإحسان أن تحسن صحبتهما، وألاّ تكلفهما أن يسألاك شيئاً مـما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين».
11. وعنه عليه السلام: «بـرّوا آبـاءكم يبرّكم أبناؤكم».
12. قال الإمام الرضا عليه السلام في حديث له: «وأمر أي اللّه عزّ وجل بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه».
بر الوالدين وإن كانا فاجرين
إن ما جعله اللّه عزّ وجل للأبوين من حق لازم في عنق ولدهما، لا ينتفي بانتفاء إسلامهما أو إيمانهما; لان ما للوالدين ثابت لهما بالأصالة، ولا يخرجه عن دائرة اللزوم شيء آخر، وإن كان هو الخروج من ربقة الملة المطهرة; وذلك أنهما ينفقان من أرواحهما وأعمارهما على ولدهما بـرين كانا أو فاجرين، وهو ما يستدعي كل ذلك الحق لهما، إلاّ أن يكون طاعة لهما في غير مرضاة اللّه تعالى، فإنه «لا طاعة لهما في معصية الخالق»، كما ورد في نص الإمام الرضا عليه السلام.
1. قال الإمـام الصـادق عليه السلام: «ثلاث لم يجعل اللّه عزّ وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين».
2. وعن جابر قـال: «سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه عـليه السـلام: إنّ لي أبوين مخالفين، فقال: «برّهما كما تبرّ المسلمين ممن يتولاّنا».
3. قال الإمام الرضا عليه السلام: «برّ الوالدين واجب وإن كانا مشركين، ولا طاعة لهما في معصية الخـالق».
بر الوالدين بعد موتهما
لا يتم بـر الولد بوالديه حتى يواظب على صلتهما بعد موتهما، فليس من الوفاء لهما أن ينقطع عن ذكرهما وإيصال ما ينفعهما من عمل صالح بعد خروجهما من دار الدنيا، بل حفظ ما لَهُ صلة بـهما، حتى وإن كان ذلك براً بصديق لأحدهما; إذ ورد في توجيه نبوي آت الوصية بإكرامه.
ويلفت عناية المستقرئ لمفردات هذا الباب أن البار لا يكتب له بره حتى يدوم ذلك منه في حالي الحياة والموت لهما. أما العاق فقد يكتب باراً إذا ندم عـلى عقوقه في حياة والديه، ووصلهما بعد موتهما بما يكون براً بهما وإحساناً لهما.
1. قال رسول اللّه صلى الله عـليه وآله: «سيد الأبرار يوم القيامة رجل برّ والديه بعد موتهما».
2. ومن وصية له صلى الله عـليه وآله لرجل: «ووالديك فأطعهما وبرهما حيّين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان».
3. عـن أبي سعيد الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله إذ جاء رجل مـن بـني سـلمة، فقال: يا رسول اللّه، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نـعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلاّ بـهما، وإكرام صديقهما»).
4. قال الإمـام البـاقر عليه السلام: «إن العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عزّ وجل عاقاً، وإنه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بارّ بهما، فإذا ماتا قـضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه اللّه عزّ وجل باراً».
5. قال الإمام الصادق عليه السلام: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين أو ميتين: يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهـما وله مثل ذلك، فيزيده اللّه عزّ وجل ببره وصِلاته خيراً كثيراً».
فضل الأم وعظيم حقها
حظيت الأم بنصيب وافر من اهتمام المشرّع الحكيم، وظفرت بعناية خاصة بتأكيده حقها، وإفرادها بالذكر، سواء كان ذلك في نطاق الوحي القـرآني الشـريف، أو ضمن إطار السنة المعصومة المطهرة، «ووجه الفضل ظاهر لكثرة مشقتها وزيادة تعبها» (بحار الأنوار للمجلسي:74/49).
ويكفي لذلك بياناً قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا…}(الأحقاف/15)، كما يوضح هذه الحقيقة قول الإمام زين العابدين عليه السلام التي في رسالة الحقوق، وهو ما يمكن أن يكون فيه شرح لمضمون هذه الآية الكريمة، حيث تطرق فيه عليه السلام لذكر مـا تـعانيه الأم من أجل ولدها من مـشقة، وتـمنحه إياه من إيثار، فهي تحمله «حيث لا يحتمل أحد أحداً»، وتعطيه «من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً»; فما أعظم أن تكون الجنة تـحت قـدميها!
1. جـاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: (يا رسول اللّه، مـن أبـرُّ؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أباك»).
2. وعنه صـلى الله عـليه وآله قال: «الجـنة تحت أقدام الأمهات».
3. عن سعيد بن المسيب قال: (قال عـمر: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله على جبل، فأشرفنا على واد فرأيت شاباً يرعى غنماً له أعجبني شبابه، فقلت: يا رسول اللّه، وأي شـاب لو كان شـبابه في سبيل اللّه! فقال النبي صلى الله عليه وآله: «يا عمر، فلعله في بـعض سـبيل اللّه وأنت لا تعلم»، ثم دعاه النبي صلى الله عليه وآله فقال: «يا شاب، هل لك من تعول؟»، قال: نـعم. قـال: «مـن؟»، قال: أمي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله: «الزمها فإن عند رجليها الجنة»).
4. عـن مـعاوية بـن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: (يا رسول اللّه، أردت أن أغزو، وقد جئت اسـتشيرك، فـقال: «هـل من أم؟»، قال: نعم. قال: «فألزمها، فإن الجنة عند رجليها»).
إن تخصيص النبي صلى الله عليه وآله للأم بـالسؤال عن وجودها، دليل واضح على أن برها أفضل من بر الأب ومقدم عـليه، وأنـه أقـصر الطريقين إلى بلوغ الجنة والرضوان، ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام السجاد عليه السلام أن رجـلاً جـاء إلى النبي صلى الله عليه وآله يسأله عن توبة من أعمال قبيحة قد ارتكبها، فـسأله صـلى الله عليه وآله عمن بقي من أبويه، فقال: أبي، قال: «فاذهب فبرّه»، فلما ذهب قال صلى الله عـليه وآله: «لو كانت أمه». (بحار الأنوار:74/82)
5. من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام: «أما حق أمك فـأن تـعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقـتك بـجميع جـوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتُظلك، وتهجر النـوم لأجـلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون اللّه وتوفيقه».
لا تقل لهما أفٍّ
أف: كلمة تـضجّر وتكرّه، وحصول الضجر في نفس العبد يدعوه إلى الضعف عن أداء الحقوق، وعدم الصبر على القيام بها.
وقد ورد في الحديث المروي عن أبي عـبد اللّه الصـادق عليه السلام: «وإياك وخصلتين: الضجر والكسل; فـإنك إن ضـجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤدّ حقاً».(الأمالي:436)
وكلمة أف وردت في الآية لبيان أدنى ما يحرم عـلى الولد أن يعامل به أبويه; ولذا جاء في الحـديث الشريف: «ولو علم اللّه عـزّ وجل شيئاً أهون منه لنهى عنه».(الكافي الشريف:2/348) هذا فـكيف بـما هو أشد وأكبر، كسبّهما أو لعنهما؟
وكما نهى اللّه عزّ وجل عن قول شيء أمـر بقول شيء، وهو قوله تعالى: {..وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}(الإسراء:23)، الذي ورد في الحـديث تـفسيره بقول (غفر اللّه لكما).(الكافي:2/158)
1. قال رسـول اللّه صلى الله عليه وآله: «من الكبائر شتم الرجل والديه. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أبـاه، ويـسب أمه فيسب أمه».
2. وعنه عـليه السـلام فـي قول اللّه تعالى {…إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا…} قال: «هو أدنى الأذى حرّم اللّه فما فوقه».
3. قال الإمام الصادق عليه السـلام في الآية: «إن أضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تـنهرهما إن ضـرباك».
4. وعنه عـليه السـلام: «أدنى العقوق أفّ، ولو علم اللّه شيئاً أهون منه لنهى عنه».
5. وعنه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجل { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ…} قـال: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ بـرحمة ورقـة، ولا تـرفع صـوتك فـوق أصواتهما، ولا يدك فـوق أيديهما، ولا تقدّم قدامهما».
6. وعنه عليه السلام في قوله تعالى: {…وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} قال: «إن ضرباك فقل لهما: غفر اللّه لكما».
7. وعن الحكم قال: «قلت لأبي عـبد اللّه عـليه السـلام: إن والدي تـصدق عـليّ بـدار ثم بدا له أن يرجع فيها… فقال: «بئس ما صنع والدك، فإن خاصمته فلا ترفع عليه صوتك، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك».