ملاحظات حول الدولة العثمانية
1 ـ خلافة الغلبة والقهر لا خلافة النبي
صارت الدولة العثمانية دولةً بالغلبة والقوة العسكرية ، وهذا هو كل رأس مال دول الخلافة جميعاً ما عدا خلافة علي عليه السلام . فالدولة العثمانية كغيرها من دول القهر ، شرعيتُها الغَلَبَة للآخرين وإجبار الناس على الخضوع والبيعة !
محتويات [إخفاء]
1 ـ خلافة الغلبة والقهر لا خلافة النبي
2 ـ محاولة شرعنة الحكم بالغلبة
3 ـ فوائد احتكاك المسلمين بالروم
4 ـ الاخلاق المغولية في بني عثمان
5 ـ لماذا انتهت تركيا وبقيت إيران ؟
6 ـ تنقل مركز التعصب الأموي ضد الشيعة !
7 ـ اضطهاد الدولة العثمانة للشيعة العرب
8 ـ قانون دفع الله الناس ببعضهم
والبيعة التي يتشبث بها حكامها وأتباعها لإثبات شرعيتها، مثل الديمقراطيات التي يتشبث بها الغربيون لنصب حكام في بلادنا ! ولذلك يبقى مذهب أهل البيت عليهم السلام أقوى من كل تبجحهم ، لأنه يحترم الدين والناس !
يحترم الدين ، لأن الحكم في الأرض إن كان لله تعالى فلا بد من نص من رسوله صلى الله عليه وآله لطريقته أو أشخاصه . وإن كان للناس فلا بد أن يكون بانتخاب ورضىً ، بإرادة حرة لا إكراه فيها ، ولا إجبار !
ويحترم الناس ، لأنه يؤمن أن بيع سلعة بعشرة فلوس بالإجبار والإكراه ، باطلٌ شرعاً ، وبالأحرى ليس بيعاً ولا شراءً لفقدانه عنصر الإرادة الحرة في الفعل الإنساني ، فلا المشتري يملك به السلعة ولا البائع الثمن! فما بالك ببيعةٍ تُسَلِّم إلى الحاكم مقدرات الإنسان وحقوقه ومصيره ، ومصير الأمة كلها ؟!
2 ـ محاولة شرعنة الحكم بالغلبة
منذ أن فرض زعماء قريش بعد النبي صلى الله عليه وآله دولة الغلبة والى يومنا هذا يحاول فقهاء الخلافة شَرْعَنَةَ عملهم في حكم الأمة الإسلامية ، فقالوا إن الشرعية تتحقق للخليفة بمجرد أن يبايعه شخصٌ آخر ! وأنه بمجرد صفقة عمر على يد أبي بكر في السقيفة صار أبو بكر حاكماً شرعياً على جميع المسلمين ، تجب عليهم طاعته وتحرم مخالفته !
ثم رأوا أن ذلك بابٌ خطير ، فقد سمع عمر أن شخصاً قال لئن مات عمر لأصْفِقَنَّ على يد فلان وأبايعه ! فخطب عمر محذراً من ذلك وقال لا تجوز البيعة بدون مشورة المسلمين أبداً ، وإن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فمن فعل مثلها وصَفَق على يد أحد كما فعلتُ مع أبي بكر فاقتلوه! 1 .
على أن المشكلة الأكبر أمام مشروع الخلافة عند بني عثمان جُق أنهم ليسوا عرباً ، وفقه الخلافة قبلهم مُجْمِعٌ على القول إن الحاكم يجب أن يكون عربياً قرشياً ، وإلا فلا شرعية له ولا أثر لبيعته ولا كرامة !
لهذا تحركت عقول فقهاء بني عثمان فوجدوا الحل عند أبي حنيفة ، حيث نُسب إليه عدم اشتراط القرشية في الحاكم ، وأن بيعة غير العربي تصح ! فحمد أولاد عثمان ربهم وفقهاؤهم ، وأعلنوا أبا حنيفة إماماً رسمياً لجميع المسلمين ونشروا مذهبه ، وبنوا قبره ببغداد أحسن بناء ، وسموه الإمام الأعظم ، وسموا محلة القبر الأعظمية ! واليك شيئاً من التفصيل عن تاريخ المسألة وفقهها :
فقد احتج عمر على الأنصار في السقيفة بأن محمداً صلى الله عليه وآله من قريش ونحن قبائل قريش قومه وعشيرته فنحن أحق بسلطانه ، ولا ينازعنا سلطان محمد إلا كافر ؟! وذلك ليُسَكِّتَ الأنصار الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم .
لكن عمر نفسه تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة فقال إن بيعة أبي بكر فلتة ، أي غير شرعية فمن فعل مثلها فاقتلوه ، كما تقدم ! وقال قبل موته : ( لو شهدني أحد رجلين استخلفته .. ثم وضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة! ) 2 . وسالم غلامٌ فارسي يملكه رجل أموي هو أبو حذيفة !
لكن فقهاء الخلافة أخذوا بمذهب عمر الأول دون الثاني ، فجعلوا من شروط الخليفة أن يكون من قبائل قريش ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله أحاديث في ذلك وصححوها وما زالوا الى يومنا هذا ! 3 ، وقال في آخره 4 / 70 : ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية أن يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا إلى دينهم ويتبعوا أحكام شريعتهم ، ومن ذلك أن الخلافة في قريش بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه . كما صححه في : 3 / 7 ، برقم 1006 ، وقال : ( قلت : وفي هذه الأحاديث الصحيحة رد صريح على بعض الفرق الضالة قديماً وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً ، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً . وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في ( الدولة الإسلامية ) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة ، إلا هذا الشرط ، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها ، ولما ذكَّرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع . ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً ، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية ! وسواء كان هذا أو ذاك ، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب ، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي ، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم . والطريف أنه صحح حديثاً آخر برقم 1851، نصه : ( الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة ) ! وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أي قبائلها كان ، والوزراء من الأنصار ، ووزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة خاصة من أثيوبيا ! لأن الوجوب الذي استفاده من الحديث تتساوى فيه الخلافة والوزارة والدعوة !
ثم جاء فقهاء بني عثمان، فوجدوا لأبي حنيفة قولين كعمر ، فقد كان أول أمره زيدياً متعصباً يقول ببطلان الخلافة بالغلبة ويقول في زيد : ( لقد ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وآله في بدر ) وكان يصف العباسيين بأنهم لصوص الخلافة! 4 . وكان يشترط القرشية حتى في القاضي 5 . لكنهم نقلوا عنه أنه تغير بعد ذلك وقال بصحة خلافة غير القرشي ، فقبضوا على هذه اللقطة وأهدوها الى العثمانيين ، فأعلن السلطان سليم نفسه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله عملاً بالرواية الثانية للإمام الأعظم أبي حنيفة بن النعمان بن زوطي الهروي ، وصرفوا لترويج مذهبه ملايين من أموال فقراء المسلمين !
وينبغي أن نشير هنا إلى أن مذهبنا وإن قام على حديث النبي صلى الله عليه وآله أن الأئمة جعلهم الله في هذا الفرع من قريش ، وهم عترته الإثنا عشر : عليٌّ وأحد عشر إماماً من ولده خاتمهم المهدي عليهم السلام لكن ذلك لا يعني اشتراط أن يكون الحاكم في عصرنا قرشياً أو عربياً ، بل شرطه الكفاءة والعدالة من أي جنسية كان .
3 ـ فوائد احتكاك المسلمين بالروم
بدأ احتكاك المسلمين بالروم بمعركتهم في مؤتة ، ثم في فتح الشام ، وكان أهمها معركة اليرموك ، وقد تقدم أن الروم انهزموا مذعورين ، فأمر هرقل بالإنسحاب إلى القسطنطينية وقال : سلام عليك يا سوريا.
لكن استمر الإحتكاك العسكري والتجاري بين القسطنطينية وتوابعها ، وبين المسلمين في الشام ، ثم في المناطق التي فتحوها من تركيا ، وقد عدُّوا لسيف الدولة الحمداني من حلب سبعين غزوة ومعركة مع الروم .
ثم جاء الفرنجة من فرنسيين وبرتغال وإنكليز وغيرهم ، فكان ساحل تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر على احتكاك معهم بحروب وتبادل تجاري وثقافي . وتميزت تركيا بأنها جاورت الروم في ساحل المتوسط ، وفي البر من جهة شرق أوروبا ، حيث وصلت فتوحاتها الى النمسا .
وكان في هذا الجوار والصراع فوائد كثيرة استثمرها الأوروبيون فاكتسبوا من المسلمين في مجالات الفكر والعلوم والثقافة، لكن المسلمين لم يستفيدوا منهم في العلوم الطبيعية إلا ضئيلاً ! والسبب أن حكوماتهم وخاصة الخلافة العثمانية لم يكن عندهم اهتمام بالعلم والإعمار كنصير الدين الطوسي قدس سره والجوينيين ، فقد كان خلفاؤها محاربين بيروقراطيين فقط ! ولذلك اهتموا بالسفن والمدافع ، واهتموا بتشكيلات القصر والمراسم ومؤسسات جباية المال، كما اهتموا بثقافة المطبخ ، حتى أنك ترى مطبخ إستانبول اليوم حتى عند عوام الناس ما زال من مطابخ الدرجة الأولى في العالم !
هذا عندما كان ( الخلفاء ) مستقلين ! أما عندما جاء جيل الخلفاء الضعاف الشخصية ، أبناء الفرنجيات ومطيعي الفرنجيين ، ابتداءً من السلطان سليم ، فقد انشغل الخليفة عن الفتوحات والصناعات ، وصار همُّهُ محصوراً في الصراعات الداخلية ! ثم صار شغل العاصمة وهمها عزل خليفة وقتله أو حجزه ، ونصب خليفة بعده ، ثم عزله أو قتله !
لاحظ أن القائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1798 بعث مهندسين ليدرسوا إمكانية وصل البحرين بقناة السويس : ( فأجابته اللجنة بالإيجاب... ولما تحقق لدى العموم بإجماع العلماء أن مسطح البحرين متساو ، سعى المسيو فردينان دي ليسبس قنصل فرنسا في مصر لدى المرحوم سعيد باشا والي مصر إذ ذاك للحصول على فرمان يخوله امتياز تشكيل شركة عمومية لإتمام العمل ) 6 .
في ذلك الوقت كانت العاصمة العثمانية مشغولة بعزل سلطانها سليم الثالث ونصب السلطان مصطفى الرابع 7 . ثم بعزل السلطان مصطفى الرابع : ( وحجزه في نفس السراي التي كان محجوزاً بها السلطان سليم ! فعزل بعد أن حكم ثلاثة عشر شهراً ، وقتل في سرايه بعد ذلك بقليل ، وأقيم بعده محمود الثاني الذي أعلن حرباً على الإنكشارية وقتل أكثرهم ! 8 .
واستمر هذا المسلسل إلى آخر حياة الدولة العثمانية ، بما له من تأثير كبير في تضعيف أجهزة الدولة وولاياتها وتدويخ مفكريها !
قال محمد فريد / 775 ، عن الخليفة عبد العزيز الضعيف المتهم باستغراقه في اللهو : ( الفتوى بعزله : إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور وليس له إلمام في الأمور السياسية ، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية ، في درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها ، وقد أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها ، وخرب الملك والملة، وكان بقاؤه مضراً بها ، فهل يصح خلعه؟
الجواب : يصح . كتبه الفقير : حسن خير الله ، عفي عنه . ثم أناطوا حسين عوني باشا بأمر خلع السلطان عبد العزيز، وشيخ الإسلام وباقي الوزراء بمبايعة السلطان مراد ، في يوم الإثنين 6 جمادى الاولى سنة 1293 ـ 30 مايو سنة 1876 ) . انتهى .
أقول : هذا العامل الخارجي هو الأهم في منع تقدم المسلمين في العلوم الطبيعية والإعمار ، في تركيا وغيرها ، لأنه سبب العامل الداخلي وضعف سلاطين بني عثمان مضافاً الى أنهم لم يكونوا من أصحاب الفكر العلمي والعناية بالتطوير والصناعة ، ولا يتسع المجال لعرض تسلسل الأسباب وترابطها .
***
وهنا مسألة أخرى مهمة هي أن العثمانيين كانوا باب المسلمين إلى أوروبا والغرب ، والمنظار الذي ينظر به الأوربيون إلى الإسلام وأهله ، ولذلك يسمون كل مسلم ( تركي ) ! وهي نقطة سلبية مهمة تدل على أن الغربيين فهموا الإسلام من الشخصية العثمانية ، والأسلوب العثماني، والتعصب العثماني، والجمود الفكري العثماني على صحيح بخاري ، وعلى الغلو في تقديس أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعائشة وحفصة ! ولم يعرفوا أنه يوجد وجهً آخر للإسلام له منطقه وأصوله ، وأنه كان قبل بني عثمان جُق، وبقيَ بعدهم! ويبدو أن نظرتهم هذه التي تثمر العداء للإسلام وأهله ، ستبقى حتى ظهور الإمام المهدي عليه السلام !
4 ـ الاخلاق المغولية في بني عثمان
من السلبيات العامة في مجتمعات العالم : الفساد الأخلاقي، والخيانة والسرقة والغدر ، والتسلط ، والظلم ، والقتل . لكنَّ ما ينفرد به حكام تركيا هو الخصوصية المغولية ، فالمغولي يصعب عليه الإلتزام بالتقوى والتقيد بالقيم ولذلك يقلُّ فيهم المتدينون الحقيقيون الى حد كبير ، ويندر فيهم صاحب الدين والتقوى كالسلطان محمد خدابنده رحمه الله!
ونلاحظ أن بني عثمان جُق من النوع المغولي الذي لا يتناسب مع شخصيته التقيد بحلال وحرام ، والذي يحمل في طبيعته التكبر والعنف والمسارعة الى قمع خصمه وقتله ! وبإمكاننا أن نلاحظ هذه الطبيعة المغولية وغيرها من صفات قومهم المغول ، في عدة مفردات من سلوكهم ، ومنها صراعهم الدموي المفرط على السلطة مع بعضهم ، وهو وإن كان أمراً عاماً في تاريخ الملوك والحكام من كل الشعوب ، لكنه في بني عثمان أشد ، وهو كذلك في المغول !
ومنها استمرارهم على شرب الخمر واللواط الذي اشتهر به المغول ، حتى بعض من أسلموا وولدوا في بلاد المسلمين .
ومنها سقوطهم السياسي الدفعي كسقوط المقاتل المغولي وانتهائه ، وليس كسقوط الدول والإمبراطوريات ، بالتدريج ، ومرور الزمان .
5 ـ لماذا انتهت تركيا وبقيت إيران ؟
إن تركيا الموجودة اليوم ليست تركيا السلطنة والخلافة ، لا أقصد في نظام الخلافة الذي كان يدعي أنه يمثل الإسلام وحده ويقود المسلمين في العالم !
بل حتى في تركيبة شعبها وتطلعات مفكريها وسياسييها ! فهم اليوم غرباء بالكامل عن كل برامج سلسلة الخلفاء العثمانيين ( الأتراك ) !
وليست غربتهم هذه بفعل الغرب ، بل من يوم أعلن الغربيون وفاة الخليفة والخلافة العثمانية رسمياً ، بدون مجلس فاتحة ولا كلمة تأبين !
فمن يومها تلاحظ أن أهل تركيا كأهل بغداد بعد سقوط الخلافة العباسية ، كانوا يسمعون الصراخ والبكاء من البلاد الإسلامية على الخلافة ، والمطالبات بإعادتها ، والحركات لإقامتها ، ويتعجبون من ذلك ولا يفهمونه !
ولم يرتفع منهم حتى صوت واحد يطالب بالخلافة، ولا نجحت بينهم حركة إسلامية تدعو الى استئناف الخلافة ! فكأنهم يقولون لهم : فما راءٍ كمن سمعا .
لذلك قد تجد عند التركي تعاطفاً مع الأمجاد التي يحكونها له عن مكانة بلده وتاريخه ، لكنه لا يشعر بأن الخلافة كانت تعبيراً عن الضمير التركي ، أو تصلح لأن تكون تعبيراً عنه !
بينما إيران الموجودة مهما كانت جديدة واختلفت برنامجها عن إيران ملوك الصفويين وغيرهم ، هي نفس إيران التي عبَّر أولئك عن ضمير مواطنيها بأسلوبهم الذي يشمل الخطأ والصواب . فإيران استمرار جديد للماضي ، وتركيا وجودٌ جديدٌ بدل الماضي !
ولا مجال للتوسع في المقارنة ، فيكفي أن نذكِّر بأن المشروع الغربي لإيران وتركيا كان واحداً ، وكان رضا شاه أخاً ( شقيقاً ) لكمال أتاتورك ، وقد نجح أتاتورك بالقضاء التام على الجهاز الديني واللغة وحتى حرفها العربي ، بينما أعجزت إيران رضا شاه وابنه، حتى عبرت عن ضميرها بإسلام أهل البيت عليهم السلام .
هذا يجعلنا نتذكر تعبير بعض المؤرخين عن الإيرانيين بأنهم من أكثر الشعوب ثباتاً ، وتكيفاً وحسن تعامل مع الموجات المضادة .
وفي اعتقادي أنهم إذا كانوا مدينين بذلك في تاريخهم لجودة فكر العنصر الآري ، فإنهم مدينون قبل ذلك لفكر مذهب أهل البيت عليهم السلام .
6 ـ تنقل مركز التعصب الأموي ضد الشيعة !
نقصد بالتعصب ضد الشيعة : الحالة الأموية المفرطة في العداء لشيعة أهل البيت عليهم السلام وتكفيرهم واستباحة دمائهم! وقد سماها أهل البيت عليهم السلام ( حالة النّصب ) بفتح الباء المشددة ، ويلفظها البعض بضمها ، ومعناها : نصب العداء والحرب .
وقد أفتى فقهاؤنا بأن الناصب هو المعادي المظهر عداوته لأهل البيت المعصومين عليهم السلام خاصة ولم يعمموا ذلك لمن عادى شيعتهم، بل حملوا ما روي في شموله لهم على معنى ذمهم ، وليس على معنى الحكم بكفرهم .
ففي علل الشرائع : 2 / 601 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ، لأنك لا تجد رجلاً يقول أنا أبغض محمداً وآل محمد ، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا ) . انتهى .
والتعصب ضد الشيعة حالةٌ نفسيةٌ أكثر منها فكرية عقائدية ، ولذلك يظهر منها البغض والعداء والإضطهاد والقتل ، أكثر مما يظهر تبريرها الفقهي بأن الشيعة يعبدون أهل البيت عليهم السلام ، أو يبغضون فلاناً وفلانة من الصحابة !
وقد كانت الشام مركز النصب في زمن معاوية ، واستمرت عليه قروناً ، وقد بقيت منه بقية إلى يومنا هذا !
ثم تنقَّل مركز النصب تبعاً للسياسة ، فكان في بغداد في زمن المنصور والرشيد والمتوكل ، وصار له وجود شعبي في مجسمة الحنابلة .
ثم زال من بغداد بسقوط الدولة العباسية ، حيث اعتدل الحنابلة بعد ذلك ، أو اختفى من بقي منهم ناصبياً !
ثم أخذ مركز النصب يتحول إلى مصر على يد صلاح الدين الأيوبي عندما قضى على الخلافة الفاطمية وتبنى الخلافة العباسية ، وأجبر أهل مصر على التسنن ، وارتكب هو ونائبه قراقوش الفظائع والمجازر الجماعية لمن رفض .
وبعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد وتبني السلاطين المغول مذهب التشيع ، تبنى المماليك في مصر في مقابلهم الخلافة العباسية ونصبوا موظفاً عباسياً سموه خليفة ليعطيهم الشرعية، وتبنوا معه التعصب الأموي ضد الشيعة !
وبما أن الشام كانت تحت حكم مصر ، فقد أحيا فيها المماليك الفكر الناصبي الأموي وفكر التجسيم الحنبلي ، واتخذوها قاعدة إعلامية ضد الشيعة والتشيع ، وتبنى أحد المماليك حاكم الشام الشيخَ عبد الحليم بن تيمية المعروف بعدائه المفرط للشيعة ، ونصبه شيخاً للإسلام في الشام .
وفي أواخر العهد المغولي بدأ مماليك مصر يتخلون عن تبني النصب والعداء للشيعة ، وذلك بتأثير شعبهم المصرّ على حب أهل البيت عليهم السلام وتأثير سياسة السلطان محمد خدابنده وابنه بو سعيد ، حيث أقاما مع سلاطين المماليك علاقات وطيدة ! وبذلك أخذ مركز النصب ينحسر من مصر .
أما في تركيا فلم يتبنَّهُ أحد من حكامها من بني قرمان السلاجقة ، ولا من بني عثمان جُق ، فقد كانوا كمحيطهم سنة على الطريقة البكتاشية التي هي أقرب الى التشيع منها الى التسنن ، حتى جاء السلطان سليم بن با يزيد ، فقتل أباه وتبنى النصب الأموي وسحب جيوش أبيه من أوروبا ، وجمع العلماء النواصب من الشام وتركيا وجعلهم بطانته ، واستصدر منهم فتوى بكفر الشيعة ووجوب إبادتهم ، وبكفر الشاه إسماعيل الصفوي ووجوب جهاده ، وبكفر السلطان الغوري أيضاً ! فقد ذكر النهروالي مؤرخ سليم أن الغوري كان يُتهم بالرفض ، مع أن الغوري واصل سياسة السلاطين الذين قبله في تخليهم عن النصب وميلهم إلى الشيعة وعلاقاتهم بحكامهم ، وقد وصلت علاقته مع الشاه إسماعيل إلى التحالف ضد سليم العثماني وخطه المفرط ضد الشيعة !
وقد استمرت سياسة العثمانيين في التعصب ضد الشيعة نحو أربعة قرون الى آخر خلافتهم، وإليهم ترجع أكثر مفردات العداء للشيعة التي تجدها في المجتمعات السنية وثقافتهم ! من ذلك مثلاً حذف آل النبي صلى الله عليه وآله من الصلاة على النبي واستبدال كلمة : ( وآله ) بكلمة : ( وسلم ) ، حيث لم أجد ( وسلم ) في مخطوطات العلماء السنيين قبل العثمانيين ، وإن وجدتها في مطبوعاتهم !
ثم جاء المذهب الوهابي بموجة عداء شديدة للشيعة مع أنه قام على الخروج على الخلافة العثمانية السنية المعادية للشيعة ، ولكنه زايد عليها في عداء الشيعة ، واختار تعصب السلطان سليم ، وتعصب مجسمة الحنابلة الذي أسسه المتوكل العباسي ، وألف فيه ابن تيمية ، فاتخذوه إماماً !
وبذلك صار بلد الوهابية مركز النصب للشيعة ، وعندما أنعم الله عليهم بالنفط والثروة من بلاد الشيعة في شرقي السعودية ، استعملوا أموال النفط في نشر العداء والنصب للشيعة على أوسع نطاق في العالم، وأفرطوا في ذلك حتى صارت بقية مراكز النصب وبؤره ( مُحِبَّةً ) للشيعة بالنسبة إليهم !
7 ـ اضطهاد الدولة العثمانة للشيعة العرب
بعد حملته غير الموفقة على إيران ، هاجم السلطان سليم سوريا ومصر ونجح في احتلالهما ، وطبَّق فيهما وفي غيرهما سياسةً ضد الشيعة شبيهةً بسياسته ضدهم في تركيا وإيران ! فكانت حملات الإضطهاد المذهبي بأنواع الإهانة ، والظلم ، ومصادرة الأموال ، والقتل ، والتهجير ، والتشريد ، في كل البلاد التي يحكمها ( الخليفة ) العثماني ، خاصة في تركيا والعراق وسوريا ومصر ولبنان وفلسطين ، وقد استمرت هذه السياسة أكثر من أربعة قرون !
ولو أراد أهل كل بلد أو مدينة أن يكتبوا ما وقع عليهم من مظالم بني عثمان جق لبلغت مجلدات من الصفحات السوداء والجرائم التي يبرأ منها رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان الخليفة و ولاته وقضاته يحكمون باسمه الشريف واسم شريعته !
ويكفينا في لبنان أن نؤرخ لأحمد باشا الجزار وحملاته على شيعة بلاد الشام ولبنان خاصة، وقد كان والي عكا سنة 1195، ثم طمع في فلسطين ومصر ، وقد أفرط في قتل المسلمين عامة والشيعة خاصة حتى عرف باسم ( الجزار ) وصار إسما رسمياً له ! قال الجبرتي : 2 / 292 : ( سموه بهذا الإسم لكثرة قتله الأنفس ولا يفرق بين الأخبار والأشرار ، وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة ) !
وفي مستدركات أعيان الشيعة : 2 / 122 : ( كانت نكبة جبل عامل بأحمد باشا الجزار من النكبات القاصمة ... أطلق جنوده يعملون التخريب والتقتيل والسلب ! وكان من أفجع ما لقيه جبل عامل في تلك المحنة نهب مكتباته نهباً عاماً وحمل كتبها إلى عكا .. إلى أصحاب الأفران يوقدون بها أفرانهم ) !!
في تلك المدة هاجر العديد من علماء جبل عامل وبلاد الشام الى إيران والهند ، هرباً من سيف بني أمية العثماني ، وكان أشهر المهاجرين المحقق الكركي قدس سره وهو معاصر للسلطان سليم وتوفي سنة 940، وكان المرجع الديني العام لإيران في زمن الشاه إسماعيل والشاه طهماسب ، وله مؤلفات وأجوبة استفتاءات تعطينا أضواء مهمة عن حالة الشيعة في عصره في إيران ، وتحت حكم الدولة العثمانية .
ومنهم العبقري الشيخ محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي الحارثي الهمداني ، المعروف باسم الشيخ البهائي ( قُدِّسَ سِرُّه ) المعاصر للشاه طهماسب والشاه عباس ، توفى 1031، كان نابغةً في عدد من العلوم، وله مؤلفات مهمة ، وآثارٌ معمارية هندسية متميزة .
ومما يتصل بموضوعنا أن البهائي اشتغل في إيران بالسياسة ودخل في صراع الخطوط السياسية الداخلية فجاءت موجة ضده ، فخرج من إيران إلى البلاد التي تحكمها الخلافة العثمانية لكنه لم يستطع إظهار نفسه ! فكان يتنقل في بلاد الشام والقدس ومصر بصورة درويش مدة ثلاثين سنة ، حتى كتب له الشاه عباس مصرّاً على رجوعه فعاد إلى إيران ، وكان مرجعها الديني العام .
ومنهم الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي قدس سره ( 1033 ـ 1104 ) وهو معاصر للعلامة المجلسي صاحب البحار قدس سره ، كان مرجعاً في إيران واشتغل بالتأليف ، وأشهر كتبه الموسوعة الفقهية : ( وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) .
***
نشأتُ في قرية ( ياثر ) من وسط جبل عامل ويلفظونها ( ياطر ) وسمعتُ من كبار السن الكثير عن الحكم العثماني ، أو الحكم ( العُصْمَلِّي ) كما يسميه الناس !
وأكثر ما يحكونه عنه قصص غارة ( الجَنْدِرْمَا ) على القرى وتعاملهم المغولي مع أهلها ، وفرضهم الضرائب والبقشيش عليهم بسبب ودون سبب !
ويبقى ذلك أهون من إجبار الناس على الجندية في الجيش العثماني، عندما يُرسل الضابط الإنكشاري في صور الى مخاتير القرى ويُحْضرهم ويبلغهم أن يكتب كل مختار أسماء أهل قريته من سن 18 الى سن 40 ، ويحدد لهم يوماً لحضور المجندين في القشلة ، وعند المدة المضروبة يرسل لكل قرية عدداً من الجندرمه ليدخلوها غفلةً ويقبضوا على كل من وجدوه بين سن 18 ـ 40 ، ويجروه الى قشلة الدولة العَلِيَّهْ العثمانية ، ثم يرسلوه الى جبهة الحرب مع روسيا ! هذه الحرب التي حرق فيها الخليفة ألوفاً مؤلفة من المسلمين ، وقد عرفنا أخيراً أنها كانت لسواد عيون فرنسا ! وأسوأ منها حرب الخلافة العثمانية ضد أهل اليمن التي استمرت سنين طويلة وكلفت المسلمين من اليمانيين وغيرهم ، عشرات الألوف !
كانت حروب الدولة العثمانية : الذاهب اليها مفقود والعائد منها مولود !
ومن هؤلاء المولودين جدي لأمي المرحوم الحاج نصرالله كريِّم الذي كان يحدثنا عن حربهم مع روسيا التي اعتمدت على المدفعية والبنادق والمواجهة القريبة ، لأن مدى المدفعية كان قصيراً ، فكان يتقدم مئات المقاتلين أو ألوفهم في أرض سهلة أو صعبة ، ويجرُّون مدافعهم بواسطة الحيوانات أو الجنود ويحرصون على وضعها في أماكن تفاجئ العدو وتقتل من جنوده أكبر عدد ممكن ، وكثيراً ما تفاجؤهم مدافع العدو فتحصد منهم المئات دفعة واحدة ، ثم يهجم عليهم المشاة ببنادقهم . قال& : وكانت جثث القتلى تترك مُجَدَّلةً على وجه الأرض بلا صلاة ولا دفن ، لتأكلها الوحوش والطيور ! أما في اليمن فقالوا إن الدولة العثمانية أمرت بعد مدة بجمع عظام قتلاها ، فكانوا يجمعونها أكواماً كبيرة في الوديان ، ويطمرونها بالتراب !
وسمعت في النجف قصصاً أبلغ عن العثمانيين ، خاصة عن فتوى المراجع بوجوب جهاد الإنكليز ، وكيف استنفر العلماء ورؤساء العشائر ورجالهم ، وأقاموا معسكرات في البصرة والشعيبة وغيرها ، وحارب الشيعة جنباً الى جنب مع ظالميهم ومضطهديهم الأتراك ، وكيف اختلط الدم الشيعي بالدم التركي في العراق للدفاع عن الوطن الإسلامي ، بينما اختلط دم النواصب بالدم الإنكليزي في مكان آخر ! وكيف كان جنرالات الجيش التركي يأتون الى معسكرات المجاهدين مؤدبين يُقَبِّلون أيدي كبار العلماء ويشكرونهم ، وكيف انهزم الجيش التركي قبل المجاهدين، وضمَّتْ سجون الإنكليز ضباط الأتراك وعلماء الشيعة معاً..
الى آخر قصص الثورة والهزيمة ، وفيها عبرٌ عن حالة جيش بني عثمان وعوامل انهيار دولتهم ، وعبرٌ عن أصالة عشائر الشيعة ، وطيبتهم في اندفاعهم للجهاد ، مع أنهم لا يملكون مقوماته ، ولا ظروفه .
8 ـ قانون دفع الله الناس ببعضهم
قال الله تعالى: ﴿ ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ 9 . وقال تعالى: ﴿ ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ... ﴾ 10 . ومعناه أن حروب الناس وصراعاتهم تجري في ظاهرها بقوانين مادية طبيعية لكنها واقعة تحت السيطرة الإلهية ، وأن الله تعالى يتدخل فيها بالشكل الذي يضمن عدم فساد المجتمع البشري بدرجة مفرطة ، ويضمن بقاء مجموعات تعبد الله تعالى في الأرض. فالآيتان تقرران قانوناً إلهياً في التحكم في صراعات الناس ، وقد فسره الإمام الكاظم عليه السلام بقوله : ( ما التقت فئتان قط إلا نُصِرَ أعظمهما عفواً ) 11 وفصَّله الإمام الصادق عليه السلام بقوله : ( ما التقت فئتان قط من أهل الباطل إلا كان النصر مع أحسنهما بقية على أهل الإسلام ) 12 .
ومعنى ذلك أن ما يقع هو الأفضل النسبي دائماً ، ولو وقع غيره لكان أسوأ منه ! وأن الله تعالى تكفل بتجديد القوى الفاعلة في حياة البشر ، وأن يُبقي منها الأكثر عفواً والأقل قتلاً وإبادة للناس ، ثم الأكثر ( ليبرالية ) وقبولاً لوجود جماعات تعبد الله تعالى في أرضه ، حتى بأنواع خاطئة من العبادة !
وبهذا القانون تكون موجة المغول داءً ضرورياً ودواءً لحالة الأمة ، وكاسحةً شريرة لقوى أشد شراً منها على مستقبل الأمة ووجودها ، وأن كل خسارات الأمة بالمغول يجبرها فسح المجال لطاقات التجديد المطلوبة .
فما دامت الأمة وصلت في ظل الخلافة العباسية الى درجة القبول بحكم خليفة سكران لا يهتم بغزو المغول لعاصمته وقصره ، ويتفضل بإصدار أمره الخلافي المقدس فيقول : قتلوا راقصتي فكثفوا الستائر !
والقبول بسلطان سلاطين الخلافة الخوارزمي ، قائد أكبر قوة عسكرية للمسلمين ، وهو فاسد يُغرم بغلام خصي له ، ويُجَنُّ لموته فيحمل جنازته معه ويسير بجيشه الى تبريز ويطلب من أهلها أن يخرجوا استقبالاً لغلامه الميت فيخرجون ، ويَقتل الذي يقول له إن غلامه مات !
فلو استمر مسار الأمة هذا ، فلا بد أن يصل الى أسوأ من غزو المغول !
***
ولو استمر تعاظم توسع الفرنسيين في العالم ، وقد كانوا أكبر قوة استعمارية قبل الإنكليز وروسيا وألمانيا ، وقبل وجود أمريكا ، لرأيت اليوم من يفكر بغير الفرنسية ، يعلق على أعواد المشانق !
ولو حكم الإنكليز العالم بلا معارض ، لرأيت التخطيط الماكر للعالم أن تصب كل ثرواته حتى الملِّيم في جزيرة الآلهة الإنقلس .
ولو حكم الألمان العالم بلا معارض ، لكان عليك أينما كنت من العالم أن تقف عند تقاطع الطريق وتؤدي التحية : هايل هتلر !
ولو حكم الأمريكان العالم بلا معارض ، لحرثوه طولاً وعرضاً كما حرث المغول ما قدروا عليه منه !
وإذا أردنا أن نفهم هذا القانون الإلهي في مسار العثمانيين ، فهم بمقياس العالم يومذاك ضرورة ، حيث كانوا في مطلعهم تحدياً عسكرياً مغولياً لازماً وعَيْناً حمراء للأمة في مقابل جبابرة الغرب ، ثم كانوا على علاتهم وجوداً مفيداً للدين لتنشأ شعوب الأمة على الإعتقاد بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وقرآنه ، الذي يُلقلقون به ألسنتهم ، ويقولون للناس إنهم يؤمنون به !
لكنهم لو حكموا العالم بلا معارض ، لفرضوا عليه باسم الإسلام ثقافة المغول المخزونة في دمهم بكل ما فيها من عنف وغطرسة وتحلل أخلاقي ، ولأظهروا جدهم ( أرطغرل ) وتسموا باسمه ، وقد أخفوه لأنه في حسهم إسم مغولي ! ولانتسبوا اليه بدل انتسابهم الى ابنه عثمان ، فصار العالم ( طُغْرُلياً ) !
ولو حكموا العالم الإسلامي بلا معارض ، لفرضوا عليه إسلامهم المغولي الناصبي ، وأبادوا الشيعة والتشيع بالكامل !
لكن الله عز وجل قدَّر وقضى لمشروعه في عترة نبيه صلى الله عليه وآله أن يتواصل ، وتكون لهم شيعةٌ يتنامون مع العصور ، وظلامةٌ تتواصل فتمثل المأساة الضرورية لخط الهدى الإلهي على يد البشر ، حتى يبلغ الله تعالى أمره ، ويُظهر وليه المذخور لإقامة العدل في العالم عجل الله تعالى فرجه الشريف !
قال الإمام الباقر عليه السلام إنه يتذكر في طفولته عندما كان في مكة مع جده الإمام الحسين عليه السلام فجاء السيل ودخل المسجد الحرام ، فاضطرب الناس وقالوا ذهب السيل بمقام إبراهيم صلى الله عليه وآله فأمر الحسين عليه السلام منادياً وقال له : ( ناد : إن الله تعالى قد جعله علماً ، لم يكن ليذهب به ! فاستقَرُّوا ) 13 .
فمن السذاجة أن نتصور أن الأحداث الطبيعية ومثلها السياسية والعسكرية ، ليست تحت السيطرة الكاملة . ﴿ ... وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 14 .
وبهذا القانون بقي الشيعة في العالم ، وخاصة في العراق وإيران .
( تم الكتاب والحمد لله رب العالمين ) 15 .
__________
1. صحيح بخاري : 8 / 26 .
2. تاريخ المدينة : 3 / 140، والزوائد : 4 / 220 .
3. راجع سلسلة الأحاديثه الصحيحة للألباني رقم 1552 .
4. مجلة تراثنا / 41 / 138 .
5. التذكرة الحمدونية / 2169 .
6. محمد فريد / 568 .
7. محمد فريد / 393 و 398 .
8. محمد فريد / 124 .
9. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 251، الصفحة: 41.
10. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 40، الصفحة: 337.
11. الكافي : 2 / 108 .
12. الكافي : 8 / 152 .
13. الكافي : 4 / 223 .
14. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 21، الصفحة: 237.
15. كيف رد الشيعة غزو المغول ( دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 565 ـ 582 .