الإمام الجواد و مناظراته
الحلقة الذهبية التاسعة في سلسلة الإمامة، هي بحق معجزة الإمامية ودليل على صدق دعواهم في أن الإمامة منصب إلهي دون أن يكون للبشر فيها أي مدخلية، فإمامته تشابه نبوة عيسى عليه السلام.
لقد تولى مولانا الإمام الجواد عليه السلام منصب الولاية والإمامة عن عمر لم يتجاوز سبع سنوات.
وقد سلم لذلك القريب والبعيد، ودان كل شيء له حتى الخليفة.
ولذا، لم نجد من اختلف أو تخلف عن إمامته سوى من أغشى أبصارهم العمى وغلف قلوبهم التعصب والحسد، وقد جلس بين يديه أكابر العلماء واستفاد منه أجلاء الفقهاء، دون أن يستفيد من أحد منهم أبداً – شخصيته العلمية عملاقة، ونضوج فكره بلغ غاية الكمال، وحسن أدبه علا الجمال، وبسمو أخلاقه ساوق الجلال، فقد أحيا الحق وأمات الباطل، وقد قال فيه الإمام الرضا عليه السلام: «هذا المولود الذي لم يولد أعظم بركة على شيعتنا منه».
وعن حكيمة بنت موسى بن جعفر الكاظم قالت: لما حملت أم أبي جعفر الجواد به كتبت إليه (الرضا)، جاريتك سبيكة قد علقت، فكتب إليّ (إنها علقت ساعة كذا من يوم كذا من شهر كذا، فإذا هي ولدت، فالزميها سبعة أيام.
قالت: فلما ولدته وسقط إلى الأرض، قال: «أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
والمهم صرف الكلام فيما هو المهم في ما يتعلق بمناظرات الإمام الجواد، إما لبيان الحق للناس، وإما لإقناع من حاججه، أو لإفهام من خاصمه، فعلومه الغزيرة وحكمته اللامتناهية تمثل عصا موسى التي تلقفت كل ما جاء به سحرة البلاط العباسي من فتاوى تفتقده الأصول أو علوم تحتاج إلى دليل.
لكن وللأسف، فبعد أن تبيّن الحق لسحرة موسى سجدوا لله تعالى، وسحرة الإمام الجواد أصروا على عنادهم مقتاً لأهل البيت وطمعاً في فتات البلاط العباسي، وأما مناظراته المباركة، فتتم في محورين.
أسلوب المناظرات
لقد تصدى الإمام الجواد عليه السلام للآخرين بأسلوب المناظرات للأمور التالية:
أ: إثبات إمامته
في ظل أجواء التيه والتشكيك وعدم توفر الظروف الكاملة لبيان إمامته للشيعة من قبل الإمام الرضا عليه السلام، فكان البرهان الذي يزيل كل شك وشبهة حول إمامته بأسلوب المحاورة والمناظرة.
قال الراوي: قلت لأبي جعفر الثاني: إنهم يقولون في حداثة سنك، فقال: إن الله تعالى أوحى إلى داوود أن يستخلف سليمان وهو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الله إلى داوود أن خذ عصي المتكلمين وخذ عصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم، فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت، فهو الخليفة، فأخبرهم داوود فقالوا لقد رضينا وسلمنا.
ب: إثبات علمه
لقد تعرض الإمام لحملة إعلامية قاسية من أنّه لا يفقه من الدين شيئاً، بسبب صغر سنه، ولذا كانت المناظرات مع أكابر الفقهاء والعلماء تبرز مقامه العلمي الشامخ.
يقول الإمام للراوي: إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة، فقال: {…وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.(مريم/12) {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}.(القصص/14) {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.(الأحقاف/15)
فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة.
ج: تعليم الشيعة وإرشادهم إلى الحق
تعليم الشيعة وإرشادهم إلى الحق، وإيصال العلوم إليهم، وتبليغهم الأحكام بأسلوب المناظرات والإجابة عن الأسئلة.
فقد روي أنه قد سئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة، فأجاب عليها كلها وله من العمر عشر سنوات.
د: هزيمة فقهاء البلاط وعلمائه
إنّ هزيمة فقهاء البلاط وعلمائه، لاسيما يحيى بن أكثم الذي يمثل السلطة الشرعية، حيث كان آنذاك قاضي القضاة، هي هزيمة للنظام الرسمي.
الإمام الجواد عليه السلام ومناظراته
صور من المناظرات حوار مع المأمون
عاد المأمون من أحد أسفار صيده وفي يده سمكة صغيرة، وهو في الطريق وجد مجموعة من الصبية يلعبون، فهربوا إلا واحداً منهم لم ينصرف، فلما دنا منه المأمون قال: ما في يدي؟ فقال له: «إن الله تبارك وتعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكاً صغاراً ترتفع مع الماء في الغيم، فتصيدها بزاة الملوك، فيختبرون بها سلالة النبوة»، فقال المأمون: أنت ابن الرضا حقاً.
* مع قاضي القضاة بحضور الفقهاء والعلماء والفلاسفة
عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أم الفضل من أبي جعفر عليه السلام، بلغ ذلك العباسيين، فغلظ عليهم واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الإمام الرضا عليه السلام.
ولذا اجتمع منهم فئة مع المأمون وابدوا له اعتراضهم، ودار نقاش طويل بينهم إلى أن طلب المأمون أن يمتحنوه، حتى اتفقت كلمتهم على مناظرة قاضي القضاة في زمانه يحيى بن أكثم، على أن يسأله من الفقه عما لا يتمكن من الجواب عليه ووعدوه بأموال طائلة، ثم طلبوا من المأمون تعيين يوم الاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
أقول: وهو يشبه إلى حد كبير اليوم الذي ضربه فرعون للسحرة.
وبعد أن استقر بهم المجلس، استأذن القاضي المأمون في توجيه السؤال إلى أبي جعفر، وبعد الإذن، استأذن أبا جعفر في توجيه السؤال إليه، فقال له الإمام عليه السلام: «سل إن شئت».
قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر: «قتله في حل أم في حرم؟ عالماً كان أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟ حراً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطيور كان أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان الصيد أو في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟».
فتحير قاضي القضاة وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
* مع قاتله
روى العياشي عن زرقان صاحب ابن أبي داوود قال: رجع ابن أبي داوود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم، فقلت له في ذاك، قال: لما كان اليوم من هذا الأسود أبي جعفر الجواد بن يدي المأمون. فبعد أن جمع الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في يد السارق، فمن أي موضع؟ فقلت: من الكرسوع قال: وما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد من الأصابع إلى الكرسوع. لقوله في التيمم: {…فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ…}. (النساء/43) واتفق معي على ذلك جماعة.
وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق، لأن الله تعالى يقول في الوضوء: {…وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ…}. (المائدة/6)، فدل على أن اليد إلى المرافق، فالتفت المعتصم إلى محمد ابن علي، وقال: ما تقول يا أبا جعفر؟ فقال عليه السلام: «قد تكلم فيه يا أمير»، قال: دعني مما تلكما به أي شيء عندك؟ قال عليه السلام: «إعفني من هذا». قال: أقسمت عليك بالله تعالى لما أخبرت بما عندك فيه.
فقال عليه السلام: «أما إذا أقسمت عليّ بالله، إني أقول إنهم أخطأوا فيه، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ويترك الكف».
فقال: ما الحجة في ذلك؟ قال: «قول رسول الله صلى الله عليه وآله: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع، لم يبق له يد يسجد عليها، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ…}. (الجن/18) يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، وما كان لله لم يقطع».
قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أكن حياً.
من احتجاجه عليه السلام في مجلس المأمون
إن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي: أنه (نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض).
فقال أبو جعفر عليه السلام: «…يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به، وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله قال الله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.() فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول».
ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: (أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء).
فقال عليه السلام: «وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبههما بهما».
قال يحيى: وقد روي أيضا: (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) فما تقول فيه؟
فقال عليه السلام: «وهذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسن عليهما السلام: بأنهما سيدا شباب أهل الجنة».
فقال يحيى بن أكثم: وروي (أن عمر ابن الخطاب سراج أهل الجنة).
فقال عليه السلام: «وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم ومحمداً، وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيء الجنة بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر».
فقال يحيى: قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو لم أبعث لبعث عمر).
فقال عليه السلام: «كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}() فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الأنبياء عليهم السلام لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نبئت وآدم بين الروح والجسد».
فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب).
فقال عليه السلام: «وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى الله عليه وآله في نبوته قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}() فكيف يمكن أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به».
قال يحيى: روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر).
فقال عليه السلام: «وهذا محال أيضا، لأن الله تعالى يقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون».
قال أبي داوود: صرت إلى المعتصم وقلت: إن نصيحة الأمير واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار منه، قال وما هو؟ قلت: إذا جمع الأمير في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن رأيهم فيه فأخبروه بما عندهم، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكّم حكمه دون حكم الفقهاء، قال: فتغير لونه وتنبه بما تنبه له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً.
ثم أمر أحد كتابه في اليوم الرابع أن يدعو الإمام الجواد إلى منزله، فدعاه فأبى أن يجيبه، وقال عليه السلام: «قد علمتَ أني لا أحضر مجالسكم»، فقال: إنما أدعوك على الطعام…، ثم دس له السم، فاستشهد عليه السلام وذلك آخر شهر ذي القعدة سنة 220 هجرية.
فسلام عليه وعلى آبائه الطيبين الطاهرين وأبنائه المنتجبين المعصومين الأئمة الأطهار، يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء.