الولاية .. امتداد المشروع الرسالي
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 1
عاشت قضية الغدير في الوجدان المسلم طيلة هذه القرون التي امتدت منذ أن وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عام احد عشر للهجرة آخذا بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام معلنا للأمة الإسلامية النص الجلي في إمامته و خلافته من بعده بعد أن مهد لذلك تلميحا مرّة و تصريحا أخرى على امتداد الزمان الذي عاشه رسولا لهذه الأمة و هو يعيش بين ظهرانيها .
و منذ ذلك الوقت و الأمة الإسلامية عاشت مع الغدير كرمز مقدس يشير إلى الامتداد الرسالي للولاية الإلهية منحة السماء إلى الوصي الأكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، و إلى السلسلة الذهبية من أهل بيته من بعده الأنوار القدسية ، هداة الأمة ، و منقذيها من الضلالة و التيه ..
الولاية مفهوم و أبعاد
الولاية من المفاهيم الاشكالية التي لم يتفق المسلمون على مفهومه طيلة التاريخ ، و ظلت تقرأ عند كل فرقة بقراءات متغايرة ، و لا تزال ، و لذا لابد لهذا المفهوم أن تعقد حوله الجلسات و الندوات و الحوارات ، حتى يسفر عن معناه الحقيقي ، و يعيه الناس ، فيأخذوا بحقيقته ، و ليتبوأ محله من بين المفاهيم الإسلامية الاخرى .
فلو تأملنا قليلا في أهمية المفاهيم الفكرية و العقائدية بالخصوص لوجدنا أن أي انحراف أو تدهور و انفلات في كيان أي أمة سببه الأول هو المفاهيم العقدية الذي نشأ عليه المجتمع أو ذاك ، كما أن الجانب التشريعي لأي أمة منطلقه الأول الجانب العقدي ، فالضياع في المفاهيم يؤدي إلى ضياع في التشريع .
فما سبب هذا الهزال في جسد الأمة ؟ و ما سبب هذا الذل و الهوان ؟ أليس هو تخلينا عن مفاهيم العزة و الكرامة التي منحنا إياها الإسلام العزيز ؟ أليس مفهوم الولاية من المفاهيم التي لو تمسكنا بها ، لأخذنا بأسباب القوة و العزة و الكرامة ؟ .
ما هو مفهوم الولاية ؟
الولاية فيما أفهم معنى يتسع و يمتد ليشمل أبعاد متعددة : فالبعد الأول : أن الولاية تعني المحبة و الارتباط القلبي مع هذا الإنسان الذي أمرنا بولايته و لقائل أن يقول : ما أثر المحبة ؟ و ما أثر أن يحب الإنسان إنسانا و يتصل به روحيا و عاطفيا ؟ في الحقيقة هذا له أثر على ذات الإنسان و على إصلاح ذاته ، فالإنسان حين يتصل روحيا و يعشق طرفا و شخصا ما فإن هذا الاتصال الروحي و هذا العشق و المحبة يلقي بظلاله على ذاته و سوف يتأثر بتلك الشخصية و يحاول أن يشاكلها و أن يشابهها و لذلك يقول الشاعر مستغربا ممن يحب و لا يتأثر بمحبوبه :
تعصى الإله و أنت تزعم حبه *** ذاك لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعتـه *** إن المحب لمن أحب مطيـع
فالحب لا يجتمع مع المعصية ، و لذلك يعاب على الفرد من أتباع أهل البيت إذا سار بالسيرة غير اللائقة لأنه خلاف مقتضى هذا الارتباط . هذه المحبة التي تعني التولي لا ينفك عنها شقها الآخر و هو التبري من أعداء الله لأنه في الحقيقة لا يمكن للإنسان أن يحب شخصا و يوالي أعداءه و لذلك في كثير من الروايات يشار إلى أن الدين هو الحب و البغض أي حب أولياء الله و البغض من أعداء الله .
و أما البعد الثاني : أن الولاية تعني المرجعية الفكرية ، أي المرجعية في أخذ معالم الدين و رجوع الإنسان أهل البيت ( عليهم السلام ) في أخذ تعاليم دينه ، و هذا هو مقتصة حديث الثقلين المتواتر الذي لا يمكن النقاش في الحقيقة في سنده و دلالته أيضا . فأهل البيت هم المرجع في اخذ معالم الدين على مستوى الفروع و على مستوى العقيدة و على مستوى المفاهيم و القيم و الأخلاق .
أيضا الولاية فيما نفهم من معناها في بعدها الثالث : تعني التسليم للولي في كل شأن من شئون الحياة ، التسليم له فيما يتعلق بالعقيدة و بفروع الدين و المسألة السياسية و الاجتماعية ... أي التسليم له جميع هذه الشئون و لا يتم في الحقيقة الولاء ما لم تكن هناك حالة من التسليم ، و لذلك اعتبرت الآية القرآنية القائلة : ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ 2 أو قوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... ﴾ 3 أن التسليم لله و للنبي شرط في الإيمان ، فالتسليم مطلق و هذا في الحقيقة روح الإسلام .
و أخيراً البعد الرابع للولاية فيما أعتقد هي حالة من المشاكلة و المشابهة : و أن الولي يلزمه أن يتشبه بمن تولاه و بمن والاه و هم الأئمة ( عليهم السلام ) ، يتشبه به و يشاكله في سيرته و في سلوكه و في مواقفه و في صبره و في جميع قيمه و أخلاقه و طبعا بقدر الجهد و الطاقة
و في الأخير ...
لا املك أن اختم هذه السطور إلا بالتأكيد على مسألة الولاية بأبعادها الأربعة السالفة الذكر ، ذلك لأنها تعني مسألة امتداد الخط الرسالي بالمستوى الذي يمكن فيه استكمال المشروع الرسالي ،لهذا كانت مسألة دراسة المستقبل الإسلامي بعد النبي ( صلى الله عليه و آله ) من القضايا التي تتصل بقوة الإسلام كرسالة يراد امتدادها بنفس الأصالة التي يمثلها الرسول ( صلى الله عليه و آله ) مما أوحى الله به في كتابه و مما أوكل إليه أمره في سنته و بهذا نفهم الآية التي صدرنا بها هذه المقالة و هي قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... ﴾ 1
_________
1. a. b. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 119 .
2. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 65 ، الصفحة : 88 .
3. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 36 ، الصفحة : 423 .