في الصانع وقدرته وبقية صفاته

في الصانع وصفاته

لما ثبت أن المتغير محتاج ، والعالم – بجميع أجزائه وتركيبه – متغير فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من محتاج إليه ، وهو صانعه .

 

مسألة [ في غناه ، ووجوبه ، وقدرته ] :

ولما ثبت هذا ، فلا بد أن يكون هو غنيا من كل وجه : إذ بينا أن الحاجة علة لإثبات المحتاج إليه ، فهو – بذاته – مستغن كل شئ ، فيكون واجب الوجود بذاته ، وكل شئ سواه يحتاج إليه .

وإذا كان مؤثرا ، فلا بد أن يكون وجه يصح أن يفعل ويصح أن يفعل ، ويصح أن لا يفعل ، وهذا معنى كونه قادرا .

 

مسألة [ في علمه ] :

ولما ميز بين أجزاء الأفعال ، وقصد بعضها دون بعض ، وركبها على وجه تصلح للنفع ، واستمر ذلك منه ، لما دل على كونه عالما .

 

مسألة [ في حياته ، ووجوده ] :

ولما علم أنه عالم قادر ، ثبت أنه حي ، موجود : إذ يستحيل تصور عالم قادر غير حي ، ولا موجود . على أنا أثبتنا – أولا – وجوب وجوده ، وإذا كان الممكن المحتاج موجودا ، فواجب الوجود – الذي لا يحتاج إلى غيره – بالوجود أولى .

 

مسألة [ في الإرادة ، والاختيار ] :

ويتفرع من كونه حيا ، وعالما أنه لا بد أن يعلم الأشياء كما هي ، إذ لا اختصاص لكونه عالما بمعلوم دون معلوم . فيعلم ما يفضي إلى صلاح الخلق ، وما يؤدي إلى فسادهم ، فيختار ما يفضي إلى صلاحهم ، ويعبر عنه بالحسن ، ولا يختار ما يؤدي إلى فسادهم ، وهو القبيح . ثم ذلك الاختيار ، لا يخلو : إما أن يتعلق بفعله ، أو بفعل غيره :

فما يتعلق بفعله يكون علمه بحسنه داعيا إلى فعله، فيسمى مريدا . وما يتعلق بفعل غيره ، يعلمه أن صلاحه في بعض ، وفساده في بعض ، فيكون إعلامه ، أمرا ونهيا ، وخبرا . ويسمى كارها ، إذا تعلق علمه بقبح شئ ، ويصرفه علمه عنه ، أو ينهى عنه غيره .

 

مسألة [ في الادراك ] :

وعلمه – أيضا – يتعلق بالمعدوم والموجود : فما يتعلق بالمعدوم يسمى كونه عالما ، فحسب .

وما يتعلق بالموجود المدرك يسمى كونه مدركا .

والسمع ورد بأن يوصف – تعالى – بكونه : مدركا سميعا ، بصيرا ، وإلا، فقد كفانا إثبات كونه عالما بجميع المعلومات أنه يعلم المدركات ، والمسموعات ، والمبصرات ، إذ ليس إدراكه لشئ منها من جهة الحاسة .

 

مسألة [ في القدم ولوازمه ] :

وإذا ثبت أنه تعالى واجب الوجود من كل وجه ، فلا يتوقف وجوده على غيره ، فلا يحتاج إلى فاعل ، ولا شرط ، ولا علة ، ولا زمان ، ولا مكان ، ولا غاية ، ولا ابتداء ، ولا انتهاء :

لأن هذه الأشياء غيره ، وقد قررنا أنه لا يحتاج إلى غيره . فيكون قديما – موجودا أزلا ، إذ هو عبارة عما لا أول له ، ولا يزال ، إذ هو عبارة عما لا آخر له – : إذ لو توقف وجوده على الابتداء والانتهاء ، لبطل وجوب وجوده ، وقد ثبت وجوبه .

 

مسألة [ في التوحيد ولوازمه ] :

وإذ قد ثبت وجوب وجوده ، فهو واحد من كل وجه ، لا ثاني له : لأنه لو كان له ثان واستغنى عنه من كل وجه ، لما استغنى عنه في العدد ، وهو كونهما اثنين ، وقد فرضناه غنيا من كل وجه .

وأيضا : لما تميز الواحد من اثنين ، إذ كان من كل وجه مثله ، فبماذا يتميز منه ؟ ! وأثبات ما لا يتميز يفضي إلى الجهالات .

وكما لا ثاني له ، فلا جزء له : لأنه لو كان له جزء ، لاحتاج إلى ذلك الجزء ، فيكون محتاجا إلى غيره ، وقد فرضناه غنينا من كل أحد . فقد ثبت أنه واحد لا ثاني له ، ولا جزء له .

 

مسألة [ في التنزيه ولوازمه ] :

ولما ثبت غناه وعلمه ، فكل ما يجوز على المحتاج لا يجوز عليه : فلا يحتاج إلى الجهة ، ليشغلها ، فلا يكون جوهرا .

ولا إلى التركيب ، فلا يكون جسما . ولا إلى المحل ، فلا يكون عرضا . ولا إلى الزمان ، إذ قد ثبت قدمه ، فبطل عدمه .ولا إلى المكان ، إذ هو من لواحق الجسم .

ولا يختار إلا ما هو صلاح العباد ، لأنه لا يحتاج إلى فعله ، فلا بد من أن يكون قد خلق الخلق لغاية تؤدي إليها حكمته ، وتلك الغاية تكون كمال خلقه . والطريق إلى ذلك الكمال لا يخلو : إما أن يفعله هو ، [ أ ] وأن يعلمنا الطريق إليه :

وما يفعله هو ، لا يخلو : إما أن يفعله – أولا – لا من شئ ، ويسمى ذلك الفعل مخترعا .

أو يخلق شيئا من شئ ، وهو المتولد .

والمخترع يكون مبدأ المتولد ، لأنه لا بد وأن يبتدئ أولا ، ثم يخلق منه شيئا .

فقد عرفت – حينئذ – أن الملائكة ملأ خلقهم الله – تعالى – لا عن شئ ، لما علم أن كنه قدرة البشر لا يبلغ أدنى أثر ، جعل الملائكة واسطة المتولدات ، وهم الذين ذكرهم الله في كتابه : من حملة عرشه وسكان سماواته والذاريات والمرسلات وغيرهم ، ممن لا يعلمهم إلا الله – تعالى – كما قال : ( . . . وما يعلم جنود ربك إلا هو . . . ) [ الآية من سوره المدثر] . والمقصود من هذا : أن العبد لا يصل إلى كماله ونجاته إلا : إما بفعله ، كخلقه .