الأبعاد الحضارية لنهضة الإمام الحسين عليه السلام - 2 -
الأبعاد الحضارية لنهضة الإمام الحسين عليه السلام - 2 -
د. عبد
المجيد فرج الله
الحسين دليل النور ..
بهرني الحسين شهيداً ، كما بهر ملايين الملايين من البشر وغير البشر قبلي
..
لكنه كان الأبهر في الـمَعرِفة والـمَعْلِمة ..
لقد فتّح مداركي على أمداء في غاية السمو والبهجة .. حتى باتت الثانية
الواحدة تعادل من الزمن قروناً متطاولة ..
إنه كان يعيش السعادة المطلقة .. وكل دقيقة من السعادة نفدّيها بدهور من
التعاسة والانطفاء ..
أجل .. بهرني الحسين سعيداً .. أكثر مما بهرني شهيداً ..
كل ثيمة من عمره المقدّس كانت مرتبطة ارتباطاً مطلقاً بالله .. لذا عاش
سعادة فريدة وهو يمتد في الوجود منذ أن كان نوراً على ساق عرش الله مع جدّه
وأبيه وأُمه وأخيه ، إلى أنْ رآه الناس بينهم في الحياة الأرضية المرئية ..
وها نحن نعيشه في حياة الشهادة الحاضرة بكل معنى الحضور ما عدا حضور الجسد
المستور .. وسيظل امتداد وجوده السعيد إلى يوم تُملأ الأرض قسطاً وعدلا كما
مُلئت ظلماً وجورا .. ويستمر وجوده بأرقى ما يكون في المحشر والجنان العُلى
...
إذا عرفنا حدود هذا الوجود ، يمكننا أن نبدأ رحلة معرفة الحسين ..
وقد يعترض على كلامي معترض فيقول : إنك تفترض أشياء وتطرح أفكاراً تحتاج
إلى أدلّة لإثباتها ، وأية أدلّة ! فمن أن تستدلّ على أن الحسين كان نوراً
على ساق عرش الملكوت الأعلى ؟ وكيف تُقنع الآخرين الذين يخالفونك في
العقيدة بهذا التفريق ما بين العمر المعيش من جهة ، والإيجاد والوجود من
جهة أُخرى ؟ وكيف تُقنعهم بصحة تقسيمك لعمر الحسين الأرضي ؟ وجُلّهم يعتقد
اعتقاداً جازماً أن الحسين مات قبل أربعة عشر قرناً ، وانتهى كل شيء !..
وللحق والإنصاف لا بد أن نقول أن الفرق شاسع جداً في مدارات المعرفة
والاستيعاب ما بين أتباع مدرسة
أهل البيت الواثقين بالأحاديث الواصلة إليهم من رسول الله والأئمة
من أهل بيته وآله (صلى الله وسلم عليه وعليهم) ، أو على الأقل لا يجدون
حرجاً من التصديق بها لو صحّ سندها .. وبين أتباع المدارس المذهبية
المختلفة التي يجمعها وصف (أبناء السنة والجماعة) .. الذي لا يقتنعون بها
حتى مع صحة السند .. وسأذكر شاهداً واحداً من باب المثال لا من باب الجدال
..
من ذلك ما يروى عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليهما - ونحن نورده شاهداً بغض النظر عن صحة سنده - : (( حدثني أبي ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : يا عباد الله ؛ إن آدم لما رأى النور ساطعاً من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره ، رأى النور ولم يتبين الأشباح ، فقال : يا رب ما هذه الأنوار ؟ قال الله عز وجل :
(( أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح )) ، فقال آدم :يا رب لو بينتها لي ، فقال الله تعالى :
(( انظر يا آدم إلى ذروة العرش )) ، فنظر آدم ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية ، فرأى أشباحنا فقال : ما هذه الأشباح يا رب ؟ فقال الله :
(( يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي وبرياتي : هذا محمد وأنا الحميد والمحمود في أفعالي شققت له اسماً من اسمي ، وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسماً من اسمي ، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض فاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي ، وفاطم أوليائي عما يعتريهم ويشينهم فشققت لها اسماً من اسمي ، وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققت لهما اسماً من اسمي ، هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي ، بهم آخذ وبهم أعطي وبهم أعاقب وبهم أثيب ، فتوسل إلي بهم يا آدم ، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إلي شفعاءك ، فإني آليت على نفسي قسماً حقاً لا أخيب بهم آملا ، ولا أرد بهم سائلاً )) . فلذلك حين نزلت منه الخطيئة دعا الله عز وجل بهم فتاب عليه وغفر له . . . ثم قال الله لآدم :
(( قم فانظر إلى هؤلاء الملائكة الذين قبالك ، فإنهم من الذين سجدوا لك ، فقل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) ، فأتاهم فسلم عليهم كما أمره الله ، فقالوا : وعليك السلام يا آدم ورحمة الله وبركاته ، فقال الله :
(( هذه تحيتك يا آدم وتحية ذريتك فيما بينهم إلى يوم القيامة)) . ثم ذكر شرح خلق ذرية آدم وشهادة من تكلف منهم بالربوبية والوحدانية لله جل جلاله ثم قال : ونظر آدم إلى طائفة من ذريته [يتلألؤون] نورهم يسعى ، قال آدم : ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الأنبياء من ذريتك ، قال : كم هم يا رب ؟ قال :
(( هم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي ، المرسلون منهم ثلاثمائة وخمسة عشر نبياً مرسلا )) ، قال : يا رب فما بال نور هذا الأخير ساطعاً على نورهم جميعا ؟ قال تعالى :
(( لفضله عليهم جميعا )) ، قال : ومن هذا النبي يا رب ؟ وما اسمه ؟ قال :
(( هذا محمد نبيي ورسولي وأميني ونجيبي ونجيي وخيرتي وصفوتي وخالصتي وحبيبي وخليلي وأكرم خلقي علي ، وأحبهم إلي ، وآثرهم عندي ، وأقربهم مني ، وأعرفهم لي ، وأرجحهم حلما وعلما وإيمانا ويقينا وصدقا وبرا وعفافا وعبادة وخشوعا وورعا وسلما وإسلاما ، أخذت له ميثاق حملة عرشي فما دونهم من خلائقي في السماوات والأرض ، بالإيمان به والإقرار بنبوته ، فآمن به يا آدم تزد مني قربة ومنزلة وفضلا ونوراً ووقاراً )) ، قال آدم : آمنت بالله وبرسوله محمد ، قال الله :
(( قد أوجبت لك يا آدم وقد زدتك فضلاً وكرامةً أنت يا آدم أول الأنبياء والمرسلين ، وابنك محمد خاتم الأنبياء والرسل ، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ، وأول من يكسى ويحمل إلى الموقف ، وأول شافع وأول مشفع ، وأول قارع لأبواب الجنان ، وأول من يفتح له ، وأول من يدخل الجنة ، قد كنيتك به فأنت أبو محمد)) .
فقال آدم : الحمد لله الذي جعل من ذريتي من فضله بهذه الفضائل وسبقني إلى الجنة ولا أحسده )) .
أمام هذه الرواية المدهشة ، يقف أتباع أهل البيت مصدّقين بلا اعتراض إذا
صحّ السند كما قلنا .. لكن أتباع المدارس المذهبية الأُخرى ، لن يرضوا
بمرويات كهذه أبداً ..
ومن هنا تبدأ نقاط الافتراق المعرفية ، وما أكثرها ..
أعود لصلب حديثي عن الحسين ..
فحتى نعرف سعادة الحسين ، الكاشفة عن وجوده الحقيقي ، فإنّ خير ما يُنبئنا
عنها كلامه هو نفسه .. كلامه الذي أدهشني غاية الإدهاش ، وأذهلني إلى أقصى
حدود الإذهال ، حتى صرتُ أقطع أنْ لا أحد يُجيد أن يقول كما قال ..
- باستثناء جده وأبيه وأُمه وأخيه والمعصومين من بنيه - .. ومن ذلك الكلام
البديع هذه الرسالة المختصرة جداً ، المعبّرة جداً ، المليئة بالعلم
والمعرفة ، التي لا تدانيها أية فلسفة ، ولا حتى أيّ خيال جامح من خيالات
الشعراء المجنّحة .. وهذا نصها : (( من الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن
الحنفية وبنـي هاشم : أما بعد ؛ فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل .
والسلام )) .
أعدكم
أنني قبل استخلاص الأبعاد الحضارية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) سأُخصص
فقرة من كلامه الشريف لكل مقال ، محاوِلاً اكتشاف ما أستطيعه من أبعادها
المعرفية والـمَعلِمية الباهرة المعجزة ..
بدايةً ؛ سأُصغي إليه ، وهو في يوم عرفة يعيش الانقطاع إلى ربّـه واهب
الإيجاد والإسعاد :
(( الحمدُ لله الذي ليس لقضائه دافع ، ولا لعطائه مانع ، ولا كصنعه صنع
صانع ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع ، وأتقن بحكمته الصنائع ، لا
يخفى عليه الطلائع ، ولا تضيع عنده الودائع .. أتى بالكتاب الجامع ، وبشرع
الإسلام النور الساطع ، وهو للخليقة صانع ، وهو المستعان على الفجائع ،
جازي كل صانع ، ورائش كل قانع ، وراحم كل ضارع ، ومنزل المنافع ، والكتاب
الجامع ، بالنور الساطع .. وهو للدعوات سامع ، وللدرجات رافع ، وللكربات
دافع ، وللجبابرة قامع .. وراحم عبرة كل ضارع ، ودافع ضرعة كل ضارع ، فلا
إله غيره ، ولا شيء يعدله ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، اللطيف
الخبير ، وهو على كل شيء قدير.. ))
كم لفت انتباهي وهو يجعل الفاصلة في نهاية كل جملة بحرف العين ، يسبقه
الألف حرفَ تأسيس .. وبدأت أتأمل في سر اختيار هذا الحرف ، ولماذا يسبقه
الألف ؟
هكذا بدأتُ تأمّلي ، صوتيّاً بنيوياً ..
أدري أن حرف العين هو أعمق الحروف ، مخرجه من أقصى نقطة داخل الحنجرة ..
فهو يدلّ على الأعماق ، وكذا فيه قوّة لا أجدها في باقي الحروف .
قوّة وعمق ..
إنه يدعو بكل عُمق ؛ عمق المعنى ، وعمق الوجدان ، وعمق الصدق ، وعمق اللفظ
. وكذلك يدعو بكل قوة ؛ قوة المعنى ، وقوة الوجدان ، وقوة الصدق ، وقوة
اللفظ ..
ويؤسس على الألف كل ذلك .. فإذا بي أشعر أنه يرتفع بالألف إلى أقصى
ارتفاعات الحروف ، ثمّ يُلقي العين المكسور ما قبلها ، صرخةً من عمق الضمير
..
هذه أول مرة أقرأ دعاء يرتكز على حرف العين .. وقد أدهشني حقاً هذا
الانتقاء .
الآن
أقترب من معاني الدعاء ..
الإمام الحسين (عليه السلام) يبدأ دعاءه بالحمد .. والمعروف الشائع أن الحمد
يكون ثناء للمنعم على نعمته ، والأدعية التي بين أيدينا دالة على ذلك ، حتى
الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحمد ، فإنها تقرن الحمد بذكر النعمة .. من
قبيل :
( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) / الأنعام1 .
( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) / الأنعام45 .
( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ) /الأعراف43 .
( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) / إبراهيم39 .
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ) /الكهف1 .
( فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) / المؤمنون28 .
( وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) / النمل15 .
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ) / الزمر74 .
( وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
)
/ فاطر34 ...
أذهلني الإمام الحسين وهو يبدأ دعاءه الطويل بالحمد لله على أُولى النعم
التي تستحق الحمد عنده قبل غيرها في هذا الدعاء ؛ إنها نعمة قضاء الله الذي
ليس له دافع ! والحسين يدري بإخبار جده عن جبرئيل وبتأكيد أبيه وأُمه وأخيه
، أن القضاء سيجري عليه بكل تفاصيل مأساة كربلاء .. وهو لا يسأل الله ردّ
هذا القضاء ، ولا دفعه ، بل يحمد الله عليه.. يحمده على كل قضاء ، ومنه
قضاء مآسي كربلاء ..
إنها بوابة عظمى للدخول إلى عالم الإمام الحسين عليه السلام ..
ثم ينتقل إلى ذكر النعمة الأُخرى إذ ليس لعطاء الله مانع ، فهو لا يخشى أي
مخلوق ، ولا يتخوّف على رزقه من أي أحد .. فلا أحد يمنع عطاء الله ، لذا لا
يخشى أحداً ، ولا يمدّ عينيه إلى يد أحد .. ومنه فلْنتعلّم ، ونصحح عقيدتنا
.
ثم ينتقل إلى صُنع الله الذي ليس مثله صنع صانع .. فهو يخلق كل شيء بأمر
(كن) ، فيكون ذلك الشيء كما أراد لا بزيادة ولا بنقصان ، بإبداع لا من شيء
كان قبله ، فلا محاكاة ولا تقليد ، ولا إجالة رويّة أو نظر ، ولا بتجربة أو
خطأ .. وهو مع هذا الجواد الواسع ، لا حدّ لجوده وكرمه .. وقد فطر أجناس
البدائع ، وأتقن بحكمته الصنائع .. إبداع إلهي يملأ العين حيثما نظرت ، بل
وبما لا يقوى على إدراكه النظر ، ولا تحيطه الفِكر . كل ذلك بحكمة منقطعة
النظير ؛ حكمة في الخلق ، حكمة في سبب الخلق ، حكمة في إيجاد هذا الخلق في
وسط سائر الخلق ، بحيث يكمل كل خلق ما معه من الخلق الآخر .. ومع الأعداد
الهائلة من الخلوقات وأجناسها وأنواعها وأفرادها والأجزاء التي لا تحصى في
كل فرد منها ، من مبتدآتها واستمراراتها إلى نهاياتها وتحولاتها ، وحتى
بقائها دون فنائها ، أو إفنائها إذا شاء بعد كل تفاصيل تحوّلات بقائها ..
مع كل ذلك لا يخفى عليه شيء منها مهما استتر ، بل كل المستورات عنده طلائع
حاضرة بسمعه وبصره وعلمه سبحانه وتعالى .. وهو تبارك وتقدّس لا تضيع عنده
الودائع .. وحسبنا كمخلوقات أننا صنائع ربّنا وودائعه ، والله خير حافظاً
وهو أرحم الراحمين .
يتبع في المقال القادم ...