التدبر في القرآن

إنّ من جملة الأمور المأمورٌ بها من قِبلِ المولى سبحانـه وتعالى ، هي تدبّرَ القرآن الكريم ؛ لما فيه فوائدُ عظيمةٌ ، وأسرارٌ جليلةٌ ، ولأنّه هو باعثٌ على التّأمّلِ والتّفكّرِ والانفتاح على عوالم الأنفس والآفاق ، فقد رُويَ عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله: (( تفكّر ساعة خير من عبادة سنة )) (1) .

والأدلّة في ذلك متوفّرة متظافرة ؛ قال النّوويّ في كتابه (التّبيان) في فصل عقده للتّدبّر : ( والدّلائل عليه [أي التّدبّر] أكثر من أن تحصر ، وأشهر وأظهر من أن تذكر (( أفلا يتدبّرون القرآن )) ، وقال تعالى : (( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )) . والأحاديث فيه كثيرة وأقاويل السّلف فيه مشهورة ) (2) .
نعم ، قال الله تعالى بخصوص سهولة التّدبّر في كتابه الكريم : (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ )) ، فالقرآن سهلٌ لمن أراد ممارسة التفكّر والتذكّر والتدبّر ، وهذا بشهادة من أنزله .
وليس التّدبّر من أقسام التّفسير بالمعنى العلميّ الدّقيق ، لأنّه لا يعدو عمليّة تجري بين العبد وضميره ، فهو عمليّة وجدانيّة يسمو فيها الفكر بحثاً عن الأمور المتعلّقة بمصير الإنسان ، قال القرطبيّ في تفسيره : ( قوله تعالى : (( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً )) حثّ على تأمّل مواعظ القرآن ، وبيّن أنّه لا عذر في ترك التدبّر ، فإنّه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدّعة ، أي متشقّقة من خشية الله والخاشع الذّليل ، والمتصدّع المتشقّق ، وقيل( خاشع ) لله بما كلّفه من طاعته ، ( متصدّع ) من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه ، وقيل : هو على وجه المثل للكفّار ) (3) .

وقال أيضاً: ( ثمّ عاب المنافقين بالإعراض عن التّدبّر في القرآن والتّفكّر فيه وفي معانيه ، تدبّرت الشّيء فكّرت في عاقبته .

وفي الحديث (لا تدابروا) أي لا يولّي بعضكم بعضا دبره ، وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره ، والتّدبير أن يدبّر الإنسان أمره ؛ كأنّه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته ، ودلّت هذه الآية وقوله تعالى : (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))على وجوب التّدبّر في القرآن ليعرف معناه ، فكان في هذا ردٌّ على فساد قوْل من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلاّ ما ثبت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ومنع أن يتأوّل على ما يسوغه لسان العرب ، وفيه دليل على الأمر بالنّظر والاستدلال وإبطال التّقليد ، وفيه دليل على إثبات القياس ) (4) .
قلتُ: وعلى هذا أكثر العلماء ، وفي مسألة الدّلالة على القياس خلاف (5) . وفي الحقيقة يكاد أمر التّدبّر يكون بديهيّاً ، فإنّه لا يُعقل أن يذمّ الله تعالى قوما لتركهم شيئا ، ثمّ يحول بينهم وبينه بالحظر ، لما في ذلك من التّغرير ، تعالى الله عمّا يصف الجاهلون .

 

مواجهة التدبر لأصول اعتقادية

إذا واجهت عمليّة التّدبّر مبادئاً وأصولاً اعتقاديّة متضاربةً ، لا تلبث أن تفقد وضوح الرّؤية وسهولة الفهم ، وتتحوّل إلى صراع داخليّ عنيف ، قد ينعكس على سلوك صاحبه ، ويكون سببا في ضياعه ، بدل أن يكون سببا في هدايته وثَباته .
وعليه يغدو التّدبّر نافعاً ؛ إذا لم تسبقه أحكام وآراء ونظريّات مؤثّرة ، توجّهه وتتحكّم في نتائجه ، أمّا في ظلّ وجودها فلا يكون التّدبّر هادفا متوازنا ، ولا تكون النّتيجة سوى بروز كَوَامِن آثار تلك النظريّات وإفرازاتها .
ويبدو لي ـ من منظور تربويّ ـ أنّ تجنّب ذلك التّأثير الكامن ؛ يستلزم عمليّة تربويّة في مرحلة مناسبة من العمر ، كيما يتحقّق الاستقلال الفكريّ ، وهو ما يضمن التدبّر الصّحيح في ظلّ الفهم الذي يتبنّاه المتدبّر ويراه صحيحا ؛ فإنّ كثيرا من النّاس يعتقدون أنّهم أحرار فكريّا وليسوا كذلك ، لأنّهم لا يستطيعون الدّفاع عن متبنّياتهم إلاّ على جهة التّقليد ؛ ومعناه أنّ تقريراتهم وتبريراتهم لا تعدو محفوظات توضع في قوالب وخانات معيّنة ، لتملأ فراغا فكريّا يرفض التّجديد ..
وطالما حدّثنا التّاريخُ عن أقوامٍ عبدُوا الله تعالى منْ دون تفكّر فضلّوا وأضلُّوا ، كما حدّثنا عن أقوامٍ استمعوا القول واتّبعوا أحسنه ؛ فنالوا خير الدّنيا وفوز الآخرةِ .
وقد ضمن الله تعالى حدّا أدنى من القرآن قابلاً للتّدبّر ِوالاستفادة من طرف كلّ من يفهم اللّغة العربيّة التي نزل بِها ، ولا يبعد أن يكون ذلك متيسّرا في مترجمه أيضاً ؛ إذا جرت الترجمة بنَفَس أمين .
وقبل الدّخول في ما وضع له الكتّاب ، لا بأس بالتّذكير أنّ مباني المفسّرين الاعتقاديّة وانتماءاتهم المذهبيّة ؛ كانت حاضرة ناطقة في تعابيرهم ، جليّة التّأثير ، لا تخفى على من أمعن النّظر وأعمل الفكر .
ولا شكّ أنّ الموضوعيّة والانتماء المذهبيّ لا يجتمعان ؛ إلاّ إذا كان المذهب مبنيّا علي الحقّ ، ماشياً مع القرآن دائراً معه حيث دار ، وكان الباحث باذلاً وسعه في ملازمة الحقّ ملازمة الظلّ لشخصه ، غير أنّه من الصّعب الفصل بين ثقافة المفسّر وبين رؤيته التّفسيريّة ؛ إذ لا يمكن أن يكون هو هو وغيره في نفس الوقت ، وهذا أمر مشهود بالوجدان ، لكن مع ذلك لا يحول شيء دون توخّي الموضوعية والإنصاف قدر المستطاع ، بدليل قوله تعالى : (( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسه بَصِيرَةٌ )) ، وقوله تعالى : (( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) ، فلو كان العدل ممتنعا لما كلّف به سبحانه وتعالى ، لقبح التّكليف بغير المقْدور ونفور الفطْرة منه .

كما أنّ في قوله : (( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )) إشارة إلى القوّة المعنويّة التي أودعها الله تعالى في ضمير الإنسان ، فإنّه يصعب عليه مخادعة نفسه ومغالطتها ؛ دون الانسلاخ من الحقّ والانخراط في الباطل .
والذي تأكّد لديّ أثناء البحث ، هو أنّ معتقَد الإنسان يوجّه تفكيره وفهمه بدرجة كبيرة ، وقد يساعد على ذلك كثرة اللّجوء إلى التّأويل ، وما يشاع في أيّامنا من تعدّد القراءات والرُّؤى ، وأضرب ههنا مثالا لذلك من واقع المدارس الفكريّة المتقابلة : فالشّيعيّ ـ مثلا ـ لأنّه معتقد بعصمة أهل البيت (عليهم السلام) يفكّر في ضوء العصمة ويهتدي بمعالمها ، فيستفيد منها أثناء البحث والتفكّر ، لكنّه إذا طولب بإثبات العصمة يتحوّل إلى عقلانيّ محض ، والعقلانيّ هنا بمعنى من يستعمل المسلّمات العقليّة بطريقة صحيحة لإثبات المطلوب .
فإذا ثبتت العصمة بالدّليل العقليّ ، جاءت الأدلّة النّقليّة تؤيّدها وتثبّت قلب المعتقد بها ، فالاعتقاد بعصمة الأئمّة ههنا وإن كان له الأثر البالغ في توجيه فكر من يتبنّاه ، لم يمنعه من افتراض العكس وإثبات المطلوب .
هذا النّوع من الاستدلال لا يُعمل به لدى جميع مدارس أهل القبلة ، وإن كان يفترض فيهم ذلك .
فالذين يؤمنون بعدالة جميع الصّحابة ؛ لا يستطيعون إثبات ذلك عقلاً ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وأمّا من جهة النّقل فالحديث ذو شجون ، وحتى لا يكون الكلام رجماً بالغيب هذا مثال لما جاء بخصوص ذلك في كتب التّفسير : قال الرّازيّ في التفسير الكبير : وقوله تعالى : (( وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ )) أي وعد ليغيظ بهم الكفّار ، يقال رغماً لأنفك أنعم عليه ، وقوله تعالى : (( مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً )) لبيان الجنس لا للتّبعيض ، ويُحتمل أن يُقال هو للتّبعيض ، ومعناه ليغيظ الكفّار ، والذين آمنوا من الكفّار لهم الأجر العظيم ، والعظيم والمغفرة قد تقدّم مرارا والله تعالى أعلم ) (6) .
وقال الزمخشريّ في تفسيره (الكشّاف) : ( قوله ليغيظ بِهِم الكفّار ، تعليل لماذا قلت لما دلّ عليه تشبيههم بالزّرع من نمائهم وترقّيهم في الزّيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلّل به وعد الله الذين آمنواْ ؛ لأنّ الكفّار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزّهم به في الدّنيا ؛ غاظهم ذلك ومعنى منهم البيان كقوله تعالى فاجتنبواْ الرّجس من الأوثان ) (7) .
وقال أبو السعود : ( في تفسير قوله تعالى (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ... )) والمراد بالذين آمنوا : كلّ من اتّصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق ، من أيّ طائفة كان ، وفي أيّ وقت كان ، لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ، ضرورة عموم الوعد الكريم للكلّ كافّة [!] ) (8) .
فالخطاب في منكم لعامّة الكفرة لا للمنافقين خاصّة ، و(من) تبعيضيّة ، وعملوا الصّالحات عطف على آمنوا داخل معه في حيّز الصّلة ، وبه يتمّ تفسير الطّاعة التي أمر بها ورتّب عليها ما نظم في سلك الوعد الكريم ، كما أشير إليه ، وتوسيط الظّرف بين المعطوفين ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام ، وللإيذان بكونه أوّل ما يطلب منهم وأهمّ ما يجب عليهم ، وأمّا تأخيره عنهما في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما فلأنّ (مِنْ) هناك بيانيّة (9) ، والضّمير الذين معه (ص) من خُلَّص المؤمنين ، ولا ريب في أنّهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصّالحة مثابرون عليهما [!] ، فلا بدّ من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها، هذا ومن جعل الخطاب للنّبيّ(ص) وللأمّة عموما على أن من تبعيضية أو له (ص) ، ولمن معه من المؤمنين خصوصا على أنّها بيانيّة ، فقد نأى عمّا يقتضيه سياق النّظم الكريم وسياقه بمنازل ،وأبعد عما يليق بشأنه (ص) بمراحل ) (10) .

وفي تفسير الجلالين : (( وَعَدَ الله الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم )) : الصّحابة ومن لبيان الجنس لا للتّبعيض ، لأنّهم كلّهم بالصّفة المذكورة (11) ، مغفرةً وأجراً عظيماً : الجنّة وهما لمَن بعدهم أيضا ) (12) .
لكن السّمعانيّ يقول : (( وقوله : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً )) اختلفوا في قوله ، منهم قال قوم من هاهنا للتّجنيس لا للتّبعيض ، قال الزّجاج هو تخليص للجنس وليس المراد بعضهم ؛ لأنّهم كلّهم مؤمنون ولهم المغفرة والأجر العظيم .

وعن ابن عروة قال : كنّا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا يتبغّض أصحاب رسول الله ، فقال مالك : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية ، وهو قوله ليغيظ بهم الكفّار ، والقول الثّاني أنّ معنى قوله منهم أي من ثبت منهم على الإيمان والعمل الصّالح فله المغفرة والأجر العظيم ، أورده النّحّاس في تفسيره .

وقال الطّبريّ : وقوله وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ، يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات ، يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم ، وقوله منهم يعني من الشّطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الدّاخلون في الإسلام بعد الزّرع الذي وصف ربّنا تبارك وتعالى صفته ، والهاء والميم في قوله منهم عائدة على معنى الشّطء لا على لفظه ، ولذلك جمع ، فقيل منهم ولم يقل منه ، وإنّما جمع الشّطء ؛ لأنّه أريد به من يدخل في دين محمّد إلى يوم القيامة بعد الجماعة ، الذين وصف الله صفتهم بقوله والذين معه أشدّاء على الْكفّارِ رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا " (13) .
ولأنّ عدالة جميع الصّحابة معتقد متحكّم في تفكير أصحابه ، فقد انجرّ كثير من النّحاة أيضا وراء (البيانيّة) بدل (التّبعيضيّة) ، فهذا ابن هشام الذي يقول عنه ابن خلدون (أنحى من سيبويه) ، يورد كلام ابن الأنباريّ فيقول : وفي كتاب المصاحف لابن الأنباريّ أنّ بعض الزّنادقة تمسّك بقوله تعالى : (( وَعَدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصّالِحَات منهم مَّغفرة )) في الطّعن على بعض الصّحابة ، والحقّ أنّ من فيها للتّبيين ولا للتّبعيض ، أي الذين آمنوا هم هؤلاء ، ومثله الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتّقوا أجر عظيم ، وكلّهم محسن ومُتّق [!] ، إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم فالمقول فيهم ذلك كلّهم كفّار" (14) .
غير أنّ ابن الأنباريّ وابن هشام يقفان مكتوفي الأيدي ؛ أمام الحديث الذي رواه البخاريّ : ( حدّثنا أحمد بن صالح ، حدّثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن ابن المسيّب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النّبيّ (ص) ، أنّ رسول الله(ص) قال : يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلؤون عنه فأقول يا ربّ أصحابي ، فيقول إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارْتدّوا على أدبارهم القهقرى ، وقال شعيب عن الزهريّ كان أبو هريرة يحدّث عن النّبيّ (ص) فيجلون ، وقال عقيل فيحلؤون.. ) (15) .
فهذا الحديث صريح في أنّهم ارتدّوا على أدبارهم ، وعبارة (ارتدّوا) هي التي استعملها النّبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهي خطيرة في المقام .
وفي الحديث قول النّبيّ (صلى الله عليه وآله) (رجال من أصحابي) ، فهُمْ من أصحابه ، وعبارة (الأصحاب) لا تُطلق على كلّ أتباع النّبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإنّما تُطلق على من كانوا معه في حياته ، فإذا كان المتمسّك بالآية للطّعن في بعض الصّحابة زنديقاً، فكيف يصنع ابن الأنباريّ مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو يذكر أنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ؟ ! .
وفي صحيح البخاري أيضاً:"...ثمّ إذا زُمرةٌ حتّى إذا عرفتُهم خرجَ رَجلٌ من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، قلتُ أين ؟ قال إلى النّار والله ، قلت ما شأنهم ؟ قال إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ؛ فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم " (16) .
قال ابن حجر في فتح الباري : ( وفي حديث أبي سعيد ، في باب صفة النّار أيضا ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي ، وزاد في رواية عطاء بن يسار ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هَمَل النّعم .

ولأحمد والطّبرانيّ من حديث أبي بكرة ، رفعه ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني ، وسنده حسن .

وللطّبرانيّ من حديث أبي الدّرداء نحوه ، وزاد فقلت : يا رسول الله اُدعُ الله أن لا يجعلني منهم ، قال : (( لستَ منهم )) ، وسنده حسن ) (17) .
فالقول بعدالة جميع الصّحابة ونجاتهم ؛ بعد الاطّلاع على هذه الأحاديث وأمثالها ، لا يكون إلا من عَمَى البصيرة ، أو العناد الذي لا علاج له .
ـــــــــــ
1 - الحديث ورد بألفاظ متعدّدة ، قال : الرازي في التّفسير الكبير ج2 ص173 قال عليه الصلاة والسلام : (( تَفكّر ساعة خير من عبادة ستين سنة )) ، ووفي التفسير الكبير أيضاً ج22 ص39 قال عليه السلام : (( تفكر ساعة خير من عبادة سنة )) .وفي الدّرّ المنثور للسيوطي ج2 ص410 : أخرج الديلمي من وجه آخر ، مرفوعا عن أنس ، (( تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة)) . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة )) . وفي تفسير القرطبيّ ج4 ص314: روي عنه عليه السلام أنّه قال: (( تفكّر ساعة خير من عبادة سنة )) . وقال الآلوسيّ في روح المعاني ج12 ص11: وفي بعض الآثار : (( تفكّر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة )) . وفي مرقاة المفاتيح ج1 ص342 : كما ورد : (( تفكّر ساعة خير من عبادة سنة أو ستّين سنة )) .
2 - التبيان في آداب حملة القرآن ، النووي ، ص 82.
3 - تفسير القرطبي، ج 18 ص44.
4 - نفس المصدر ، ج 5 ص 290.
5 - القياس (بالمعنى الذي يقصده القرطبيّ ومدرسته) باطل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، والقول في ذلك مبسوط في كتب الفقه والأصول .
6 ـ التفسير الكبير ـ الرازي ، ج28 ص94.
7 - الكشاف ـ الزّمخشريّ ، ج4 ص350.
8 ـ هذا وأمثاله ممّا يتعارض مع العدل الإلهيّ ، إن كان يريد بعموم الوعد ما يصحّح به عدالة جميع الصّحابة ، فإنّه لابد من العمل الصّالح مع الإيمان ؛ وقد ذكر القرآن الكريم : (( الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا … ))(النساء 137) ، فدلّ هذا على أنّ الإيمان قد يعقبه كفر ، فلا بدّ من الإيمان والعمل الصالح والثّبات عليهما ، إلى أن يخرج المكلف من الدّنيا . وقد اعتمدت المرجئة على تعابير مشابهة في دعوى عقائدهم ، ولا يبعد أن يكون لكعب الأحبار ومن على شاكلته يد في ذلك .
9 ـ للتّذكير قال ابن عقيل في شرح الألفيّة [تجئ " من " للتّبعيض ، ولبيان الجنس ، ولابتداء الغاية : في غير الزّمان كثيراً ، وفي الزّمان قليلا ، وزائدة ، فمثالها للتّبعيض قولك : " أخذت من الدّراهم " ومنه قوله تعالى : (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ )) ، ومثالها لبيان الجنس قوله تعالى : (( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ )) . ومثالها لابتداء الغاية في المكان قوله تعالى : (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى )) . ومثالها لابتداء الغاية في الزّمان قوله تعالى: (( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ .. )) شرح ابن عقيل ـ ج 2 ص 15.
10 - تفسير أبي السعود، ج6 ص190.
11 ـ هذا السيوطي على جلالة قدره ، يستدلّ بما لم يثبت لا عقلاً ولا نقلاً.
12 ـ تفسير الجلالين ، ج1 ص684.
13 ـ تفسير السمعاني، ج5 ص210.
14 - مغني اللبيب ابن هشام ، ج1 ص421.
15 - صحيح البخاري، ج5 ص2407 الحديث رقم 6214.
16 ـ صحيح البخاري ، ج 7 ص 209.
17 ـ فتح الباري ، ابن حجر، ج 11 ص 333.