فضل القرآن في حديث الرسول وأهل بيته
من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يتصاغر أمام هذه العظمة، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيرا من المضي في البيان.
ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن، وعلو كعبه؟
وماذا يقول في بيان فضله، وسمو مقامه؟
وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟
وماذا يكتب لكاتب في هذا الباب؟
وماذا يتفؤه به الخطيب؟
وهل يصف المحدود إلا محدودا؟
وحسب القرآن عظمة، وكفاه منزلة وفخرا أنه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيه الكريم، وأن آياته هي المتكفلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(۱۷: ۹).
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)(۱۴: ۱).
(هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)(۳ : ۱۳۸).
وقد ورد في الأثر عن النبي (صلى الله عليه واله): (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)(۱).
نعم من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن، فإنهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلهم على سمو قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، أما جدهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن، والهادي إلى أحكامه، والناشر لتعاليمه.
وقد قال (صلى الله عليه واله): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض”(۲).
فالعترة هم الإدلاء على القرآن، والعالمون بفضله. فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم، ونستضئ بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في (البحار) الجزء التاسع عشر منه.
ونحن نكتفي بذكر بعض ما ورد: روى الحارث الهمداني قال: (دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد ؟ فقال: قد فعلوها ؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول:
ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها ؟ قال: كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به اجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور)(۳).
وفي الحديث مغاز جليلة يحسن أن نتعرض لبيان أهمها. يقول (صلى الله عليه واله): (فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم) والذي يحتمل في هذه الجملة وجوه:
الأول: أن تكون إشارة إلى أخبار النشأة الأخرى من عالمي البرزخ والحساب والجزاء على الأعمال. ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته: (فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم)(۴).
الثاني: أن تكون إشارة إلى المغيبات التي أنبأ عنها القرآن، مما يقع في الأجيال المقبلة.
الثالث: أن يكون معناها أن حوادث الأمم السابقة تجري بعينها في هذه الأمة، فهي بمعنى قوله تعالى: (لتركبن طبقا عن طبق)(۸۴: ۱۹)، وبمعنى الحديث المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) (لتركبن سنن من قبلكم)(۵).
أما قوله (صلى الله عليه وآله): (من تركه من جبار قصمه الله) فلعل فيه ضمانا بحفظ القرآن عن تلاعب الجبارين، بحيث يؤدي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به، والى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهية السابقة (۶) فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف.
وهذا أيضا هو معنى قوله في الحديث: (لا تزيغ به الأهواء) بمعنى لا تغيره عما هو عليه، لان معاني القرآن قد زاغت بها الأهواء فغيرتها.
وأشار الحديث إلى أن الأمة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل. ولوجدوه الحكم العدل، والفاصل بين الحق والباطل.
نعم، لو أقامت الأمة حدود القرآن، واتبعت مواقع إشاراته وإرشاداته، لعرفت لحق وأهله، وعرفت حق العترة الطاهرة الذين جعلهم النبي (صلى الله عليه واله) قرناء الكتاب، وأنهم الخليفة الثانية على الأمة من بعده ولو استضاءت الأمة بأنوار معارف القرآن، لأمنت العذاب الواصب، ولما تردت في العمى، ولا غشيتهم حنادس الضلال، ولا عال سهم من فرائض الله، ولا زلت قدم عن الصراط السوي، ولكنها أبت إلا الانقلاب على الأعقاب، وإتباع الأهواء، والانضواء إلى راية الباطل حق آل الأمر إلى أن يكفر بعض المسلمين بعضا، ويتقرب إلى الله بقتله، وهتك حرمته، وإباحة ماله، وأي دليل على إهمال الأمة للقرآن أكبر من هذا التشتت العظيم؟!
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة القرآن: (ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم ضوءه، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا(۷) لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة، وحبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وعزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذرا لمن انتحله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وحاملا لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلام، وعلما لمن وعى، وحديث لمن روى وحكما لمن قضى)(۸).
وقد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيرا من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها.
فقوله (عليه السلام): (لا يخبو توقده)(۹) يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أن القرآن لا تنتهي معانيه، وأنه غض جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامة المعنى.
وقد روى العياشي بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى، (ولكل قوم هاد)(۱۲: ۸). أنه قال: (علي: الهادي، ومنا الهادي، فقلت: فأنت جعلت فداك الهادي. قال: صدقت إن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا).
وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل)(۱۳: ۲۱): (هذه نزلت في رحم آل محمد (صلى الله عليه واله) وقد تكون في قرابتك، فلا تكونن ممن يقول للشيء: إنه في شيء واحد).
وفي تفسير الفرات: (ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره مادامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر). إلى غير هذه من الروايات الواردة في المقام(۱۰).
(ومنها لا يضل نهجه) يريد به: أن القرآن طريق لا يضل سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه، فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال.
(وتبيانا لا تهدم أركانه) المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين:
– الأول: أن أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.
– الثاني: أن القرآن بألفاظه لا يتسرب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن عن التحريف. (ورياض العدل وغدرانه)(۱۱) معنى هذه الجملة: أن العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرقاتها.
(وأثافي الإسلام)(۱۲) ومعنى ذلك: أن استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أن استقامة القدر على وضعه الخاص تكون بسبب الأثافي.
(وأودية الحق وغيطانه) يريد بذلك: أن القرآن منابت الحق، وفى الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنة، وتشبيه الحق بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أن المتمسك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحق، لان القرآن هو منبت الحق، ولا حق في غيره.
(وبحر لا ينزفه المنتزفون)(۱۳) ومعنى هذه الجملة والجمل التي بعدها: أن المتصدين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أن معاني القرآن لا تنقص أصلا، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.
(وآكام لا يجوز عنها القاصدون)(۱۴) والمراد أن القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أن للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام.
وقد يكون المراد أن القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لأنهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتم.
القرآن هو الناموس الإلهي الذي تكفل للناس بإصلاح الدين والدنيا، وضمن لهم سعادة الآخرة والأولى، فكل آية من آياته منبع فياض بالهداية ومعدن من معادن الإرشاد والرحمة، فالذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدين والدنيا، عليه أن يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ويجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته، ومزاج تفكيره، ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم وتجارة لن تبور.
وما أكثر الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) وعن جدهم الأعظم (صلى الله عليه واله) في فضل تلاوة القرآن.
منها: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله): من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة أية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة أية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر…).
ومنها: عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية).
وقال (عليه السلام): (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات؟).
وقال: (عليكم بتلاوة القرآن، فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: إقرأ وارق، فكلما قرأ آية رقى درجة).
وقد جمعت كتب الأصحاب من جوامع الحديث كثيرا من هذه الآثار الشريفة من أرادها فليطلبها. وفي التاسع عشر من كتاب بحار الأنوار الشيء الكثير من ذلك.
وقد دلت جملة من هذه الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب.
ومن هذه الأحاديث قول اسحق بن عمار للإمام الصادق (عليه السلام): (جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال: فقال لي: لا، بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل. أما علمت أن النظر في المصحف عبادة)؟. وقال: (من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين)(۱۵).
وفي الحث على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها، وهو الالماع إلى كلاءة القرآن عن الاندراس بتكثر نسخه، فإنه لو اكتفى بالقراءة عن ظهر القلب لهجرت نسخ الكتاب، وأدى ذلك إلى قلتها، ولعله يؤدي أخيرا إلى انمحاء آثارها.
على أن هناك آثارا جزيلة نصت عليها الأحاديث لا تحصل إلا بالقراءة في المصحف، منها قوله: (متع ببصره) وهذه الكلمة من جوامع الكلم، فيراد منها أن القراءة في المصحف سبب لحفظ البصر من العمى والرمد، أو يراد منها أن القراءة في المصحف سبب لتمتع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدقيقة، لان الإنسان عند النظر إلى ما يروقه من المرئيات تبتهج نفسه، ويجد انتعاشا في بصره وبصيرته.
وكذلك قارئ القرآن إذا سرح بصره في ألفاظه، وأطلق فكره في معانيه وتعمق في معارفه الراقية وتعاليمه الثمينة يجد في نفسه لذة الوقوف عليها، ومتعة الطموح إليها، ويشاهد هشة من روحه وتطلعا من قلبه.
وقد أرشدتنا الأحاديث الشريفة إلى فضل القراءة في البيوت. ومن أسرار ذلك إذاعة أمر الإسلام، وانتشار قراءة القرآن، فإن الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة، وقرأه الطفل، وذاع أمره وانتشر.
أما إذا جعل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة فإن القراءة لا تتهيأ لكل أحد، وفي كل وقت، وهذا من أعظم الأسباب في نشر الإسلام. ولعل من أسراره أيضا إقامة الشعار الإلهي، إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بكرة وعشيا، فيعظم أمر الإسلام في نفوس السامعين لما يعروهم من الدهشة عند ارتفاع أصوات القراء في مختلف نواحي البلد.
ومن آثار القراءة في البيوت ما ورد في الأحاديث: (إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله تعالى فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضئ لأهل السماء كما يضئ الكوكب الدري لأهل الأرض، وان البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن، ولا يذكر الله تعالى فيه تقل بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين)(۱۶).
نعم قد ورد في الأحاديث في فضل القرآن، وفي الكرامات التي يختص الله بها قارئه ما يذهل العقول ويحير الألباب. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه واله): (من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف).
وقد ورد هذا الحديث من طرق العامة، فقد نقله القرطبي(۱۷) عن الترمذي عن ابن مسعود وروى الكليني قريبا منه عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وإن الناظر في جوامع كتب الحديث ومفرداتها يرى من أمثال هذا الحديث الشيء الكثير في فضل القرآن وقراءته، وخواص سوره وآياته.
وهناك حثالة من كذبة الرواة، توهموا نقصان ما ورد في ذلك، فوضعوا من أنفسهم أحاديث – في فضل القرآن وسوره – لم ينزل بها وحي ولم ترد بها سنة وهؤلاء كأبي عصمة فرج بن أبي مريم المروزي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، وأحمد بن عبد الله الجويباري.
وقد اعترف أبو عصمة المروزي بذلك، فقد قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: (إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحق، فوضعت هذا الحديث حسبة).
وقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبي بن كعب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضل القرآن سورة سورة: (قد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه. وقد أخطأ الواحدي وجماعة من المفسرين حيث أو دعوه في تفاسيرهم)(۱۸).
أنظر إلى هؤلاء المجترئين على الله كيف يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه واله) في الحديث؟ ثم يجعلون هذا الافتراء حسبة يتقربون به إلى الله: (كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون)(۱۰: ۱۲).
التدبر في القرآن ومعرفة تفسيره
ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال الله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(۴۷: ۲۴). وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنهم كانوا يأخذون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل)(۱۹).
وعن عثمان وابن مسعود وأبي: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن والعمل جميعا)(۲۰).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال: إنه كان يعرف (۲۱) تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)(۲۸: ۸۵).
والأحاديث في فضل التدبر في القرآن كثيرة. ففي الجزء التاسع عشر من بحار الأنوار طائفة كبيرة من هذه الأحاديث، على أن ذلك لا يحتاج إلى تتبع أخبار وآثار، فإن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله نظاما يقتدي الناس به في دنياهم، ويستضيؤن بنوره في سلوكهم إلى أخراهم.
وهذه النتائج لا تحصل إلا بالتدبر فيه والتفكر في معانيه. وهذا أمر يحكم به العقل. وكل ما ورد من الأحاديث أو من الآيات في فضل التدبر فهي ترشد إليه.
ففي الكافي بإسناده عن الزهري، قال: سمعت الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: (آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)(۲۲).
____________________
۱- بحار الأنوار ج ۱۹ ص ۶، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج ۱۱ ص ۴۷، أبواب فضائل القرآن.
۲- رواه الترمذي ج ۱۳ ص ۲۰۰، ۲۰۱ مناقب أهل البيت.
۳- هكذا في سنن الدارمي ج ۲ ص ۴۳۵، كتاب فضائل القرآن ومع اختلاف يسير في ألفاظه في صحيح الترمذي ج ۱۱ ص ۳۰ أبواب فضائل القرآن. وفي بحار الأنوار ج ۹ ص ۷ عن تفسير العياشي.
۴- بحار الأنوار ج ۱۹ ص ۶٫
۵- ورد هذا اللفظ في كنز العمال ج ۶ ص ۴۰، من حديث سهل بن سعد.
۶- راجع الهدى إلى دين المصطفى ج ۱ ص ۳۴، لآية الله الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي.
۷- في بحار الأنوار (بنيانا) بدل (تبيانا).
۸- نهج البلاغة من خطبة أولها: (يعلم عجيج الوحوش).
۹- خبت النار: خمد لهبها.
۱۰- مرآة الأنوار ص ۳ ، ۴٫
۱۱- الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. والغدران جمع غدير وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدل الاستقامة.
۱۲- الاثافي كأماني جمع اثفية – بالضم والكسر – وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر.
۱۳- نزف ماء البئر: نزح كله.
۱۴- والآكام جمع اكم، كقصب، وهو جمع أكمة، كقصبة، وهي التل.
۱۵- هذه الروايات في أصول الكافي، كتاب فضل القرآن، وفي الوسائل طبعة عين الدولة ج ۱ ص ۳۷۰٫
۱۶- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن.
۱۷- تفسير القرطبي ج ۱ ص ۷٫ وفي الكافي كتاب فضل القرآن.
۱۸- نفس المصدر ج ۱ ص ۷۸، ۷۹٫
۱۹- تفسير القرطبي ج ۱ ص ۲۶٫
۲۰- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن.
۲۱- تفسير القرطبي ج ۱ ص ۲۶٫
۲۲- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن.