سر القنوت والتشهد والتسليم في الصلاة

لا ريب في أنّ النظام التكوينيّ إنّما هو على الطاعة والهداية ، ولا مجال للعصيان والضلالة فيه ؛ لأنّ زمام كلّ موجود تكوينيّ إنّما هو بيد اللَّه سبحانه ، وهو تعالى على صراط مستقيم ، وكلّ ما كان زمامه بيد من هو على الصراط السويّ فهو مهتد البتّة ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى * ( « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ) * « 1 » لدلالته على الأصلين المذكورين ، وحيث إنّه لا مجال للتمرّد في التكوين يكون كلّ موجود ممكنا فهو يأتي ربّه طائعا ، كما يدلّ عليه قوله تعالى * ( « فَقالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » ) * « 2 » .

والذي يشاهد من الضلالة والغواية فإنّما هو في التشريع ، حيث إنّ المكلَّف مختار في طيّ السبيل السويّ أو الغويّ ، وإنّما العبادة – سيّما الصلاة – قد شرّعت لتطابق النظامين ، وقد شرّع في الصلاة أحوال تمثّل النظام التكوينيّ من الطاعة والهداية .

إنّ من تلك الأحوال الممثّلة للخضوع هو : القنوت ، لأنّه ابتهال وتضرّع ، وتبتّل تجاه الربّ الجليل ، وحيث إنّ اللَّه جواد لا يخيّب آمله ولا يردّ سائله ، قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : « ما أبرز عبد يده إلى اللَّه العزيز الجبّار إلَّا أستحيي اللَّه – عزّ وجلّ – أن يردّها صفرا حتّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح على وجهه » « 3 » هذا عدا ما يذكر في القنوت ممّا يدلّ على ضراعة العبد ومسكنته وكونه ذا متربة لاصقا به ، غير قادرة على القيام عنها ، نحو ما في دعاء قنوت الوتر « . ربّ أسأت . ، فهذه يداي يا ربّ جزاء بما كسبت ، وهذه رقبتي خاضعة لما أتيت . » « 4 » .

وللاهتمام بالقنوت الممثّل لما هو السرّ التكوينيّ ، المورث للتطابق بينه وبين النظام التشريعيّ قال مولانا الحسين بن عليّ عليهما السلام : « رأيت رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – يقنت في صلاته كلَّها وأنا يومئذ ابن ستّ سنين » « 5 » فهو – عليه السّلام – بحيث يحضر في صلوات جدّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – كلَّها ، وكان زكيّا وذكيّا ، ومراقبا ومحاسبا ، حتّى يتبيّن له ما يأتيه جدّه صلَّى اللَّه عليه وآله ، إذ الناس مأمورون بأخذ الأحكام من سنّته – صلَّى اللَّه عليه وآله – وسيرته .

ولهذا الاعتداد بالقنوت قال مولانا الصادق عليه السّلام : « من ترك القنوت متعمّدا فلا صلاة له » « 6 » ، أي : لا كمال لها ؛ لأنّ الصلاة إنّما هي للهداية إلى ما هو النظام التكوينيّ من الطاعة التامّة والهداية البالغة ، والقنوت الذي هو مظهر تامّ للتبتّل والابتهال موجب لكمالها ، فإذا ترك القنوت فيها فتفقد – حينئذ – كما لها النهائيّ .

وأمّا التشهّد فأصله قد تمثّل في المعراج ، حيث إنّه لمّا أراد رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – ليقوم قيل : يا محمّد ، اجلس ، فجلس ، فأوحى اللَّه إليه : يا محمّد ، إذا ما أنعمت عليك فسمّ باسمي ، فألهم أن قال : بسم اللَّه ، وباللَّه ، ولا إله إلَّا اللَّه ، والأسماء الحسنى كلَّها للَّه ، ثمّ أوحى اللَّه إليه : يا محمّد ، صلّ على نفسك وعلى أهل بيتك ، فقال صلَّى اللَّه عليه وآله : صلَّى اللَّه عليّ وعلى أهل بيتي « 7 » .

وتأويل التشهّد حسبما في رواية جابر هو تجديد الإيمان ، ومعاودة الإسلام ، والإقرار بالبعث بعد الموت . وتأويل قراءة التحيّات هو تمجيد الربّ سبحانه وتعظيمه عمّا قال الظالمون ونعته الملحدون « 8 » .

وقد تقدّم أنّ سرّ تعدّد السجود هو الإقرار بالبدء من التراب والعود فيه والنشور منه ، فإذا جلس المصلَّي للتشهّد فكأنّه قد انبعث من مرقده ، فيقرّ بالبعث بعد الموت ، ويتكلَّم هنا بالتعليم الإلهيّ ما يشاهده هنالك بعد الانبعاث من الجدث ، فكما أنّ للقرآن تأويلا فيأتي ذلك التأويل يوم القيامة كما أخبره اللَّه تعالى كذلك للتشهّد سرّ عينيّ ، وتأويل تكوينيّ يتجلَّى ذلك السرّ يوم القيامة ؛ لأنّ في ذلك اليوم تبلى السرائر والأسرار ، كما أنّ النظام الاعتباريّ ينطوي بساطه ببسط النظام الحقيقيّ .

وللجلوس حال التشهّد كيفيّة مندوب إليها ، وهو التورّك برفع الرجل اليمنى على اليسرى ، وتأويله كما في مرسلة الفقيه : « اللَّهمّ أمت الباطل وأقم الحقّ » « 9 » ، لأنّ اليمنى مظهر الحقّ والصدق ، واليسرى كناية عن الباطل والكذب ، ولقد روعي هذا الأمر في الآداب والسنن لتكون كلمة اللَّه هي العليا ، وإلَّا فالمؤمن كلتا رجليه يمنى ، كما أنّ كلتا يديه كذلك ؛ لأنّه من أصحاب اليمين والميمنة ، كما أنّ غير المؤمن كلتا رجليه يسرى وكلتا يديه كذلك ، والأصل في ذلك كلَّه ما ورد في حقّ اللَّه سبحانه من أنّ كلتا يديه يمين ، مع أنّه لا يد ولا أيّة جارحة أخرى هنالك لتنزّهه تعالى عمّا يدركه الطرف أو يحسّه الحسّ .

وحيث إنّ ولاية أهل البيت – عليهم السّلام – هي العلَّة الوسطى لدوام الفيض من اللَّه الذي لا يشركه في أمره أحد ولا شيء أمر بلحاظها في التشهّد ، كما أمر بعنايتها في افتتاح الصلاة ، وكما أنّ أصل الصلاة لا تقبل بدون الولاية كذلك صلاة من ترك التصلية على أهل البيت – عليهم السّلام – مردودة وإن كان المصلَّي وليّا لهم ، كما يستفاد من رواية جابر الجعفيّ حيث قال : سمعت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – يقول : « إذا صلَّى أحدكم فنسي أن يذكر محمّدا وآله في صلاته سلك بصلاته غير سبيل الجنّة ، ولا تقبل صلاة إلَّا أن يذكر فيها محمّد وآل محمّد صلَّى اللَّه عليه وآله » « 10 » .

وعن النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله : « من صلَّى صلاة لم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه » « 11 » .

وفي رواية زرارة ، عن الصادق عليه السّلام : « أنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة كالصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – من تمام الصلاة » « 12 » وحيث إنّ الصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – بدون الصلاة على أهله بتراء فالصلاة عليهم أجمعين من تمام الصلاة ، كما أنّ بالولاية كمل الإسلام ، وتمّ نصاب النعمة الإلهيّة ، وصار الإسلام الولائيّ مرضيّا للَّه سبحانه حسبما في آية من المائدة « 13 » .

ثمّ إنّ للقيام من السجدة أدبا له تأويل ، وله ذكر ذو سرّ ، أمّا القيام من السجدة في الركعة الثانية الَّتي لها جلوس وتشهّد فمسبوق بالقعود ، ولا كلام فيه ، وأمّا في الركعة الأولى وكذا الثالثة من الرباعيّة اللتين لا تشهّد فيهما فليس للمصلَّي أن ينهض من السجود إلى القيام بلا جلوس ، بل عليه أن يجلس مطمئنا ، ثمّ يقوم ، كما في التهذيب ، عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – حيث قال : « إنّما يفعل ذلك – أي :

النهوض بلا جلوس – أهل الجفاء من الناس ، إنّ هذا – أي : الجلوس ثمّ النهوض – من توقير الصلاة » « 14 » ، وفي المستدرك عن مولانا أبي الحسن عليه السّلام : « إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة ، ثمّ بادر بركبتك إلى الأرض قبل يديك ، وابسط يديك بسطا واتّك عليهما ثمّ قم ، فإنّ ذلك وقار المرء المؤمن الخاشع لربّه ، ولا تطيش من سجودك مبادرا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم » « 15 » .

إنّ الصلاة الاعتباريّة المعهودة تحكي واقعيّتها المعنيّة الَّتي لها آثار جمّة ، فتكون مكرّمة ، وكرامتها تقتضي توقيرها ، والجلوس مطمئنا حافظ لتوقيرها ، فلجلوس تأويل يستظهر عند ظهور واقعيّة الصلاة ، وهو يوم يطوي فيه بساط الاعتبار كطيّ السجلّ .

وأمّا الذكر حال القيام من الجلوس فهو : بحول اللَّه تعالى وقوّته أقوم وأقعد « 16 » ، وسرّه هو : أنّ النظام العينيّ التكوينيّ الذي به يعيش الإنسان المتفكَّر المختار منزّه عن دم إفراط التفويض ، ومبرّأ عن روث تفريط الجبر ، بل هو لبن خالص سائغ للشاربين ، لكونه منزلة بين تينك المنزلتين المشؤومتين ، فالمفوّض يقول : لا حول ولا قوّة للَّه فيما يفعله الإنسان في شؤونه الإراديّة ، والجبريّ يقول : لا حول ولا قوّة إلَّا للَّه في ذلك ، والقائل بالاختيار ، المصون عن ذينك المحذورين يقول : لا حول ولا قوّة إلَّا باللَّه ، فهو يثبت للإنسان حولا بحول اللَّه تعالى ، وقوّة بقوّته ، فالذكر الذي يأتيه المصلَّي حين النهوض إلى القيام بعد الجلوس حاو لأصل كلَّيّ متحقّق في جميع شؤونه الإراديّة بلا خصيصة له بحال الصلاة ، كما لا اختصاص له بحال القيام حسبما أخذ في متن الذكر أيضا ، إذ قعود الإنسان أيضا بحول اللَّه وقوّته ، كما أنّ قيامه بذلك ، وذلك السرّ التكوينيّ يتجلَّى يوم القيامة الَّتي يظهر فيها ما هو الباطن ، وهنالك يتّضح بطلان طرفي المتوسّط من الجبر والتفويض ، وكون المتوسّط بينهما حقّا .

وهذا الذي قدّمناه هو المستفاد من قول مولانا الصادق عليه السّلام : « كان أمير المؤمنين – عليه السّلام – يبرأ من القدريّة في كلّ ركعة وبقول : بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد » « 17 » .

وأمّا التسليم : فأصله قد تمثّل في المعراج ، حيث إنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمّا أتى بما أمر به من الجلوس والتصلية التفت فإذا بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيّين ، فقيل : يا محمّد ، سلَّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ، فأوحى اللَّه – عزّ وجلّ – إليه أنّ السلام والتحيّة والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك « 18 » .

وتأويل السلام هو الترحّم كما عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – حيث قال : « وتأويل قولك : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ترحّم عن اللَّه سبحانه ، فمعناها : هذه أمان لكم من عذاب يوم القيامة » ، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام : « من لم يعلم تأويل صلاته هكذا فهي خداج ، أي : ناقصة » « 19 » .

وفي العلل : « فإن قال : فلم جعل التسليم تحليل الصلاة ولم يجعل بدلها تكبيرا أو تسبيحا أو ضربا آخر ؟ قيل : لأنّه لمّا كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين والتوجّه إلى الخالق كان تحليلها كلام المخلوقين ، والانتقال عنها ، وابتداء المخلوقين في الكلام أوّلا بالتسليم » « 20 » .

وأيضا في العلل : عن الصادق – عليه السّلام – لمّا سئل عن العلَّة الَّتي من أجلها وجب التسليم في الصلاة ، قال عليه السّلام : لأنّه تحليل الصلاة ، ( قال المفضّل بن عمر : ) قلت : فلأيّ علَّة يسلَّم على اليمين ولا يسلَّم على اليسار ؟ قال عليه السّلام :

لأنّ الملك الموكَّل الذي يكتب الحسنات على اليمين والذي يكتب السيّئات على اليسار ، والصلاة حسنات ليس فيها سيّئات ، فلهذا يسلَّم على اليمين دون اليسار ، قلت : فلم لا يقال : السلام عليك ، والملك على اليمين واحد ، ولكن يقال : السلام عليكم ؟

قال عليه السّلام : ليكون قد سلَّم عليه وعلى من على اليسار ، وفضل صاحب اليمين عليه بالإيماء إليه . إلى أن قال المفضّل : قلت : فلم صار تحليل الصلاة التسليم ؟ قال عليه السّلام : لأنّه تحيّة الملكين ، وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة للعبد من النار ، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائر أعماله ، فإذا سلمت له صلاته سلمت جميع أعماله ، وإن لم تسلم صلاته وردّت عليه ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة « 21 » .

وعن معاني الأخبار ، عن عبد اللَّه بن الفضل الهاشميّ قال : سألت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – عن معنى التسليم في الصلاة ، فقال : التسليم علامة الأمن وتحليل الصلاة ، قلت : وكيف ذلك جعلت فداك ؟ قال : كان الناس فيما مضى إذا سلَّم عليهم وارد أمنوا شرّه ، وكانوا إذا ردّوا عليه أمن شرّهم ، فإن لم يسلَّم لم يأمنوه ، وإن لم يردّوا على المسلَّم لم يأمنهم ، وذلك خلق في العرب ، فجعل التسليم علامة للخروج من الصلاة ، وتحليلا للكلام ، وأمنا من أن يدخل في الصلاة ما يفسدها ، والسلام اسم من أسماء اللَّه عزّ وجلّ ، وهو واقع من المصلَّي على ملكي اللَّه الموكَّلين به .

إنّ السلام اسم من الأسماء الحسنى الإلهيّة ، وهو اسم فعليّ لا ذاتيّ ، فهو ينتزع من فعل اللَّه لا من ذاته . وحيث إنّ فعل اللَّه صادر منه فهو خارج عنه ، مفتقر إليه ، فعليه لا غرو في إطلاقه على المظهر التامّ الإلهيّ ، أي : الإنسان الكامل نحو آل البيت عليهم السّلام ، فعليه لا تنافي بين قوله تعالى : « * ( هُوَ ا للهُ الَّذِي لا إِله َ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ) * . » « 22 » وبين ما تقدّم من تطبيق السلام على الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – وآله عليهم السّلام .

ولمّا كانت الجنّة دارا للَّه الذي هو السلام فصحّ أن يقال لها : إنّها دار السلام ، كما أنّها بنفسها تتّصف بالسلامة أيضا ، إذ لا لغو فيها ولا تأثيم ، فبذلك يظهر معنى قوله تعالى * ( « لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » ) * « 23 » ، ويتنزّل ذلك السلام من ربّ رحيم ، كما في سورة يس « آية 58 » * ( « سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ » ) * ، فمن كان من أولي العزم وكان أعزم من غيره – نحو : نوح عليه السّلام حيث إنّه تحمّل أعباء الرسالة ألفا إلَّا خمسين عاما – كان سلام اللَّه عليه أوسع من سلامه تعالى على غيره ، إذ لم يرد في حقّ غيره ما ورد في حقّه من السلام العالميّ ؛ لأنّ القرآن قد نطق في حقّه فقط بقول اللَّه تعالى : * ( « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » ) * « 24 » ، وأمّا في حقّ غيره فلا يوجد فيه عنوان « العالمين » .

والملائكة يسلَّمون على المؤمنين ويقولون لهم * ( « سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ) * « 25 » ، وتحيّة أهل الجنّة بعضهم لبعض إنّما هي بالتسليم ، كما قال اللَّه تعالى * ( « دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ » ) * « 26» .

وهكذا تحيّة رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمن جاءه يتعلَّم منه معالم دينه ، كما قال اللَّه تعالى * ( « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » ) * « 27 » ، وهؤلاء على صنفين :

أحدهما : من يتسلَّم السلام من اللَّه ويرى الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – وسيطا في إبلاغه ، وهو الأوحديّ من أهل الإيمان .

ثانيهما : من يتسلَّمه من نفس الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – ولا يرى من هو أعلى منه وإن كان يعتقده ، وهو الأوسطيّ منهم ، وعلى أيّ تقدير يكون مجلس دراسة الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله – الذي يعلَّم الناس الكتاب والحكمة ، ويزكَّيهم – هو مجلس السلامة ، كما أنّ ليلة القدر – الَّتي أنزل فيها القرآن ، وتنزّل الملائكة فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر سلام – أيضا .

والذي لا ينبغي الذهول عنه هو : أنّ السلام الجدّيّ إنّما يتمشّى في اللقاء الجديد ، فمن كان مصاحبا لشخص ويكون مشغول الذكر به لا يسلَّم عليه ، بخلاف من كان غائبا ثمّ حضر فإنّه يتمشّى منه التسليم ، وحيث إنّ المصلَّي قد أسري وعرج به ، وكان مناجيا ربّه ، غائبا عن الأرض وأهلها ، بل عن ما سوى اللَّه ، فإذا أتمّ النجوى واذن له الهبوط إلى الأرض والحشر مع أهلها فهو حينذاك جديد الورود ، وحديث اللقاء ، فيتمشّى منه التسليم ، وأمّا المصلَّي الذي كان ساهيا عن صلاته ، مشغول السرّ بالأرض وأهلها فلم يكن غائبا عنهم حتّى يحدث له اللقاء ، ويصحّ منه التسليم ، فلذا قال بعض الحافّين حول المعرفة ما معناه : كيف لا يستحي المصلَّي الذي له الويل لسهوه عن صلاته في التسليم ، ولفظه :

واعلم : أنّ السلام لا يصحّ من المصلَّي إلَّا أن يكون مناجيا ربّه ، غائبا عن كلّ ما سوى اللَّه . ، فإذا أراد الانتقال من تلك الحالة إلى حالة مشاهدة الأكوان والجماعة سلَّم عليهم سلام القادم ؛ لغيبته عنهم في صلاته عند ربّه ، فإن كان المصلَّي لم يزل مع الأكوان والجماعة فكيف يسلَّم عليهم ؟ فهلَّا أستحيي هذا المصلَّي حيث يري بسلامه أنّه كان عند اللَّه ! فسلام العارف من الصلاة ؛ لانتقاله من حال إلى حال ، فيسلَّم تسليمتين : تسليمة على من ينتقل عنه ، وتسليمة على من قدم عليه ، إلَّا أن يكون عند اللَّه في صلاته فلا يسلَّم على من انتقل عنه ؛ لأنّ اللَّه هو السلام ، فلا يسلَّم عليه « 28 » .

 

فتبيّن في هذه الصلة أمور :

الأوّل : أنّ النظام التكوينيّ يدور مدار الهداية البحتة ، بخلاف التشريعيّ منه ؛ لتطرّق الضلالة فيه ؛ لتمرّد بعض الناس عمّا هداه اللَّه إليه .

الثاني : أنّ القنوت ممثّل لما عليه التكوين من الذلَّة والضراعة للَّه سبحانه ، وأنّ القانت غير خائب ؛ لأنّ المسؤول جواد لا يخيّب سائله .

الثالث : أنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – كان يقنت في صلواته كلَّها ، وأنّ الصلاة الفاقدة للقنوت غير كاملة .

الرابع : أنّ التشهّد قد تمثّل أصله في المعراج ، والهم الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – بما قاله فيه .

الخامس : أنّ تأويل التشهّد هو : تجديد الإيمان والإقرار بالبعث بعد الموت ، وتأويل التحيّات هو : تعظيم الربّ عمّا نعته الملحدون .

السادس : أنّ سرّ التورّك وتأويله هو : إقامة الحقّ وإماتة الباطل .

السابع : أنّ المؤمن كلتا يديه يمين ، وكلتا رجليه يمنى ؛ لأنّه مظهر للَّه الذي ورد في وصفه أنّ كلتا يديه يمين .

الثامن : أنّ ولاية أهل البيت – عليهم السّلام – هي العلَّة الوسطى لأصل الفيض ودوامه وإن كانت العلَّيّة الحقيقية منحصرة في اللَّه تعالى ، وأنّ الصلاة الفاقدة للصلاة عليهم – عليهم السّلام – غير مقبولة .

التاسع : أنّ للقيام من السجدة الأخيرة أدبا ، وله ذكر وسرّ . وأنّ الجلوس قبل النهوض إلى القيام توقير للصلاة ، وتركه جفاء لها .

العاشر : أنّ الجبر والتفويض تفريط وإفراط ، وأنّ المنزلة الوسطى بينهما هو اللبن الخالص المصون عن دم الإفراط وروث التفريط .

الحادي عشر : أنّ قعود العبد كقيامه باللَّه ، وأنّه لولا حول اللَّه تعالى وقوّته لما قدر العبد على القعود ، كما لم يقدر على القيام .

الثاني عشر : أنّ الحوقلة الطاردة لطرفي الإفراط والتفريط جارية في جميع الشّؤون بلا اختصاص لها بالصلاة .

الثالث عشر : أنّ أمير المؤمنين – عليه السّلام – كان يبرأ بالحوقلة في كلّ ركعة من القدريّة .

الرابع عشر : أنّ سرّ الحوقلة يظهر يوم تبلى فيه السرائر والأسرار ، وهو يوم قيام الحقّ بساقه .

الخامس عشر : أنّ التسليم قد تمثّل أصله في المعراج ، والهم الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – بما يقول فيه .

السادس عشر : أنّ تأويل السلام هو الترحّم والأمان ، وأنّ الدخول في الصلاة كان بتحريم الكلام الآدميّ ، والخروج منها بتحليله .

السابع عشر : أنّ علَّة اختصاص التسليم باليمين هو : التوجّه إلى كاتب الحسنات ، وسبب التعبير فيه بالجمع هو : شموله لمن في اليسار من الملك ، وأنّ في سلامة الصلاة سلامة سائر الأعمال .

الثامن عشر : أنّ عادة العرب قد استقرّت على إحساس الأمن بالتسليم ، وأنّ السلام أمن للصلاة من الفساد .

التاسع عشر : أنّ السلام من الأسماء الفعليّة للَّه ، وأنّ الإنسان الكامل مظهر له ، وأنّ الملائكة يسلَّمون على المؤمن التقيّ النقيّ ، وأنّ السلام العالميّ إنّما اختصّ في القرآن بنوح عليه السّلام ، وأنّ الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – مأمور بالتسليم على من يجيئه لتعلَّم المعارف .

الموفي عشرين : أنّ المصلَّي المناجي ربّه ، الغائب عمّا سواه يتمشّى منه التسليم ، وأنّ المصلَّي الساهي الذي له الويل لم يكن غائبا عمّا سواه حتّى يقدم عليهم ، فكيف يتمشّى منه التسليم ؟ إلَّا أنّه كان مرائيا ، حيث إنّه بسلامه يري أنّه كان مناجيا ربّه ، غائبا عمّن عداه فقدم فسلَّم ، والذي يراه المرائي ويريه أنّه يعبد الحقّ هو : السراب الذي يحسبه الظمآن ماء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
« 1 » هود : 56 .
« 2 » فصّلت : 11 .
« 3 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 319 .
« 4 » المصدر السابق : ص 322 .
« 5 » المصدر السابق : ص 303 .
« 6 » المصدر السابق : ص 302 .
« 7 » المصدر السابق : ص 339 .
« 8 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340 .
« 9 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340 .
« 10 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337 .
« 11 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337 .
« 12 » المصدر السابق : ص 336 .
« 13 » وهي من قوله تعالى : « * ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ . » .
« 14 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286 .
« 15 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286 .
« 16 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 293 – 295 .
« 17 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 46 .
« 18 » المصدر نفسه : ص 11 .
« 19 » المصدر نفسه : ص 61 .
« 20 » المصدر نفسه : ص 68 .
« 21 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 68 .
« 22 » الحشر : 23 .
« 23 » الأنعام : 127 .
« 24 » الصافّات : 79 .
« 25 » النحل : 32 .
« 26 » يونس : 10 .
« 27 » الأنعام : 54 .
« 28 » الفتوحات المكّيّة : ج 1 ص 432 .