في الأصول الحديثية
في الأصول الحديثية
الأستاذ علي الأوسي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأجل التسليم على النبي الأمين محمّد، وآله الطاهرين.
إنّ مسألة الأصول الحديثية تحتل مكانة عظيمة في مصادر التشريع، وفي رسم مختلف الخطوط الأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، والعبادية، وغيرها، باعتبارها المعين الأصيل من نفحات العصمة الطاهرة.
وقد تناولت الأصول الحديثية في بحث مختصر، علّنا نوفق في المستقبل لدارسة أوفى، وأشمل.
ورتبته على أربعة مباحث:
1 ـ التعريف بالأصل، ووصف عام له.
2 ـ أسماء أصحاب الأصول مع تعريف موجز بهم.
3 ـ تاريخ الأصول الحديثية.
4 ـ قيمة هذه النصوص، والعناية بها.
آملين التوفيق منه سبحانه.
المبحث الأول
الأصل: تعريفه ووصف عام له :
ينقل عن الوحيد البهبهاني أن بعضهم قال: إنّ الكتاب ما كان مبوباً، ومفصلاً، والأصول مجمع أخبار، وآثار(1)، ورد عليه بأن كثيراً من الأصول مبوبة (2).
لذا، فهذا التعريف لم ينهض بالصحة، بينما نجد الشيخ الطهراني يخرج بتعريف أدق، وأشمل (3)، فيقول: إنّ كان جميع أحاديثه ـ كتاب الحديث ـ سماعاً من مؤلفه عن المعصوم ـ عليه السلام ـ ، أو سماعاً منه، عمن سمع عن الإمام ـ عليه السلام ـ، فوجود تلك الأحاديث في عالم الكتابة من صنع مؤلفها وجود أصلي بدوي ارتجالي، غير متفرع من وجود آخر، فيقال له الأصل.
وعليه فإن كان كتاب الحديث جميع أحاديثه، أو بعضها منقولاً، عن كتاب آخر سابق وجوده عليه، ولو كان هو أصلاً، وذكر صاحبه لهذا المؤلف أنّه مروياته عن المعصوم عليه السلام، وأذن له كتابتها، وروايتها عنه لكنها لم يكتبها عن سماع الأحاديث عنه، بل عن كتابته، وخطه، فيكون وجود تلك الأحاديث في عالم الكتابة من صنع هذا المؤلف، فرعاً عن الوجود السابق عليه، وهنا يشير الشيخ الطهراني في الذريعة في تعريفه الأخير للأصل: وهذا مراد الأستاذ الوحيد البهباني من قوله: الأصل هو الكتاب الذي جمع فيه مصنفه الأحاديث التي رواها عن المعصوم أو عن الراوي عنه (4).
إنّ الأصول الأربعمائة هي من أمهات الكتب الحديثية، وقد اعتمدتها الطائفة، واستقر عليها أمر المتقدمين، كما أشار إلى ذلك علماؤنا ومحققونا.
وان هذه الأصول الأربعمائة ليس بالضرورة أن يكون لها مؤلفون بعددها، فلعله أحياناً أن يكون المؤلف، أو الجامع واحداً لعدة أصول، ولكن صاحب الذريعة يؤكد على أنهم لم يكونوا أقل من أربعمائة(5).
ومن جهة أخرى، إننا لم نحصل على أسمائهم، وأعدادهم بشكل دقيق، وأن هذه الأصول لا توجد عندنا الآن، باستثناء عدد قليل منها، وربما يقدر بأكثر من خمسين، فيما لو ضممنا إليها بعض المخطوطات (الأصول)، هذا ما عبر به أحد العلماء الأجلاء. وليس سهلاً أن تحصى، وتستوفى هذه الأصول ـ وقد صرح بذلك الشيخ الطوسي ـ فأصحابنا منتشرون في كلّ البلاد.
وقد ذكر أنّه كتب أكثر من ستة آلاف كتاب، كلها من أحاديث الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، ولكن أين ذهبت هذه الثروة العلمية الهائلة، وماذا عرض لها؟ ، وترجع الأصول الأربعمائة إلى هذا العدد الكبير من المؤلفات، ولكن ما تعرض إليه الشيعة في العصر العباسي المظلم، وما تلتها من موجات الحقد على الفكر، والعلماء، قد عَرّضَتْ العديد من المكتبات بمخطوطاتها الثمينة إلى حرق، وغرق، منها: مكتبة شيخ الطائفة الطوسي (ره).
أن هذه الأصول لم يكن لها ترتيب خاص، لأن أغلبها جاءت على شكل أجوبة لمسائل، أو من املاءات المجالس، وقد عمد أصحاب الأصول الحديثية إلى نقل روايات هذه الأصول مرتبة، مبوبة، منقحة تسهيلاً للتناول، والانتفاع، وبسبب ذلك قلت الرغبة في استنساخ أعيانها، وضاعت النسخ القديمة تدريجياً، وكان قسم من تلك الأصول باقياً بالصورة الأولية إلى عهد ابن إدريس الحلي ت 598 هـ.
والأصل يتضمن، ويتصف بمسألتين:
1 ـ الرواية المروية عن المعصوم مباشرة، أو بواسطة واحدة.
2 ـ الأصول تتصف بأنها معتمدة، ومعتبرة.
وليس كلّ كتاب معتمد، أو معتبر يكون أصلاً، ومما يؤيد أن معنى الأصل أخذ فيه وصف الاعتماد أنّه لم يوصف أحد من هذه الأصول بالضعف أصلاً، إلاّ شاذاً شديد الشذوذ كالحسن بن صالح بن حسن مثلاً(6)، وبين الأصل، وبين الكتاب، والمصنف، والنوادر توجد فروق، فالكتاب أعم من الأصل، والمصنف، والنوادر، والنسبة بين الأصل، والنوادر هي: التباين ظاهراً، وإن لم يكن احتمال نسبة العموم والخصوص من وجه بينهما ببعيد(7)، ولمزيد من الإطلاع، فليراجع تلخيص مقباس الهداية للمامقاني(8).
وهذه الأصول موجودة كلها، فقسم منها بالهيئة التركيبية الأولية التي وجدت موادها بها، والبقية باقية بموادها الأصلية بلا زيادة، ولا نقيصة حرف، ضمن المجاميع القديمة التي جمعت فيها مواد تلك الأصول مرتبة، مبوبة، منقحة، مهذبة (9).
وربما يسأل سائل أن هذه الأصول بتعرضها لهذه الظروف، لايمكننا بذلك أن
نضمن وجودها، أو وجود محتواها، ولكن الجوامع الحديثية الأولى، وهي الكتب
الأربعة: (الإستبصار والتهذيب والفقيه والكافي) ضمت محتوى أكثر هذه الأصول،
فالكليني (ره) كان في الغيبة الصغرى، وكانت تلك الأصول موجودة آنذاك، بل
حتّى في زمن الصدوق، مما يسر الحصول على رواياتها.
المبحث الثاني
أسماء أصحاب الأصول :
نحاول هنا أن نذكر أسماء أصحاب الأصول التي سجلها العلامة المحقق الشيخ الطهراني في كتابه الذريعة ملخصين التعريف بهم، لنقف على مكانتهم التي تنعكس هي الأخرى على قيمة أصولهم التي دونوها، وهو من أهم المباحث في علم الحديث:
1 ـ آدم بن الحسين النخاس الكوفي الثقة، كما ذكره النجاشي وعده الشيخ في رجال من أصحاب الصادق ـ عليه السلام ـ .
قال النجاشي: ويروي عنه أصله إسماعيل بن مهران بن أبي نصر الكوفي الذي هو من أصحاب الإمام الرضا(ع).
2 ـ آدم بن المتوكل أبو الحسن بياع اللؤلؤ، كوفي، ثقة، روى عن الصادق ـ عليه السلام ـ ، ذكره النجاشي، وقال: يروي أصله عنه عبيس بن هشام الذي هو من أصحاب الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ .
3 ـ أبان بن تغلب بن رباح البكري، مولى بني جرير، قال النجاشي: ثقة، جليل القدر، عظيم المنزلة في أصحابنا، كان قارئاً فقيهاً، لغوياً، خدم ثلاثة من الأئمة السجاد، والباقر، والصادق ـ عليه السلام ـ . قال له الباقر ـ عليه السلام ـ : (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)، ومات أبان في حياة الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ سنة 141 هـ.
4 ـ أبان بن عثمان الأحمر البجلي، وهو من أصحاب الإمام الصادق، وموسى الكاظم ـ عليه السلام ـ ، ومن الستة الوسطى من أصحاب الإجماع، ترجمه النجاشي، وذكر أصله الشيخ في الفهرست.
5 ـ أبان بن محمّد البجلي المعروف بسندي البزاز، نقل عن أصله السيد ابن طاووس في عمل المحرم من كتاب الإقبال، معبراً عنه بالأصل.
6 ـ إبراهيم بن أبي البلاد، كان قارئاً، أديباً، روى عن الصادق، وأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ . ترجمه النجاشي، وذكر أصله الشيخ في الفهرس.
7 ـ إبراهيم بن صالح هكذا نسبه ـ الأصل ـ إليه الشيخ رشيد الدين ابن شهر آشوب في معالم العلماء.
8 ـ إبراهيم بن عبد الحميد الثقة، من أصحاب الإمام الصادق، وأدرك الرضا ـ عليه السلام ـ .
9 ـ إبراهيم بن عثمان المكنى بأبي أيوب الخزاز الكوفي، الثقة من أصحاب الإمام الباقر، والصادق ـ عليه السلام ـ ، ويرويه عنه محمّد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى.
10 ـ إبراهيم بن عمر اليماني الصنعاني، كان من أصحاب الإمامين الصادقين ـ عليه السلام ـ ، قال الشيخ في الفهرست: له أصل.
11 ـ إبراهيم بن مسلم بن هلال الضرير، الكوفي، الثقة، قال النجاشي: ذكره شيوخنا في أصحاب الأصول، ولعله من الأفراد القليلة من الأصول التي ألفت بعد عصر الصادق ـ عليه السلام ـ .
12 ـ إبراهيم بن مهزم الأسدي الكوفي المعروف بابن أبي برده، قال النجاشي: أنّه ثقة ثقة، وقال الشيخ في الفهرست: له أصل.
13 ـ إبراهيم بن نعيم العبدي، يكنى أبا الصباح، وقد قال له الباقر ـ عليه السلام ـ: (أنت ميزان لا عين فيه)، يرويه عنه صفوان بن يحيى. ت 210 هـ .
14 ـ إبراهيم بن يحيى، قال الشيخ في الفهرس إبراهيم بن يحيى له أصل.
15 ت أبو عبدالله بن حماد الأنصاري، يظهر من السيد رضي الدين علي بن طاووس أن أصله كان موجوداً عنده.
16ـ أبو محمّد الخزاز، كما في فهرس الطوسي، أو الجزار كما في معالم العلماء يرويه عنه محمّد بن أبي عمير، كما في الفهرس.
17 ـ أحمد بن الحسين بن سعيد بن عثمان القرشي، كما ترجمه الشيخ في الفهرس، قال: له كتاب النوادر، ومن جملة أصحابنا من عده من الأصول.
18 ـ أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد الصيقل، كنيته أبو جعفر، كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد الله، وابي الحسن ـ عليه السلام ـ ، له كتب لا يعرف منها إلاّ النوادر، كذا ترجمه النجاشي، ويظهر من السيد رضي الدين بن طاووس أنّه من الأصول.
19 ـ احمد بن عمر الحلال، عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الرضا ـ عليه السلام ـ وقال: كوفي، أنماطي ثقة، ودي الأصل.
20ـ أحمد بن محمّد بن عمار أبي علي الكوفي، الثقة المتوفى سنة 346 قال الشيخ: ثقة جليل، كثير الحديث، والأصول.
21 ـ احمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي، قال النجاشي: يروي ابن عقده ت 333 هـ عن أحمد بن يوسف الجعفي من كتابه، وأصله في رجب سنة 209 هـ
22 ـ أديم بن الحر الجعفي، ذكره النجاشي، وذكر الكشي أنّه يكنى بأبي الحر، وانه روى عن أبي عبدالله الصادق ـ عليه السلام ـ نيفاً، وأربعين حديثاً.
23 ـ أسباط بن سالم أبي علي الكوفي. قال الشيخ الطوسي: له كتاب أصل، وقال ابن شهر آشوب في معالم العلماء: له أصل، ويرويه عن محمّد بن أبي عميرت 217 هـ.
24 ـ إسحاق بن جرير بن يزيد بن جرير بن عبدالله البجلي الكوفي من أصحاب الصادق، والكاظم ـ عليه السلام ـ ، يرويه عنه محمّد بن أبي عمير، والحسن بن محبوب ت 204 هـ.
25 ـ إسحاق بن عمار بن موسى الساباطي كان من أصحاب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، ويرويه عنه محمّد بن أبي عمير، ذكره الشيخ في الفهرس.
26 ـ إسماعيل بن أبان: عده الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق ـ عليه السلام ـ ، ذكر أصله ابن شهر آشوب، والشيخ.
27 ـ إسماعيل بن بكير، يرويه عنه إبراهيم بن سليمان الكوفي النهمي، الرواي لكثير من الأصول عن مؤلفيها، ذكره الشيخ في الفهرس، لقد ذكر الشيخ الطهراني مائة وعشرين أصلاً، وقد بين رواتها، وعرف بمؤلفيها(10).
وظهر بشكل أغلب ثقة هؤلاء الأصحاب، وقربهم، أو معاصرتهم من عصري
الإمامين الصادقين ـ عليه السلام ـ . وهذا يؤكد ما يذهب إليه البحث بشأن
تاريخ هذه الأصول.
المبحث الثالث
تاريخ الأصول :
في بيان تاريخ هذه الأصول الأربعمائة نستعرض عدداً من أقوال قدماء علمائنا، ومن خلالها نخرج بنتائج تتعلق بعدد مؤلفيها وتاريخ تاليفها و...
1 ـ قال الشيخ الطبرسي ت 548 هـ، روى عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ من مشهوري أهل العلم: أربعة آلاف إنسان، وصنف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب، تسمى الأصول رواها أصحابه، وأصحاب ابنه موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ (11).
2 ـ قال المحقق: الحلي ت 676 هـ، كتبت من أجوبة مسائل الإمام الصادق أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها أصولاً (12).
3 ـ قال الشهيد: كتبت من أجوبة الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف، و دون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل (13).
4 ـ قال الشيخ الحسين بن عبد الصمد: قد كتبت من أجوبة مسائل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ فقط أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف تسمى: الأصول في أنواع العلوم (14).
5 ـ قال المحقق الداماد: المشهور أن الأصول أربعمائة مصنف، لأربعمائة مصنف، من رجال أبي عبدالله الصادق، بل، وفي مجالس السماع، والرواية عنه، ورجاله زهاء أربعة آلاف رجل، وكتبهم، ومصنفاتهم كثيرة إلاّ أن ما استقر على اعتبارها، والتعويل عليها، وتسميتها بالأصول: هذه الأربعمائة(15).
6 ـ قال الشهيد الثاني: استقر أمر المتقدمين على أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف، سموها أصولاً، فكان عليها اعتمادهم(16).
7 ـ قال الشيخ المفيد: صنفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، إلى عصر أبي محمّد الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ أربعمائة كتاب، تسمى الأصول، وهذا معنى قولهم: له أصل (17).
فبلحاظ الأقوال المذكورة اعلاه لعلمائنا، ومحققي الحديث لمذهب أهل البيت ـ عليه السلام ـ يمكن القول: بأنه لم يتشخص بشكل دقيق عدة أصحاب هذه الأصول، ولم تذكر الكتب الرجالية، والفهارس تاريخ تأليف هذه الأصول، ولا تواريخ وفيات مصنفيها(18).
ويظهر من الشيخ الطوسي في أول فهرسه أن عدم ضبط عدد تصانيف الأصحاب وأصولهم، نشأ من كثرة الانتشار للأصحاب في البلدان.
والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الأصول المذكورة، ومؤلفيها لم تكن أقل من أربعمائة، وأن أكثرها كانت من صنع أصحاب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ (19)، أو ممن أدركوا أباه الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ ، أو ممن أدركوا ولده الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ ، ولبيان ذلك لابد من إطلالة على الظرف التاريخي الذي أحاط بتلك الفترة مما يكشف عن استفادة الأصحاب من تلك الظروف التي أعقبت الشدة، والقسوة من قبل سلطان الحكم، وسبقت مثيلها من ضروب الظلم، والعسف التي طالت أهل البيت ـ عليه السلام ـ .
إنّ ضعف الدولتين الأموية والعباسية، واشتغال أهلها بالدنيا، وأمور الملك عن أهل الدين، كان ذلك بعد نهاية حكم الحجاج بن يوسف سنة 95هـ، حتّى انقراض الأمويين بموت مروان سنة 113 هـ، ثم أوائل حكم بني العباس إلى أوائل أيام هارون الرشيد، وهو الموافق لأوائل عصر الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ ت 144 هـ، وتمام عصر الإمام الصادق ت 148 هـ، وبعض عصر الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ ت 184 هـ، فقد كانت فضلاء الشيعة، ورواتهم في تلك الفترة، من السنين مطمئنين متجاهرين بالولاء لأهل البيت ـ عليه السلام ـ ، وقد كتبوا عن ائمتهم اكثر ما ألفوه، ولم يستطع فضلاء الشيعة، ورواتهم قبل الفترة المذكورة، ولا بعدها أن يكتبوا عن أئمتهم ـ عليه السلام ـ إلاّ كتباً قليلة، وبسبب العنت السياسي، والظروف السياسية القاسية خارج هذه الفترة الذهبية، لم تثبت كتاباتهم وخفيت عنا آثارهم، وكتبهم، ولا نعرف من حالهم، إلاّ بمن روى عنه الحديث أو بمن أخذ عنهم.
ويضيف صاحب الذريعة: إنّ الشيخ أبا العباس بن عقدة ت 333 هـ جمع في رجاله من ثقات الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، ومعاريفهم أربعة آلاف رجل، أوردهم الشيخ الطوسي في رجاله، وهناك كتب رجالية كثيرة أخرى، عنيت بالموضوع نفسه، وعدت هذه الكتب أربعة آلاف وخمسمائة رجل، وبالمقابلة بين هذه الأقوال، والكتب الرجالية، والروايات يتشخص بالمعلوم الإجمالي، من أن تاريخ جل الأصول كان في عصر أصحاب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ (20).
ويذكر العلامة المامقاني: إنّ المعروف على السنة العلماء، وكتبهم أن الأصول الأربعمائة جمعت في عهد مولانا الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، أو في عهد الصادقين ـ عليهما السلام ـ، أو في عهد الصادق والكاظم ـ عليهم السلام ـ (21).
ولا تعارض في قول الشيخ المفيد، مع الأقوال التي ذكرناها لعلمائنا
الآخرين في هذا المبحث، فإن ظاهر مراده: أن الأصول لم تؤلف خارج هذه
الفترة، من حياة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، إلى حياة الإمام الحسن
العسكري ـ عليه السلام ـ، كما أنّه لم يرد حصر جميع مصنفات الأصحاب في هذه
الكتب الموسومة بالأصول، كيف وهو أعلم بكتبهم، وبأحوال المصنفين منهم، كفضل
بن شاذان الذي له مائة وثمانون كتاباً، وهشام الكلبي المؤلف لأكثر من مائتي
كتاب، وابن أبي عمير الذي له تسعون كتاباً، وابن دؤل الذي له مائة كتاب،
وآخرين كثيرين(22).
المبحث الرابع
قيمة هذه الأصول، والعناية بها :
تتبين هذه القيمة من خلال اهتمام مصنفيها، وقربها من مصدر النصوص، وظهرت هذه القيمة على مقاييس علماء، ومحققي الحديث، وسنذكر هذه المطالب بشيء من الاختصار في هذا المبحث.
روى السيد رضي الدين علي بن طاووس بإسناده، عن أبي الوضاح: محمّد بن عبدالله بن زيد النهشلي، عن أبيه قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن الكاظم ـ عليه السلام ـ، من أهل بيعته، وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس، لطاف، وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة، أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك (23).
وكان من دأب أصحاب الأصول: أنهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمة ـ عليهم السلام ـ حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم، لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه، أو كله بتمادي الأيام، هذا ما قاله الشيخ البهائي في مشرق الشمسين(24).
وكان الآخذون عن الإمام المعصوم، على أصناف: منهم من لا يحسن الكتابة، لكنه يأخذ الحديث بسمعه، ويعيه بقلبه دراية، وفقهاً، ثم يلقيه على تلاميذه، وأصحابه، ليكتبوه في أصولهم، كأبي بصير بن القاسم الأسدي، وأبي بصير ليث بن البختري المرادي، ممن كان أعمى، ضرير البصر، ومنهم من كان يحسن الكتابة، ومع ذلك يأخذ الحديث سمعاً، ويعيه قلباً حتّى إذا وجد فرصة قيده بالكتابة، وإن كان بألفاظ أخر، وهم الأكثرون.
ومنهم من كان يسمع الحديث، ويكتبه بألفاظه المسموعة، بلا مهلة استيثاقاً لصحة الحديث، وهم الأقلون، ومنهم من كان يخلو مع الإمام، فيسأله عن مسائله، خوفاً من أن يفتيه بالتقية من بعض الحاضرين (25).
وقد أقبل الأصحاب على الاهتمام بهذه الأصول، ومؤلفيها، ووضعوا لها فهرساً خاصاً، وأفردوا لمؤلفيها تراجم مستقلة عن سائر الرواة، والمصنفين كما صنعه الشيخ أبو الحسين أحمد بن الحسين الغضائري المعاصر للشيخ الطوسي، واستمرت هذه العناية بالأصول، وأصحابها، حتّى جمعت أعيان تلك الأصول بموادها مرتبة، مبوبة، في المجامع القديمة، فاستغنوا عن أعيانها(26).
إنّ الأصول بما أنها جاءت شفاهاً عن المعصوم، أو عمن سمع من المعصوم ـ عليهم السلام ـ، فإن احتمال الخطأ، والغلط، والسهو، والنسيان يضعف أكثر، مما لو كان في كتاب منقول، عن كتاب آخر.
وهذا ساعد في تقوية، وتعضيد ما يؤخذ منه، لذا اعتبره المحققون: أحد أركان تصحيح الرواية، كالمحقق الداماد، والمحقق البهائي، وذكر الشيخ: أن الأصول الأربعمائة مما أجمع الأصحاب على صحتها، وعلى العمل بها، ويضاف إلى ذلك: أن وجود الحديث في الأصل المعتمد عليه بمجرده يكون من موجبات الحكم بالصحة عند القدماء، وهذه ميزة اختصت بها الأصول (27).
وفي عدة الأصول، ذكر الشيخ الطوسي: أن رواية السامع مقدمة على رواية المستجيز، إلاّ أن يروي المستجيز أصلاً معروفاً، أو مصنفاً مشهوراً(28)، وتعارف الأصحاب على أن من يذكر له أصل، فإنه يدل على مدح، وتوثيق له.
وهنا يسجل الوحيد البهبهاني على ذلك: أن كثيراً من مصنفي الأصحاب، وأصحاب الأصول كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة: كالواقفية، والفطحية، ويضيف الوحيد (رض): ولكن الظاهر أن كون الرجل صاحب أصل يفيد حسناً، لا الحسن الاصطلاحي (29).
لذا ينبغي التوفيق، بين ما ذكر، وبين ما ذكره صاحب الذريعة، من أن قول
أئمة الرجال في ترجمة أحدهم: أن له أصلا يعد من ألفاظ المدح يجب حمله على
ما أفاده الوحيد، بمعنى أنّه يكشف عن وجود مزايا شخصية فيه، من الضبط،
والحفظ، والتحرز عن بواعث النسيان، والاشتباه، والتحفظ عن موجبات الغلط،
والسهو، لا بمعنى وثاقته وعدالته وصحة مذهبه (30).
الخاتمة
ونود الإشارة في الخاتمة إلى ما يلي:
1 ـ الأصول الحديثية هي غير الأصول الرجالية المشهورة، كرجال الكشي وفهرست الشيخ الطوسي ورجاله، ورجال النجاشي، لذا فهي لم تدخل في بحثنا المختصر هذا.
2 ـ لازالت مسألة الأصول الحديثية بحاجة إلى دراسات جدية أكثر، وموسعة من جهة أخرى، وقد لاحظت على كتابات المحدثين المحاكاة الحرفية، تقريباً لما كتبة الأقدمون.
3 ـ أقترح أن يكون هناك، مشروع، موسع للبحث في أسماء أصحاب الأصول، ودراسة المتون، ولا سيما المتشابهة منها، والمتعارضة ظاهرياً، إضافة إلى دراسة الأسانيد، وأن دراسة حديثه لسماحة آية الله السيد الخوئي في معجم رجال الحديث، تعد بادرة، وباكورة مشجعة لأبحاث كهذه، ومن طلب البحث الموسع في هذه الأصول، سيقف على نتائج كبيرة، ويتوصل إلى مقترحات أوسع.
ومنه تعالى التوفيق والسداد...
--------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام للتراث والفكر الإسلامي .
_____________
1 ـ الفوائد الرجالية ص 34.
2 ـ كليات في علم الرجال ص 475.
3 ـ تعريف الشيخ الطهراني للأصول يعتمد على نص للوحيد البهبهاني يشير إليه في الصفحة القادمة.
4 ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة ـ الطهراني ـ 2 / 125 ـ 126.
5 ـ المصدر السابق نفسه 2: 129.
6 ـ بحوث في علوم الرجال ـ محمّد آصف المحسني ـ ط 2 ص: 165 ـ 166.
7 ـ كليات في علم الرجال ـ جعفر سبحاني ص 474 ـ 480.
8 ـ صفحة: 159 ـ 160.
9 ـ الذريعة 2: 134.
10 ـ من طلب الوقوف على تفاصيل هذه الأصول فليراجع الذريعة 2: 135 ـ 167.
11 ـ أعلام الورى. نقلاً عن كليات في علم الرجال للشيخ جعفر سبحاني ص: 482. وللمصادر اللاحقة الستة كذلك.
12 ـ المعتبر 1: 26.
13 ـ الذكرى نقلاً عن كليات في علم الرجال.
14 ـ الدراية نقلاً عن كليات في علم الرجال.
15 ـ الراشحة نقلاً عن كليات في علم الرجال.
16 ـ شرح الدراية نقلاً عن كليات في علم الرجال.
17 ـ معالم العلماء ص: 3.
18 ـ الذريعة 2: 128.
19 ـ كليات في علم الرجال ص: 481 ـ 482.
20 ـ الذريعة 2: 131 ـ 133.
21 ـ تلخيص مقباس الهداية ص: 159.
22 ـ كليات في علم الرجال ص: 483 والذريعة 2: 130 ـ 131.
23 ـ مهج الدعوات ص: 224.
24 ـ الذريعة 2 ت 128 وقد ورد عن المحقق الداماد المعنى نفسه أيضاً.
25 ـ معرفة الحديث، محمّد باقر البهبودي ص: 23.
26 ـ الذريعة 2: 128.
27 ـ الذريعة 2: 126 ـ 127، وكليات في علم الرجال ص: 485.
28 ـ عدة الأصول 1 ـ 385.
29 ـ الفوائد الرجالية ص: 36.
30 ـ كليات في علم الرجال ص: 486.