في ظلال العقيدة
أول ناحية من الإنسان يعني بها الدِّين
طبيعي أن يكون العقل أول ناحية من الإنسان تنصرف إليها عناية الدين وأحقها بالمزيد من تهذيبه ، فالعقل أسمى موهبة يختص بها الإنسان وأولى ميزة يرتفع بسببها عما حوله من الكائنات .
والعقل هو المصدر الأول لأفكار الإنسان والملتقى الأعظم لتصوراته . الحق منها والباطل ، المنتج منها والعقيم ، الرفيع منها والوضيع .
وللعقل إشراف تام أو ناقص على صفات المرء التي يكتسبها بالتخلق ، وعلى مراميه التي يندفع نحوها بالرغبة ، وعلى أعماله التي يصدرها بالإختيار .
والعقل من وجهة خاصة هو المجال الأول للدين ، فقد علمنا أن الدين هو منهاج الإنسان إلى كماله الأعلى الذي يبلغه بالاختيار ، والتفسير الواضح لذلك : أن الدين هو النهج القويم لتزكية العقل في ذاته وتوجيهه إلى الرشد في سلوكه .
وهذا ما نهج إليه كل دين فيما نعلم ، فان العقيدة من كل دين هي الأساس المتين الذي يقوم عليه هيكله ، أو الدعامة المكينة التي تشد بناءه . ومن أجل ذلك وجب أن تكون العقيدة جلية لا أثر فيها للغموض . وثابتة لا مجال فيها للتزلزل ، ويقينية لا ظل فيها للريب . لأن العقيدة وظيفة عقلية في مرحلتها الأولى والعقل صريح في أحكامه لا يقبل من الوظائف ما فيه غموض أو وهن أو إضطراب .
ولقد صدمت المسيحية كبرياء العقل حين دفعت إليه حزمة من العقائد لم يفقه للكثير منها مفهوماً ، ولم يجد للبقية منها برهاناً ، بل وأدرك أن الكثير منها متناقض الفكرة منحل القواعد . حين دفعت إليه هذه الحزمة من العقائد . ولم تجعل له حقا في نقدها ، ولا خياراً في قبولها .
وأنكمش العقل لهذه الصدمة ولم يدر ماذا يقول ، وما يقول وقد أبعد عن الحكم وحجر عليه القول ومنعت منه الخيرة ؟!
ولكنه بقي يتساءل : إذا كان الأمر خارجاً عن يده فلماذا يطلبون منه الإقرار ؟!
وقال رجال المسيحية ـ يلطفون الجوف ويعللون الأمر ـ : أسرار الدين لا يسمو إليها العقل ، ومن الخير له أن يؤمن وإن لم يفقه ، فان الدين لا يدعوه إلا إلى خير . وقال إتباع الكنيسة : الإيمان مركزه الوجدان .
وقال بعض الفلاسفة المحافظين : سبيل الإنسان إلى المعرفة اليقينية هو الحس والتجربة ، وهما لا يستطيعان أن يدركا حقيقة الله ولا أسرار الدين . فموضعهما القلب وليس موضعهما العقل .
وإنكمش العقل لأنه رأى الناس يتخادعون على حسابه . وبقي يتساءل مرة إخرى : إذا كان الدين لا مكان له في العقل فبم يميز هؤلاء الخطاء في الأديان من الصواب ؟!
إن العقيدة وظيفة عقلية في مرحلتها الأولى فيجب أن تكون جلية لا أثر فيها للغموض ، وثابتة لا مجال فيها للتزلزل ويقينية لا ظل فيها للريب . لأن العقل لا يقبل من الوظائف ما فيه غموض أو وهن أو إضطراب .
ومن أجل ذلك تنوع الإسلام في البرهنة على إصوله و إستحث الإنسان على التأمل فيها وشجعه على نقد حججها كي يوقن عن بصيرة ثم يعتقد عن يقين .
الدين سبيل التكامل الإختياري في نفس المرء وفي عقله ، ومحال أن يبلغ بالمرء هذا المدى ما لم يكن على صلة وثيقة بنفس المرء وعقله ، ومحال أن يبلغ بالمرء هذا المدى ما لم تخضع نفس المرء وعقله لأوامر الدين وإرشاداته ، وما لم يكن هذا الخضوع منهما عن طواعية وإختيار . محال أن يصل الدين بالإنسان إلى تلك الغاية مالم يبلغ من نفس الإنسان ومن عقله هذا المبلغ .
وكيف يخضع هذان لأوامر الدين وهدايته إذا لم يكن الإنقياد لمشرعه والإطاعة لمبلّغه عقيدة راسخة يتفهمها العقل وتمتلئ بها النفس ؟ .
هذه السبيل الطبيعية للدين متى أراد أن يسلك سلوكاً جدياً إلى الغاية .
على أن الدين في حقيقة المفهومة وفي وضعه اللازم . بل وفي مجاله اللغوي أيضاً رباط عبودية خاضعة يشد الإنسان إلى إله قادر قاهر ، ورسوم ترتكز على معاني تلك العبودية وهذه الربوبية يشرعها الرب ويمتثلها العبد ، وقد مرّ شرح هذا مفصلاً فليراجعه القارئ إذا شاء .
وإذن فالعقيدة هي الركيزة الأولى للدين ، وحجر الزاوية من بنائه .
على أن للإسلام من وراء العقيدة مرامي بعيدة الهدف بالغة الأهمية عظيمة الجدوى .
فالعقيدة في الإسلام مفتاح لتثقيف المرء وإذكاء مواهبه وتفتيق ما في ذهنه من طاقة وإرضاء ما في نفسه من طموح ، وللدفع به إلى الثقافة العالية والسمو به إلى المدنية الصحيحة .
يروم الإسلام من وراء العقيدة أن يدفع المرء ليكتشف ويوجهه ليبتكر و يستحدثه ليتقدم ويرتفع .
يريد أن يقيم العقيدة على كشوف العلم حتى لا يزيدها اطراد العلم إلا وضوحاً . وأن يربط العلم بالعقيدة حتى لا يفيده رسوخ العقيدة إلا قداسة .يريد أن يتبنى العلم من حيث أنه سند له في تمكين العقيدة فلا يقولن متنطع أن الدين يناكر العلم ، ثم يبارك العلم حيث أن وزر له على نيل الغاية فلا يفوهن متشدق أن العلم يصارم الدين .
الدين سبيل التكامل الاختياري في نفس المرء وعقله ، ولن يتم هذا التكامل إلا بالعلم ولن يتم إلا بالتهذيب .
من ثم كانت العقيدة في دين الإسلام مفتاحاً للنظر في علوم الكون .
في علوم الكون كافة دون إستثناء و دون اختلاف . فدلالة الخليقة على الخلق ، ودلالة الإبداع على حكمة المبدع ودلالة وحدة الأشياء في التصميم على وحدة المصمم ، هذه الشهادات يجدها العالم في فطرة الخلية البسيطة كما يجدها في خلقة الإنسان المعقدة ، ويراها في تكوين الذرة الصغيرة كما يراها في تنظيم المجرة الكبيرة .
ففي هذا الدين يجب النظر في شؤون الفلك وفي أسرار الطبيعة وفي قوانين الحياة وفي فلسفة التكوين وفي دقائق التركيب وفي خواص الأشياء وأنظمة الأحياء ، وفي خصائص كل نوع وفي مميزات كل صنف وفي حكمة كل جزء وفي غاية كل موجود .
كل أولاء يجب النظر فيه لتثبيت العقيدة في دين الإسلام ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة في القرآن ، وقد إطلع القارئ على عدد منها في الفصول السابقة .
هيكل العقيدة في الإسلام
العقيدة في صورتها معرفة ولا بد للمعرفة من الدليل .
وهي بعد إستكمالها إيمان ولا بد في الإيمان الرسوخ .
وهي عند إثمارها عمل ولا بد في العمل من الإخلاص .
وهذا هو هيكل العقيدة التي يبتغيها الإسلام من كل مسلم .
يريد منه أن يعرف حتى لا يساوره في معرفته ريب ، و أن يؤمن حتى لا تعروه في إيمانه ذبذبة ، وأن يلخص حتى لا يخامره في أعماله ولا في صفاته فسوق ولا رياء .
يريد منه أن يكون صورة ماثلة شاخصة للقوة والثبات والصدق في عرفانه و في إيمانه ثم في سلوكه وأعماله وصفاته وسماته ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 1هذا التجنيد الكامل للعواطف والمشاعر والغرائز والأخلاق والسر و العلانية للإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ، هذا هو الإيمان الصادق الذي يبتغيه الإسلام من أتباعه .
وأية شيمة من شيم الخير يفقدها المسلم وأية خلة من خلال السوء يداينها إذا خضع لهذه القيادة واتبع هذا الهدى ، وإذا كان لا يعمل إلا عن عقيدة ولا يعتقد إلا عن برهان ؟ .
و خلاصتها
أما خلاصة العقيدة في دين الإسلام فهي :
[1] توحيد الله في الإلوهية والربوبية توحيداً نقياً صافياً لا شائبة فيه لشرك ولا ظل فيه لتركيب ، ولا أثر الحلول أو إتحاد ، عميقاً عميقاً تمتد جذوره إلى إرادة المسلم فلا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به ، وإلى خلجات نفسه فلا يخشى أحد إلا الله ولا يضرع لكائن سواه ، وإلى آمال قلبه فلا يرجو غير الله ولا يرغب إلا إليه .
أما توحيد الله في الصفات فهو شوط كبير يختص به المذهب الإثنا عشري في مضمار التوحيد ، وبالأحرى هو تفسير دقيق للتوحيد الخالص الذي يجب أن يعتقده المسلم .
ومرد الفكرة إلى أمرين :
(أ) أن الله وحده مطلق الكمال في كل نعت يعد ظهورا للكمال .
(ب) وأنه سبحانه غني بذاته عن أي علة أو صفة هي غير ذاته .
فالله سبحانه حي بنفسه لا بعلة أو صفة غير ذاته تؤتيه الحياة ، والله قادر بنفسه لا لعلة أو صفة تكسبه القدرة ، وهو عالم بنفسه لا من أجل علة أو صفة تفيده العلم ، وهو سميع و بصير بنفسه لا بآلة أو علة أو صفة توليه السمع .
ثم هو كامل وغني بنفسه لا بسبب علة أو صفة غير ذاته تمنحه الكمال والغنى .
فليس لله صفة تزيد على ذاته ، فإن المدلول الصريح للصفات الزائدة أن الذات إستكملت بها عن نقص وإرتفعت من ضعة وأستغنت عقيب حاجة . ولا يجدي فتيلاً في رفع هذا المحاذير أن الصفات واجبة كوجوب الذات وقديمة كقدمها وإنها لم تنفصل عنها في الأزل ولن تنفصل عنها إلى الإبد . لا يجدي ذلك في رفع المحاذير بعد أن كانت غير الذات وإستكمال الذات بها لا يكون إلا عن نقص في الذات وأن لم يحصل في زمان .
ليس لله صفة بالمعنى الذي يستلزم الهبوط في الذات وإنما صفاته في الوجود عين ذاته . . . . عين ذاته الواحدة في الوجود المنزهة عن التركب المستجمعة للكمال ، المستأثرة بالغنى .
[2] تنزيه الله عن كل ناقصة من الصفات وعن كل شائن من الأفعال . فلا وهن ينال قدرته العامة ، ولا ظلم يثلم عدله الشامل ، ولا جهل يدنس علمه المحيط ، ولا عبث يشين حكمته التامة ، ولا نقص يلحق كماله المطلق .
ومن مظاهر هذه العقيدة تنزيه الله عن الجبر في الأعمال وعن الإكراه في الدين ،ومن أضوائها تنزيه أنبياء الله عن كل ما يهبط بالنفوس الزكية ويتضح بالصفات الحميدة .
[3] إذا كان الدين ضرورة يلجئ إليها إنتظام الحياة ، وإذا كان واضع الدين يجب أن يكون هو واضع نظم الحياة ، وإذا كانت كرامة الإنسان وحريته توحيان إليه أن لا يخضع في الدين إلا لمن يخضع له في التكوين . إذا كان جميع هذا حقا لا مراء فيه ـ وقد علمنا من قبل أنه كذلك ، وعرفنا أنه حكم البرهان وقضاء الفطرة ـ فلا بد لهذا الدين من مبلغ .
ولا بد له بعد فقد المبلّغ من الحجة الحافظ .
الدين نظام إختياري يرتكز على الإرادة ويتكئ على البرهان ، فهو لذلك يفتقر إلى المبلّغ المأمون .
والدين شريعة وضعية تقوم على الموازنة و تستمد من الملابسات ، فهو من أجل ذلك نصب للطوارئ وعرضة للتحريف ، وهو من أجل ذلك يفتقر إلى الحافظ المأمون .
مبلغ يستوعب شريعة الله كاملة ويؤديها إلى الناس غير منقوصة .
وقيم يستودعه ذلك المبلغ أمانته ويقيمه ملجأ للأمة بعد موته .
ذلك المبلغ الذي يحمل رسالة الله في دور التأسيس هو الرسول .
وهذا القيم الذي ينوب عن الرسول في حفظ الشريعة هو الإمام .
[4] إذا كان الله سبحانه مصدر كل شيء في البدء فإن إليه مصير كل حي في النهاية ، وإذا كان هو الرقيب على الأعمال في الدنيا فهو الحسيب المجازي عليها في الآخرة ، وإذا كان الدين منهاجاً للإنسان لا محيد من وضعه ولا مناص من إتباعه فلا محيص من يوم يقوم المرء فيه لتصفية النتائج وإستيفاء التبعات .
وأما البعث والنشور فإن الحديث عنه أوضح من أن يسجل وأبين من أن يفتقر إلى دلالة ، أليس من الهزل العابث أن يقول قائل : أن فلاناً الصانع الماهر قادر على أن يعيد ما إبتكره ؟! ثم من السخف المضحك بعد ذلك أن يطلب أحد من هذا القائل بينة على صحة هذه الدعوى ؟!
أرايت بنَّاءاً يقيم عمارة عظيمة تبدو فيها براعة الفن ومهارة الصناعة وجمال الذوق ، ثم يعي عن تجديدها إذا طرأ عليها طارئ ؟! . أم رأيت إمرءاً ذا مسكة من شعور يكبر على هذا البناء أن يعيد عمارته بما فيها من فن وبما لها من جمال ؟! .
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ 23.
___________
1. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 15، الصفحة: 517.
2. القران الكريم: سورة يس (36)، الآيات: 77 - 79، الصفحة: 445.
3. كتاب : الإسلام ، منابعه ، منهاجه ، غاياته للشيخ محمد أمين زين الدين .