كربلاء .. فلسفة الحرية
كربلاء .. فلسفة الحرية
نـزار حيدر
تتمحور كل الرسالات السماوية حول فكرة استراتيجية واحدة ؛ ألا وهي التوحيد
، والتي تعني الإيمان بالله ، واحد لاشريك له : (
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ
* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )[الإخلاص]
، وفي آية اخرى ( قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )
[آل عمران : 64] .
ولو تمعنا النظر في مبدأ التوحيد لخلصنا إلى فكرة استراتيجية هي الجوهر
واللب من المبدأ ؛ ألا وهي قيمة الحرية ، فالتوحيد الذي يعني رفض عبادة غير
الله تعالى ، يعني في جوهره نفي العبودية لغيره ، والتي تنتهي إلى الحرية
بالمطلق ، فالإنسان الحر فقط هو الذي لا يعبد إلا الله تعالى ، أما الإنسان
العبد الخاضع لغيره من الناس ؛ فلا يمكن أن يدعي بأنه يعبد الله وحده ، لأن
التوحيد والعبودية لغير الله ؛ أمران يتنافران ويتناقضان ويتقاطعان ،
والعكس هو الصحيح ، فالتوحيد والحرية أمران متلازمان لاينفصلان أبدا .
على أساس هذا الفهم ، اعتمدت كل التشريعات السماوية خاصة في الدين الاسلامي
، الذي يعتبر الحرية أعلى وأغلى قيمة عند الانسان ، لا يجوز بأي حال من
الأحوال الإعتداء والتجاوز عليها ، لأن قيمة المرء وانسانيته تكمن في حريته
وحريته فقط ، فلا زال الانسان حراً ؛ وجب عليه الإلتزام بالتشريعات ، ولا زال
حراً ؛ فرض الله عليه الالتزامات الدينية والواجبات والفرائض والقواعد
والسلوكيات ، وفي غير هذه الحالة يسقط عنه كل ذلك ، فالحرية بأقصى معانيها
وأهدافها ، دافع إلى التطور وباعث على التقدم .
لقد لخص الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هذه الفلسفة
في جملة قصيرة ، قليلة الكلمات كثيرة المعاني ، وعميقة الفهم والوعي لهذه
الحقيقة ، عندما قال (عليه السلام) : ( لا تكن
عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ) ، والملفت في قوله (عليه السلام)
إنه لم يقل - وقد خلقك الله حرا - وإنما قال (
وقد جعلك الله حرا ) ، والفرق بين الخلق والجعل كبير كما هو
واضح ، فالخلق ؛ وهي عملية الصنع الإلهي ، يمكن أن يفقدها الإنسان لسبب من
الأسباب ، كما لو أنه يفقد عينه أو اذنه أو يده أو أي عضو من أعضاء جسده ،
أما الجعل ؛ وهو الفطرة بمعنى آخر ، فلا يمكن أن يفقده الإنسان مهما كانت
الظروف ، لأنه جزء من كيانه ، بل هو كيانه ، فالجعل هنا هو كالجعل في قوله
تعالى مخاطبا نبيه ابراهيم (عليه السلام) : (
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) [البقرة :
124] ، فعملية الجعل في الإمامة هي إرادة الهية ، لا يجوز لأحد
أن يتدخل فيها أو يتنازل عنها أو يعترض عليها أو يلغيها أو يؤجلها أو
يجمدها ، ولا يعمل بها أو يبدي رأياً فيها (
أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ )
[البقرة : 140] ، كذلك فإن الحرية التي جعلها الله تعالى للإنسان ؛
لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها أو يتنازل عنها ، فالمرء قد يكون حراً في أن
يتنازل عن أي شئ إلى غيره ، إلا حريته ؛ لا يجوز له أن يتنازل عنها باي حال من
الأحوال ، كما انه لا يجوز لكائن من كان ، أن يتدخل في حرية الإنسان فيصادرها
أو يلغيها ، فإن ذلك يعد تعدياً على خلق الله تعالى وإرادته ، كما لو أن
الانسان تعدى على حياة أخيه الانسان فسلبها منه ، أو لم يقل القران الكريم
: ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً )
[المائدة : 32] .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، فقد ظل أمير المؤمنين (عليه السلام) يحث الناس
على التشبث بحريتهم ، من خلال استشعارها في نفوسهم ووجدانهم وعقولهم ، فكان
يكرر (عليه السلام) قوله : ( لم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين
) ، كما كان يرفض
أن يجبرهم على الإيمان بشيء او اتخاذ موقف لا يريدونه أو يكرهونه ، فكان يقول
( وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون )
، لأن الإكراه ينقض الحرية ، فيقول لأحد
خصومه ( وقد أذنت لك أن تكون من امرك على ما بدا لك
) ، ومعنى ذلك انه حتى
السلطة الحقّة التي تأتي إلى سدة الحكم بإرادة الناس من خلال الإنتخابات
الحرة والنزيهة ، لا ينبغي لها أن تجيز لنفسها نقض الأصل ، والذي هو حرية الرأي
وحرية الإختيار ، ولذلك قال (عليه السلام) في البيعة :
( ودعوت الناس الى بيعتي ،
فمن بايعني قبلته ، ومن أبى تركته ) ، بل إنه (عليه السلام) كان يسعى دائما
إلى أن
يبث الثقة في نفوس الناس ؛ من أجل أن لا يتنازلوا عن حريتهم في كل الظروف ،
فيقول (عليه السلام) ( وأنتم أعلم بالحلال والحرام ، فاستغنوا بما علمتم
) ،
ولقد كانت الحرية في نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) تقوم على مبدئين
أساسيين :
الأول: هو أن الحرية لا تتجزأ ابداً ، فلا يمكن أن يكون المرء حراً في
شيء
وعبداً في آخر .
والثاني: هو أن الحرية حريتان ؛ حرية فردية وحرية جماعية ، وإن الأولى تنتهي
عند حدود الثانية ، إذ لا يحق للإنسان أن يفعل ما يشاء ؛ بحجة أنه حر في
تصرفاته ، فإذا تعارضت حريته مع حقوق الآخرين وحرياتهم ؛ كان لزاماً ايقافه عند
حده ، وإن القانون هو الذي يقرر هذه الحدود .
إن التكليف مرتبط ارتباطا وثيقاً بالحرية ، كما إن العزة والكرامة مرتبطة
ارتباطا وثيقا بالحرية ، بعبارة أخرى ، فالإنسان بلا حرية ، هو إنسان بلا
كرامة ، وهذا ما يتناقض مع قول الله تعالى في محكم كتابة الكريم :
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ )
[الإسراء : 70] ، ما يعني حرمة انتزاع الحرية من الإنسان
، لأن ذلك يعني انتزاع
كرامته ، ما يعتبر عند المشرع تجاوز على حدود الله تعالى ، وتدخلا في شؤونه ،
وتحدياً للفطرة التي فطر الناس عليها .
ففي الآية المباركة : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف : 157]
، يتحدث القرآن الكريم عن فلسفة البعثة النبوية وجوهرها ، والذي
يتلخص بقيمة الحرية التي تلغيها نوعان من المعوقات :
الأولى ذاتية ؛ والتي يسميها القران الكريم بــ ( الإصر)
؛ كالذنوب والخنوع
والتذلل لغير الله عز وجل ، وعبادة الذات والشخصية وغير ذلك .
والثانية ؛ الخارجية والتي يسميها القران الكريم بـ (الأغلال)
؛ وهي كل معوق
خارجي يصادر حرية الإنسان ويسحقها كالطاغوت والنظام السياسي الفاسد والسخرة
الجماعية وغير ذلك .
بالنسبة إلى النوع الأول ؛ فقد حذرت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من مغبة
كل صفة ، أو خصلة ذاتية ، تحول دون تمتع المرء بحريته ، ففي قول امير المؤمنين
(عليه السلام) : ( لا يسترقنك الطمع ، وقد جعلك الله حرا
) ، إشارة واضحة إلى هذا
المعنى ، وكذلك في قوله (عليه السلام) : ( من ترك الشهوات كان حرا
) ، وعن الإمام
جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قوله : ( إن صاحب الدين... رفض الشهوات فصار
حرا ) ، وفي قول امير المؤمنين (عليه السلام) :
( العبد حر إن قنع ، والحر عبد إن
طمع ) ، وعنه كذلك : ( من زهد في الدنيا
؛ اعتق نفسه وأرضى ربه ) وعنه عليه السلام
: ( الدنيا دار ممر ، والناس فيها رجلان ، رجل باع نفسه
فأوبقها ، ورجل ابتاع نفسه
فأعتقها ) وعنه : ( ألا حر يدع هذه اللماضة
لأهلها ؟ إنه ليس لانفسكم ثمن إلا
الجنة ، فلا تبيعوها إلا بها ) و( من كرمت عليه نفسه
؛ هانت عليه شهواته ) و ( يا
أسرى الرغبة أقصروا ، فإن المعرج على الدنيا لا يروعه منها ؛ الا صريف
أنياب
الحدثان ) و ( المسؤول حر حتى يعد ) و
( الطامع في وثاق الذل ) و
( الطمع رق
مؤبد ) و( ازرى بنفسه من استشعر الطمع ، ورضي بالذل من كشف عن ضره ، وهانت عليه
نفسه من أمر عليها لسانه ) و ( أكثر مصارع العقول
؛ تحت بريق المطامع ) و ( كم من
عقل اسير ، تحت هوى امير ) وأخيرا وليس آخرا ، قوله (عليه السلام)
: ( فاكرم نفسك عن
كل دنية ، وإن ساقك رغب فانك تعتاض بما بذلت من نفسك ) .
أما بالنسبة إلى النوع الثاني ؛ فقد رسمت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
خارطة طريق للإنسان الذي يحرص على ان لا يفقد حريته بسبب العوامل الخارجية ،
أولا ؛ من خلال التأكيد على قيمة الحرية ، وكونها خلق الله وليس خلق البشر
، ليتصرفون بها كيف يشاؤون ، كما في قول امير المؤمنين (عليه السلام) :
( أيها
الناس ان آدم لم يلد عبداً ولا امةً ، وإن الناس كلهم أحرار ) ، لاحظ استعمال
الإمام (عليه السلام) كلمة الناس ، وليس المؤمنين أو المسلمين أو ما أشبه ، ما
يعني أن الحرية قيمة إنسانية وليست دينية ، أو مذهبية أو إثنية ، وفي قوله
: ( لا
تكونن عبد غيرك فقد جعلك الله سبحانه حراً ، فما خير خيراً لا ينال الا بشر ،
ويسراً لا ينال الا بعسر ) ، وقوله ( الحر حر ولو مسه الضر
) وقول الإمام جعفر بن
محمد الصادق (عليه السلام) : ( إن الحر حر على جميع
أحواله ، إن نابته نائبة صبر
لها ، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره ، وان أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا ،
كما كان يوسف الصديق الأمين ، لم يضرر حريته إن استعبد وقهر وأسر )
.
وثانيا ؛ من خلال التأكيد على ان الخضوع للطاغوت والسكوت على الظلم ومساعدة
المتجبر ، كلها امور تتناقض وحرص المرء على حماية حريته من العبث ، ففي الآية
الكريمة : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ
انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
[البقرة : 256] اشارة
واضحة إلى هذا المعنى ، كما ان قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)
( سيد الشهداء عند الله يوم
القيامة حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام الى امام جائر فامره ونهاه فقتله )
إشارة أخرى لنفس الحقيقة ، أما قول امير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته
للحسنين (عليهما السلام) ( كونا للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً
) فيلخص المفهوم
بأدق تعبير وأشمل معنى .
لقد شرعن القران الكريم ومدرسة أهل البيت ؛ الجهاد ضد الظلم والنضال ضد
السلطة الغاشمة ، فلا مجال للسكوت عن مثل ذلك باية حجة ، لدرجة ان الله عز
وجل قال في محكم كتابه الكريم : ( لاَّ يُحِبُّ
اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ
اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) [النساء :
148] ، فيما خاطب امير المؤمنين من وقع عليهم الظلم
وظلوا ساكتين بقوله : ( ألا تسخطون وتنقمون أن يتولى عليكم السفهاء الظالمون ،
فتعموا بالذل وتقروا بالخسف ، ويكون نصيبكم الخسران ) .
من جانب آخر ؛ فلقد حثت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على الالتزام بكل قيمة
تساعد المرء على ان يحافظ على حريته فلا يخسرها ، منها قول امير المؤمنين
(عليه السلام) : ( الطلاقة شيمة الحر ) و
( حسن البشر شيمة كل حر ) و
( إن الحياء
والعفة من خلائق الإيمان ، وإنهما لسجية الأحرار وشيمة الأبرار ) و
( جمال الحر
تجنب العار ) و ( إن قوماً عبدوا الله شكراً
؛ فتلك عبادة الأحرار ) و ( من قضى ما
اسلف من الاحسان فهو كامل الحرية ) و
( الحرية منزهة من الغل والمكر ) و ( من
توفيق الحر ؛ اكتساب المال من حله ) و
( أبذل مالك في الحقوق ، وواس به الصديق ، فإن السخاء بالحر اخلق )
، فالحرية بشروطها ، وإن السجايا الذاتية من شروطها ،
ولذلك قال امير المؤمنين (عليه السلام) : ( من قام بشرائط الحرية أهّل للعتق ، من قصر عن احكام الحرية اعيد الى العتق
) ، ولقد لخص (عليه
السلام) هذا المعنى بقوله : ( إياك وكل عمل ينفِّر عنك حراً
، ويذل لك قدراً ، ويجلب عليك شراً ، أو تحمل به يوم القيامة
وزرا ) .
إن الحرية ؛ هي أساس كل الخصال الحميدة ، كما انها حجر الزاوية في بناء شخصية
الإنسان ، وإلى هذا المعنى اشار الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بقوله : ( خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع
؛ أولها
الوفاء ، والثانية التدبير ، والثالثة الحياء ، والرابعة حسن الخلق ، والخامسة وهي
تجمع هذه الخصال ، الحرية ) فالحرية إذن هي أساس كل خير وهي إنسانية
الإنسان ، وقيمته الحقيقية ، فالمرء بلا حرية يكون عديم الوفاء ، والتدبير
والحياء وحسن الخلق ، وكل خصلة إنسانية وأخلاقية أخرى .
إن الإنسان بلا حرية ؛ لهو حيوان ناطق ، فهو إمَّعة في أحسن الفروض ، كما ان
الإنسان بلا حرية ؛ لهو انسان بلا رأي وموقف ، وبالتالي فهو إنسان بلا كرامة ،
لأن كرامة بني آدم ؛ تتجلى في حريته التي تمنحه القدرة على الاختيار ، وهذا هو
بالضبط الفرق بينه وبين الحيوان ، فبينما يمتلك الإنسان إرادة الإختيار إذا
كان يمتلك حريته ، لا يمتلك الحيوان أية إرادة للاختيار، لأنه لا يمتلك
حريته ، إنما فطره الله تعالى فسيره ، أما الإنسان فمخيّر ، لأنه حر يمتلك
الخيار ، والى هذا المعنى أشارت عدد من آيات القران الكريم كما في قوله عز
وجل : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) [الإنسان :
3] ، وفي قوله عز وجل : ( وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ ) [البلد : 10] .
ولكل ذلك اهتمت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالتنظير كثيراً لمفهوم
الحرية ، كما انها مارست المفهوم بشكل كبير وواسع جدا ، لدرجة أنها ضحت من
أجل تثبيته بكل حقوقها الخاصة ، من أجل الصالح العام ، فهذا امير المؤمنين
(عليه السلام) يضحي بموقعه الديني والدنيوي من أجل ذلك ، وكذا الامام الحسن
السبط ، أما الإمام الحسين السبط فقد ضحى بكل شيء من أجل الحرية ، ليكرّس في
ذهن الناس حقيقة إنكم بلا حرية ؛ إنما لستم آدميين ، ولذلك قال قولته المشهورة
وهو يخاطب جيش البغي : ( إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا
أحراراً في دنياكم ) ، أي كونوا آدميين في دنياكم ، من خلال تشبثكم بحريتكم ، ولو
انهم كانوا كذلك ، لما اطاعوا الظالم ، فارتكبوا أعظم جريمة في التاريخ .
ولأهمية الحرية وموقعها الاستراتيجي في شخصية الإنسان - الفرد - ، والإنسان
- المجتمع - ، منع الاسلام أحدا من مصادرتها وسحقها ، وبأي حجة من الحجج ،
تعالوا نقرأ هذه الباقة من الآيات القرانية الكريمة ، لنتثبت من هذه الحقيقة
بالغة الأهمية : قوله تعالى :
( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ
عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) [الغاشية :
21-22] .
( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة :
256] .
( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * َمَن شَاء
ذَكَرَهُ ) [المدّثر : 54 - 55] .
( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ
وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ
وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ ) [آل عمران : 20] .
( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) [المائدة : 92]
.
( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ
وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )
[المائدة : 99] .
( وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) [الرعد : 40]
.
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء
اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ )
[النحل : 35]
.
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) [النحل : 82] .
( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا
حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) [النور : 54]
.
( وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن
قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )
[العنكبوت : 18] .
( وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
) [يس : 17] .
( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا
أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ )
[الشورى : 48] .
( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )
[التغابن : 12] .
( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ
وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )
[النساء : 80]
.
( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ ) [النحل : 125]
.
( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ
مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99] .
( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ
إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً )
[النساء : 84] .
فاذا كان حال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو النبي المعصوم والرسول المبعوث من قبل الله
تعالى - والذي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى )
[النجم : 3- 4] - مع الناس هكذا ، فما
بالك بغيره ؟ هل يحق لاحد منهم ان يكره الناس ويفرض نفسه عليهم مشرعا أو
حاكما ؟ .
لقد نهى الله تعالى وهو الخالق المتعال ، رسوله الكريم أن يكون مسيطراً
وفارضاً ومكرهاً ومجبراً ، فكيف اجاز غيره لنفسه أن يؤدي مثل هذا الدور ؟ كيف
اجازت الانظمة السياسية الاستبدادية والبوليسية لنفسها ان تسيطر على عقول
الناس وممارساتهم ، بعد ان صادرت حريتهم ، فحولتهم إلى قطيع من الأغنام تؤمر
فتطاع ، وتساق فتهتدي ؟ وكيف اجازت جماعات العنف والارهاب لنفسها ان تأمر
وتنهى وتجبر وتقمع وتكفر وتقتل وتذبح ، كيف ومتى وانى شاءت ، بعد ان نصَّبت ، نفسها ولياً على الناس ، وممثلاً عن الله في
أرضه ؟ .
مَنْ أعطى الحق لفقهاء التكفير أن يقرروا ما اذا كان زيد سيدخل الجنة وان
عمرو لا يدخلها ؟ وأن فلاناً مؤمناً يستحق الحياة ، وغيره ليس مؤمناً وكافراً لا
يستحق الحياة ، ولذلك يجب ان يُقتل ويُذبح وتُنتهك عرضه ، وتُصادر أمواله ؟ .
ليس لله تعالى ظل في هذه الارض ، وليس له عز وجل وكيل او ممثل ، إنما الإنسان
خليفته في الأرض ليعمرها وليس ليغرقها بالدم والظلم والعدوان والتسلط غير
المشروع ، أو لم يقل رب العزة في كتابه الكريم :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً ) [البقرة : 30] ؟ .
إن أول من تصدى لمثل هذا الدور هم الأمويون الذين عينوا أنفسهم ولاة على
الناس بغير حق ، ولذلك واجههم الإمام السبط الحسين بن علي (عليهما السلام)
بعمل مد وضحى فيه بالغالي والنفيس ، لأن مثل هذا الدور يقضي على الإسلام ،
ويمحو اثر النبي الكريم ، من خلال الغاء الحرية أولا ، فهي كما أسلفنا حجر
الزاوية في خلق الانسان ، فإذا الغيت الغي الانسان ، وإذا الغي الانسان ،
الغيت مهمة الرسول ، وإذا الغيت مهمة الرسول ، الغيت الرسالة ، وإذا الغيت
الرسالة ، الغي مبدأ الثواب والعقاب ، وإذا الغي هذا المبدأ ، لم يبق من فلسفة
الخلقة التي تعتمد على مبدأ - الثواب والعقاب - بعد التبليغ والقاء الحجة
وتحمل المسؤولية ، أي شيء .
ولذلك يعتقد المنصفون ، وكل من قرأ رسالة الحسين السبط بشكل صحيح لا لبس فيه ،
على ان الاسلام حسيني البقاء ، لأن كربلاء حفظت الحرية التي تحفظ الانسان
الذي يحفظ الدين .
ولولا ثورة الحسين (عليه السلام) لنجح الامويون في :
الف ؛ شرعنة مبدأ الوصول إلى السلطة بالقوة ، بعد القضاء على روح المقاومة
للظلم والطغيان والجبروت ، على القاعدة السياسية التي رسم معالمها معاوية بن
ابي سفيان بقوله المشهور لعماله ، وقادة جنده ( فاقتل من لقيته ممن ليس هو على
مثل رأيك ، وانهب اموال كل من اصبت له مالاً ، ممن لم يكن له دخل في طاعتنا )
أو
قوله ( اقسم بالله لان رد علي احدكم كلمة في مقامي هذا ، لا ترجع إليه كلمة
غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقين رجل الا على نفسه ) .
باء ؛ شرعنة الطبقية السياسية التي تقسم الناس الى صنفين ، الأول خلقه الله
ليمارس السلطة ، والثاني خلقه الله ليكون عبداً مطيعاً لهذه السلطة ، كما هو
الحال تحديداً في الأنظمة الوراثية التي لازال بعضها يحكم في البلاد العربية
والإسلامية ، كامتداد للنهج الاموي .
جيم ؛ شرعنة مفهوم إن الحاكم هو ظل الله في الأرض ، ولذلك فإن كل ما يقوله
أو
يفعله أو يقرره فهو حق ، لا ينبغي لأحد أن يناقش أو يجادل فيه ، وان الخروج
على هذا الظل يعد خروجا على الله تعالى ، الذي ألبس هذا الظل قميصاً لا ينبغي
لأحد أن يخلعه عنه ، فإذا عوتب في تبذير المال العام مثلا ، أجاب : ( الأرض
لله ، وانا خليفة الله ، فما آخذ من الله فهو لي ، وما تركته منه كان جائزاً
لي ) على حد قول معاوية ، أما إذا علت أصوات بعض الناس تطلب منه أن يدع الناس
وشأنهم ، فهم أحرار فيما يفكرون ويختارون ويعملون ، فيجيب ( ندع الناس ما لم
يحولوا بيننا وبين ملكنا ) كما كان يرد معاوية .
إن كل هذه القيم ، فيما لو كان الأمويون قد نجحوا في تمريرها في ذهن الأمة
وفي الواقع السياسي ، وحولوها إلى دستور دائم ، يعمل به الخلف بعد السلف ، كانت
ستلغي آدمية الإنسان وتلغي فلسفة الخلقة ، لأنها تلغي أولا وقبل كل شئ
الحرية ؛ التي هي كما أسلفت حجر الزاوية في كل البناء .
لقد استهدف الحسين السبط حماية الحرية من خلال ما يلي:
أولاً: إسقاط شرعية السلطة الأموية التي نزت على الخلافة بغير مشورة
، ولا رضى
من الأمة ، والحيلولة دون تحويل الخلافة إلى ملك عضوض ، يتوارثه الأبناء
والأسر رغما عن انوف الناس ، فقال (عليه السلام) :
( أما بعد أيها الناس ، فإنكم
إن تتقوا الله ، وتعرفوا الحق لأهله ، يكن ارضى لله ، ونحن أهل البيت أولى
بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم
بالجور والعدوان ) .
ثانيا: تسفيه نظرية الحاكمية المطلقة للسلطة ، والتي تلغي إرادة الأمة ، من
خلال ما أشاعه الأمويون من فكرة ( إنما السواد بستان لقريش ما شئنا أخذنا
منه وما شئنا تركناه ) أو قولهم ( لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وان رغمت أنوف
أقوام ) أو قولهم ( وانما أنا سلطان الله في أرضه ) .
ثالثا: التمييز بين الطاعة والعبودية ، فطاعة الحاكم شيء وعبادته شئ آخر ،
فالإولى ؛ تعني إعانته على إنجاز عمل الخير ، وكل ما يساهم في خدمة الناس وعلو
شانهم ، اما الثانية ؛ فتعني الرضا بكل سياساته بغض النظر عن صحتها من سقمها ،
ما يلغي دور الرقابة والمحاسبة والإعتراض ، أما الطاعة فلا تلغي كل ذلك ، بل
تشجع وتحرض عليه ، وهي بذلك تساهم في تحقيق نجاحات السلطة .
رابعا: إثارة مبدأ حرية الإختيار ، لاسقاط مفهوم البيعة بالإكراه ، والتي
يعتبرها الحسين السبط أنها غير شرعية ، حتى إذا اضطر الإنسان لاعطائها في ظرف
سياسي معين ، ولذلك لم يسع كل أهل البيت (عليهم السلام) بما فيهم أمير
المؤمنين الذي انتخبته الأمة ببيعة عامة ، لم يسعوا الى إجبار أحد على بيعة
أو على طاعة ، لاعتقادهم الجازم وإيمانهم الراسخ بحق العقل ، وحق الضمير في
البحث الحر والرأي المستقل ، ولقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يولي
عاملا على مصر من أمصار الدولة التي يحكمها ، إلا بعد أن يقبل الناس بالعقد
الإجتماعي الذي يبعثه مع من يقترحه عليهم ، لتكون بيعتهم لعامله عن رضى
وقناعة ، وليس عن فرض وإكراه وجبر .
خامسا: تفسير مفهوم الحياة والموت بطريقة أخرى ، تختلف عما يفهمه الناس ،
وذلك من خلال ربط المفهوم بالحرية ، فكان (عليه السلام) يقول :
( موت في عز ، خير
من حياة في ذل ) وهي كقول أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل
: ( الموت في
حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين ) .
سادسا: تجلي حسن الإختيار ، ليحقق المرء إرادته ويحافظ على حريته ، فقال
(عليه
السلام) : ( ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين
؛ بين السلة والذلة ،
وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور
طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام )
.
او في قوله (عليه السلام) : ( لا والله ، لا أعطيهم بيدي
إعطاء الذليل ، ولا أفر
فرار العبيد ) .
سابعا: شرح مفهوم البيعة ، أو ما يسمى اليوم بصوت الناخب ، الذي يدلي به في
صندوق الإقتراع ، كمسؤولية شرعية وتاريخية ، لا ينبغي لأحد أن يعطيها لكل من
هب ودب ، فقد تنتهي به الى النار ، بعد أن تصادر حريته وتقضي على كرامته
، وتفسد المجتمع بنظام سياسي فاسد ، فقال عليه السلام :
( إنا أهل بيت النبوة ،
ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا
يبايع مثله ) ، وبذلك يكون الإمام (عليه السلام) قد رسم معالم نهجين متناقضين لا
يلتقيان أبدا .
إن الحسين السبط (عليه السلام) لم يفعل أكثر من أنه نبه الناس إلى الخطا
والإنحراف والظلم ، فجابه الطاغوت بكل ما أوتي ، فكان (عليه السلام) ناقوس
الخطر ، الذي يسعى الطاغوت دائما إلى إزاحته عن طريقه ، لأن الطاغوت يرتعد من
كل ما ينبه الناس إلى الحقيقة ، ويعلمهم طريق النجاة ، فالمنبه يوقظ الناس ،
فيما يسعى الطاغوت الى أن يحافظ عليهم نائمين في سبات عميق ، ليفعل بلا رقيب
ويحكم بلا سلطان عليه ، لا من شعب ولا من معارضة ولا هم يحزنون ، كما هو الحال
اليوم بالنسبة الى الأنظمة الشمولية ، التي تسعى لإسكات كل صوت حر معارض
، يساهم في إيقاض الناس وتنبيههم إلى حالهم ، وإلى الواقع المزري الذي يعيشونه
في ظل نظام قمعي بوليسي استبدادي ، يصادر حرية الناس ويقمع أنفاسهم ويسحق
كرامتهم .
فالمصلح خارج على إمام زمانه ، والمعارض عميل وخائن ، والناطق بالحق فوضوي
ومهرج ، وليس لكل هؤلاء إلا السيف والقتل والإعدام والسحل والسجن والمطاردة
والإبعاد ، خوفاً على الناس النوَّم ، من الإستيقاض ، ما
يثير المشاكل في وجه السلطة ، ويسبب وجع الرأس للحاكم (الأوحد) والقائد
(الضرورة) .
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .