تأثير الاحبار على صناعة بعض المذاهب الاسلامية كعب الأحبار إنموذجا
من هو كعب الاحبار
هو كعب بن ماتع الحميري، ومن كبار علماء أهل الكتاب، أسلم في زمن أبي بكر، وقدم من اليمن في خلافة عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، وأخذ هو من الكتاب والسنّة عن الصحابة، وتوفّي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين، وله شيء في صحيح البخاري وغيره.
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء:3/489) معرفا له: (العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ، فجالس أصحاب محمد فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب). ونرى الذهبي أيضاً في كتابه «تذكرة الحفاظ 1/52» يعرفه بأنّه من أوعية العلم.
ومعنى ذلك أنّ الصحابة كانوا يعتقدون أنّه من محال العلم والفضل، ولهذا السبب أخذ عنه الصحابة وغيرهم. وعندئذ يسأل: إذا أخذ عنه الصحابة وغيرهم على أنّه من أوعية العلم، فما هو ذاك الذي أخذوه عنه؟ هل أخذوا عنه سوى الإسرائيليات المحرّفة والكاذبة؟
والمطالع الكريم في مروياته يقف على أنّه يركز على القول بأمرين: التجسيم والرؤية، وقد اتخذهما أهل الحديث والحنابلة من الآثار الصحيحة، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية وكفروا المخالف، وإليك كلا الأمرين:
الأوّل: تركيزه على التجسيم
إنّ الأحاديث المنقولة عن ذلك الحبر اليهودي، تعرب بوضوح عن أنّه نشر بين الأُمّة الإسلامية فكرة التجسيم، التي هي من عقائد اليهود. فمن رواياته: (إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه، فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي، وهذه جنتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديان الدين).(حلية الأولياء:6/20)
ففي هذه الكلمة من هذا الحبر، تصريح بتجسيمه سبحانه أوّلاً، وثانياً تركيزه على الصخرة التي هي مركز بيت المقدس; وثالثاً تأكيده على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف.
الثاني: تركيزه على رؤية اللّه
ومن كلامه أيضاً: (إنّ اللّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ).( الشرح الحديدي:3/237)
وقد صار هذا النصّ وأمثاله مصدراً لتجويز فكرة رؤية اللّه سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وبالأخص في الآخرة، وقد صارت هذه العقيدة اليهودية المحضة، إحدى الأُصول التي بني عليها مذهب أهل الحديث والأشاعرة.
ومن أعظم الدواهي، أنّ الرجل خدع عقول المسلمين وخلفائهم، فاتّخذوه واعظاً ومعلماً ومفتياً يفتيهم. وهنالك شواهد على ذلك:
منها: التزلف إلى الخليفة الثاني
قال ابن كثير: أسلم كعب في الدولة العمرية، وجعل يحدّث عمر عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر، فترخّص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه غثّها وسمينها. وليس لهذه الأُمّة ـ و اللّه أعلم ـ حاجة إلى حرف و احد ممّا عنده.( تفسير ابن كثير:4/17)
إنّ لهذا الرجل أساليب عجيبة في اللعب بعقول المسلمين وخلفائهم، وإليك نماذج منها:
أ. قال كعب، لعمر بن الخطاب: (إنّا نجدك شهيداً وإنّا نجدك إماماً عادلاً، ونجدك لا تخاف في اللّه لومة لائم. قال:هذا لا أخاف في اللّه لومة لائم فأنى لي بالشهادة).( حلية الأولياء:5/388ـ 389). ترى أنّه كيف يتزلّف إلى الخليفة، ويتنبّأ بشهادته وقتله في سبيل اللّه.
ب. نقل أبو نعيم أيضاً: (أنّ كعباً مر بعمر، وهو يضرب رجلاً بالدرة. فقال كعب: على رسلك يا عمر، فو الذي نفسي بيده إنّه لمكتوب في التوراة، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء; فقال عمر: إلاّ من حاسب نفسه، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنّها لفي كتاب اللّه المنزل، ما بينهما حرف: إلاّ من حاسب نفسه).
ج. وروي أيضاً: (أنّ عمر جلد رجلاً يوماً وعنده كعب، فقال الرجل حين وقع به السوط: سبحان اللّه، فقال عمر للجلاد: دعه فضحك كعب، فقال له: وما يضحكك، فقال: والذي نفسي بيده إنّ «سبحان اللّه» تخفيف من العذاب).
والكلمة هذه محاولة من الحبر اليهودي، لتوجيه عمل عمر، عندما أمر الجلاّد بترك المجلود.
وهذه الأُمور صارت سبباً لجلب عطف الخليفة، ففسح له التحدّث في عاصمة الوحي، وأوساط المسلمين.
ومنها: تزلّفه إلى عثمان
ومن الخطب الفادح، أنّه صار بأفانين مكره، موضع ثقة لعثمان ومفتياً له في الأحكام، يصدر الخليفة عن فتياه، ويعمل بقوله، وإليك ما يلي:
أ. ذكر المسعودي أنّه حضر أبو ذر، مجلس عثمان ذات يوم، فقال عثمان: أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه في ما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك، فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا، فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي، غيّب وجهك عنّي فقد آذيتنا.( مروج الذهب:2/339 ـ 340)
ب. ونقل أيضاً: أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال، فَنُضِدَ البدر، حتى حالت بين عثمان و بين الرجل القائل، فقال عثمان: إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً، لأنّه كان يتصدّق، ويقري الضيف، وترك ما ترون; فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين، فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب، ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ اللّه أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة، وتقطع على اللّه بذلك، وأنا سمعت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يقول: «ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً» فقال له عثمان: وار عنّي وجهك.
ومنها: تزلّفه إلى معاوية
نرى أنّ كعباً يتنبّأ بمولد النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وهجرته وملكه، فيقول: مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام.( سنن الدارمي:1/5) فماذا يريد كعب بقوله: وملكه بالشام؟ هل هو إلاّ تزلف إلى معاوية، وأنّه يريد أن يقول: إن ملك النبي لن يستقر إلاّ فيها؟ وقد كان معاوية يمهد وسائل الملك لنفسه بالشام.
وفاته
قال الذهبي: توفي في خلافة عثمان (تذكرة الحفاظ :1/52). وقال أبو نعيم في حلية الأولياء إنّه توفّي كعب قبل مقتل عثمان بسنة. وعلى ذلك توفّي عام 34.
نعم توفّي في ذاك العام، لكن بعد ما ملأ المجتمع الإسلامي بأساطير، وقصص، وعقائد إسرائيلية، حسبها السذّج من المحدّثين أنّها حقائق راهنة، فنقلوها ناسبين لها إلى كعب تارة، وإلى النبي الأعظم أُخرى، وعليها بنيت العقائد وانتظمت الأُصول، ومن تفحّص في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، يقف بوضوح على أنّ كثيراً من المحدّثين والمفسرين والمؤرّخين، اعتمدوا على أقواله ومروياته من دون أي غمز وطعن أو تردد وشك، وهذا من عجائب الأُمور وغرائبها.