اختراع اسلام جديد!
لا يمرُّ يوم إلا ونقرأ في الصحف مقالات تضجُّ بمصطلحات أصبحت سائدة ومنتشرة لا تخلو منها ندوة ولا محاضرة ولا "مداخلة" كلها تدعو إلى تجديد الإسلام وتطويره و"إعادة قراءته".
وغالباً ما يُشفع ذلك بتعابير من قبيل الانفتاح والحوار وقبول الآخر وحق الاختلاف و"الفقه الذكوري"... فضلاً عن السطور التي تركن خلفها دلالات سياسية مقصودة، كالمبالغة في التأكيد على الإسلام الذي يدعو إلى المحبة والسلام ونبذ العنف، وهي كلمات حقٍ لا يُراد منها حق.
فالتطوير والتجديد للإسلام، وما يستلزم ذلك من اجتهادات ضمن الأسس والثوابت والمسلَّمات، لا نخال عصراً أو زماناً توقَّف فيه، ضعفاً أو قوّة، ولولا ذلك لَمَا استمرّ حتى الآن، والباحث الخبير يرى ذلك بوضوح من خلال الأجيال المتعاقبة للعلماء وتلامذتهم وما نُشر لهم ووصل إلينا من كتب ونظريات وآراء.
وليس صحيحاً الاعتقاد أنّ الإسلام جامدٌ متحجّر منذ قرون، وفرّج الله اليوم، وفي عصر العولمة والآحادية عنه ليتطوّر ويتجدّد.
اما الانفتاح، فعنوان جميل على إطلاقه، لكنّه لا يعني بحال، الذوبان والاضمحلال، خاصة أنّ قابلية مجتمعاتنا مؤهلة لذلك تماماً لأسباب موضوعية وحقيقية و"إعلامية".
و"قبول الآخر" وحق الاختلاف، جميلان بشرط أن يحترمنا هذا الآخر ويعترف بإنسانيتنا وبحقنا في خياراتنا ومسلكنا واقتصادنا ومواردنا، لا أن يتعامل معنا "كعالم ثالث" أو رابع أو أننا "نتشرّف" باحتلاله وحكمه وقمعه وسلبه!
لا شك أنّ الإسلام يدعو إلى المحبة والوئام والسلام، وهذا واضح في تشريعاته، لكن، ونقولها علناً في هذا الزمن المُكْلِف الذي تحصى فيه الأنفاس وتُنشر فيه لوائح الإرهاب، لكن، أن لا يعني ذلك الانصياع ورفع الأيدي استسلاماً، والبراءة من "تهمة" الجهاد، أو حذف عناوين أو سلبها حياتها وحيويتها من النصوص الشرعية الداعية إلى مواجهة الظالم ومحاربة المعتدين والتصدي للغاصبين.
وهنا تخطر اسئلة بديهيّة يا ليتها تلقى جواباً:
هل من المنطقي أن تنطلق الدعوات "الحريصة" على الإسلام ممّن قضوا حياتهم في مجانبته وتجاهله وتعطيه، حتى لا نقول أكثر من ذلك؟
لذا يكثر الاستهزاء والتهكُّم والاستباحة التي كانت مُتعذّرة سابقاً، كأنها فُرصة يُخشى أن تفوت، لدرجة أنَّ "الحجاب" الذي تُخاض حوله المعارك اليوم في فرنسا وألمانيا، يُشار إليه بطريقة لا تُصان فيها الحرية حتى بمعناها الفضفاض "فتُلف أجساد الزوجات بأغطية سميكة من قماش وتقاليد ومحظورات".
أليس أهل الاختصاص من الفقهاء المسلمين هم المعنيّون بإدلاء دلوهم، قبل ممثّلي المؤسسات الحكومية والحاكمة ومَن يتمّ اختيارهم لأهداف مقصودة، ومَن يتحدّث عن "الفقه الذكوري" كأنّ علماء المسلمين وفقهاءهم لا ميزان لهم ولا مرجع ولا أساس ولا تقوى ولا ورع إلاّ مرجعيّتهم الذكورية!
وهل ينفع فيما نحن فيه الإطناب في الحديث عن التعايش والوحدة وقبول الآخر إلى درجة المجاملة المسرحية، حتى باتت المشاهد محفوظة عن ظهر قلب، كلٌ قد علم دوره وحدوده؟
وهل التصنُّع ينفع في الوقت الذي تُفتح فيه كل الجبهات، ليست العسكرية والأمنية والإعلامية والاقتصادية، فقط، بل التبشيرية أيضاً، في قطر والكويت والبحرين والأردن، حتى السعودية نفسها باعتراف سلطاتها، والشواهد والوقائع الخطرة أكثر من أن تُحصى، نكتفي بواحد منها فيما نشره الأب أندريه ضاهر في النهار، الأحد 28/9/2003 في قوله "فإن تدريس الدين المسيحي للمسلمين وإرغامهم على حضور القداس وغيره يُؤدي إلى عيشهم الضّياع والغربة عن ذاتهم، ويمسُّ حرية المعتقد".
من المؤلم رؤية المشهود لهم شراستهم في محاربة الإسلام، أن يُصبحوا اليوم دعاة إلى تجديده وتعديله وتهذيبه وتشذيبه.
وأخطر من ذلك اعتراف المخابرات المركزية الأمريكية بتمويلها بعض هذه النشاطات ورعايتها.
إنّ الحديث عن "ائمة" معتدلين يجري تصنيعهم، بحيث أصبح الحديث عنهم أمراً عادياً، لهو مؤشّر بالغ الشبهة، وما سيكون اثر ذلك على المجتمعات الإسلامية.
إنّ التجديد والتحديث والاجتهاد له أهله وشروطه التي من جملتها الإبقاء على الأسس، وإلاّ كان هدماً وتخريباً.
و"حق الاختلاف" له حدٌ أدنى، وليس قبول حتى السفيه والسابُّ والمعتدي والمتهكّم.
بات مملاً كثرة الحديث عن العناوين الكبيرة الفضفاضة، دون الدخول في المصارحة وتسمية الأشياء بجرأة ووضوح، ومن أهل الاختصاص طبعاً، وإن لم نفعل ذلك، سيستمر استنزافنا، ونحن واقفون أمام المرآة نُصلّي صباحاً "حرب الآخرين على أرضنا" ومساءً "التعايش المشترك"، نُصدّق أنفسنا ولا يُصدّقنا أحد1.
__________
1. الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا(حفظه الله)