كيف هيأ الإمام العسكري عليه السلام لغيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
ان ارتباط الشيعة بالامامة والولاية تجذّر مع مرور الأيام والليالي ومع اتساع رقعة انتشارهم الجغرافي وتوزّعهم الديمغرافي، وأضحى الإمام عليه السلام أهم عنصر تعتمد عليه الشيعة ويرجعون إليه في قضاياهم ومشكلاتهم الفردية والاجتماعية، يقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية. ومن ادعى ان الامام أصبح يشكل كل شيء في حياتهم لكان صادقاً. ولذا، كانو يبادرون الى السؤال عن الامام الخلف. وهكذا، تعود الشيعة على التوصل مع شخص الإمام عليه السلام لأكثر من قرنين تقريباً، وعلى ذلك جرت عادتهم وثقافتهم. واما غيبة الامام عنهم فترة طويلة من الزمن، فهي حدث جديد يحتاج الى ثقافة جديدة حتى يتربوا عليها ويتقبلوا فكرة عدم رؤيته.
ولا أبالغ إن قلبت إن الحدث الكوني الكبير بظهور الإمام بالنسبة لنا لا يقل عن حدث الغيبة للإمام عليه السلام بالنسبة للشيعة المعاصرين لزمانها. ومن هنا، تتبين لنا عظمة وخطورة الدور الذي أوكل الى الامام الحسن العسكري عليه السلام ولأبيه الامام الهادي عليه السلام، لاسيما بملاحظة الظروف الصعبة والحرجة المحيطة بالامام. ولذا، عليه أن يؤدي دوراً مهماً جديداً وهو تربية الشيعة على ثقافة غيبة الامام.
ويمكن القول بأن هذه التربية بدأت في ظل إمامة الإمام علي الهادي عليه السلام. لجهة أن تهيئة الشيعة على الثقافة الجديدة تحتاج الى هذه المدة من الزمن، خصوصاً أن مدة ولاية الإمام العسكري كانت قصيرة جداً، مع صرف جل اهتمامه لحماية المولود الجديد، وأما الأعمال التي انجزها للتهيئة للغيبة، فهي:
أولاً: سرية حياة الامام منذ الولادة
إن الظروف المحيطة بولادة الامام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف كانت سرية للغاية، لأن السلطة العباسية كانت تراقب دائماً دار الإمام العسكري وزوجاته وكل ما يتعلق به، وقد أشار الامام العسكري عليه السلام الى هذه الظروف بقوله: فسعوا (بنو العباس) في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول الى منع تولد القائم او قتله، فأبى الله أن يكشف امره لواحد منهم إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون(1). وأما بالنسبة لولادته، فلم يتسنّ الاطلاع عليها الا للسيدة حكيمة عمة الامام العسكري، والتي فوجئت بأصل الحمل به، وكانت بعد منتصف الليل قريباً من الفجر.
وعمل الامام جاهداً ليبقى المولود الجديد بعيداً عن الانظار، ولم يطلع عليه الا خواص الخواص من أوليائه لينقلوا الى الشيعة أن امامه قد ولد لرفع شبهة عدم ولادته. ومن هنا نفهم مضمون بعض الروايات التي نهت عن استعمال اسمه، ويدل عليه توقيعه الشريف: (ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته)(2).
وقد رسم لنا الامام العسكري عليه السلام الطريق إلى مولوده في ثمانية عشر حديثاً تلويحاً وتصريحاً، منها قوله: (إن الامام وحجة الله من بعدي ابني سمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، فسأله: ممن هو؟ فقال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا انه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر(3).
ثانياً: الإعداد الفكري للغيبة
لقد جرى الإمام العسكري عليه السلام على طريقة آبائه وأجداده عليهم السلام في استعراض فكرة الغيبة وإمكانها ثبوتاً ثم تطبيقها على ولده القائم. وكان الحث والتركيز على الثبات في غيبته. بما أن الإمام المهدي يمثل عنصراً من عناصر الغيبة، فكان يسهل عليهم قبول فكرة الغيبة، لأن الإيمان بعالم الغيب هو توأم الإيمان بعالم الشهادة.
وكان يخاطب الغائبين فضلاً عن المعدمين، ومن هم لا يزالون في أصلاب الرجال، عن طبيعة مرحلة الغيبة وما يقع فيها من بلاءات ومصائب، وفي الوقت نفسه يدعوهم الى التصبر والتجلد والاحتساب ويزرع فيهم الأمل بالظهور وأن المنتظر له هو في عبادة وكالمتشحط في دمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في بعض الروايات عن الحسن بن محمد بن صالح البزاز يقول: سمعت الحسن بن علي العسكري عليهما السلام يقول: (إن ابني هو القائم من بعدي وهو الذي تجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد، فلا يثبت على القول به إلا من كتب الله عز وجل في قلبه الإيمان وأيده بروح منه)(4).
ومن أهم الأفكار التي كان يؤكد عليه الإمام ويحث الشيعة عليها هي معرفة الإمام عليه السلام كما جاء في الحديث عن أبي علي بن همام قال: سمعت محمد بن عثمان العمري يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام: إن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه الى يوم القيامة، وان من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال عليه السلام: إن هذا حق كما أن النهار حق. فقيل له: يابن رسول الله، فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد هو الامام والحجة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية)(5).
ثالثاً: الإعداد الروحي
اعتاد الشيعة على التواصل مع الأئمة برؤيتهم ومجالستهم ومحادثتهم من دون واسطة على الإطلاق إلى زمن الإمامين العسكرين عليهما السلام، إذ نجد أن وسيلة الاتصال والتواصل اخذت منحى جديداً لدى الشيعة، إذ لم يعد بمقدور أي شخص أن يلقى الإمام متى شاء. ومن هنا، كانت الخطوة الأولى لبداية نشوء ثقافة جديدة لدى الشيعة ولإعدادهم نفسياً للمرحلة القادمة. وكان الإمام الهادي عليه السلام من خلال احتجابه عنهم بل وحجب ولده الامام العسكري عنهم يهيثهم لما يستشرفون من الغد الآتي الذي يغيب فيه عنهم امامهم، ولذا نجد ان الكثير من الشيعة لم يعرفوا الامام العسكري الا بعد وفاة اخيه محمد، حيث اخذ الامام الهادي عليه السلام بالاهتمام به لاتمام الحجة على الناس.
ولقد استمر الامام الحسن العسكري عليه السلام في نفس الاسلوب من سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط المباشر به، ليألفوا الطريقة الجديدة من دون أن يشكل لهم ذلك صدمة نفسية تدفع بالبعض الى التخلف او الارتداد، ويمكن ان نكتشف ثلاثة طرق للتواصل مع الشيعة:
أ. الاتصال المباشر، وكان قليلاً جداً ومع افراد مخصوصين من اوليائه.
ب. المكاتبات والتوقيعات: لقد جمع الامام العسكري بين امرين في التوقيعات: تعويد الشيعة على ثقافة الغيبة، والعمل على عدم حصول خلل في حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية. ومن هنا ندرك ان التوقيعات كلها او جلها كانت تصدر عن الامام العسكري، ولم نجدها في طريقة آبائه السابقين. ومن جهة أخرى، ندرك ايضاً أن أكثر من وصل إلى الشيعة كان عبارة عن توقيعات منه، ويدل عليه التوقيع الشريف لاسحاق بن يعقوب المتضمن لأكثر من ثلاثين سؤالاً، من جملتها جوابه على سؤال حول من الذي يُجع إليه في الحوادث الواقعة.
ج. الارتباط عبر الوكلاء: بما أن عصر الامام العسكري يشكل الحلقة الجوهرية للانتقال من عصر الحضور والشهود الى عصر الغيبة، كان ذلك يستدعي الاعتماد على الوكلاء، ويقتضي وضع نظام يحكم كامل تصرفاهم، خاصة وأن العدد ليس بقليل، إذ عيّن الامام العسكري وكيلاً في كل منطقة يوجد فيها شيعة من شيعته، وكانوا يمثلون حلقة الوصل بينه وبينهم، واستمر هذا النظام الى ما بعد شهادة الامام العسكري، ثم اعتمد كأسلوب وحيد تقريباً في عصر الغيبة الصغرى، ويعتبر هذا الاسلوب من العوامل النفسية المهمة والرئيسية لاستمرار الارتباط بالامام عليه السلام ويدل عليه ما جاء في العمري وابنه محمد: (العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك فعني يؤديان، وما قالا فعني يقولان، فاسمع لهما واطعهما فانهما الثقتان المأمونان).(6).
رابعاً: التنظيم العملي للارتباط بالامام
ومما يزيد في عظمة دور الامام العسكري عليه السلام أنه لم يتوقف دوره عند تهيئة الشيعة لعصر الغيبة، بل المهمة الصعبة هي تهيئة الظروف لعصر الغيبة الكبرى، إما من جهة تربية الشيعة على هذه الثقافة او من جهة تحديد المرجعية الحقيقة الصالحة التي تقوم مقام الامام والوكلاء والتوقيعات، ومن هنا، نجد ان مواقف الامام العسكري عليه السلام الايجابية من العلماء والرواة المأمونين على حلال الله وحرامه وارجاع الشيعة إليهم منسجمة مع المرجعية الحقيقية في ظل الغيبة الكبرى، كما جاء في قوله: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)(7).
نحن الآن الذين نعيش في ظل الغيبة الكبرى نجد ان ما خطط له الامام العسكري وان الاجراءات التي اتخذها هي عين الحقيقة لضمانة استمرار الارتباط بين الامام والشيعة، مهما طالت الغيبة ومهما كثر الشيعة، ولم يبق منها اليوم الا وسيلة واحدة لعموم الشيعة ألا وهي الحوزة العلمية.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) اثبات الهداة: ج3، ص570.
(2) كمال الدين وتمام النعمة: ج2، ص418.
(3) اثبات الهداة: ج3، ص569.
(4) كمال الدين وتمام النعمة: ج2، ص524.
(5) كمال الدين وتمام النعمة: ج2، ص409.
(6) الغيبة الصغرى: ص219.
(7) تفسير الامام العسكري عليه السلام: ص141، والاحتجاج للطبرسي: ج2، ص263.