معنى الفالق وتجلياته

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {۹۵} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {۹۶}﴾۱٫

 

وفي دعاء الجوشن الكبير

«اللهم إنِّي أسألك باسمك يا خالق، يا رازق، يا ناطق، يا صادق، يا فالق، يا فارق، يا فاتق، يا راتق، يا سابق، يا سامق»۲٫

«الفالق: من جملة الأسماء الحسنى الواردة في كثير من الأحاديث والروايات والأدعية الشريفة، من قبيل دعاء الجوشن، و الرواية المشهورة عن أمير المؤمنين (ع)، عن رسول الله (ص): «إنَّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، مَنْ أحصاها دخل الجنة، وهي: الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير،… وقد عدَّ منها الفالق»»۳٫

نعم لم يرد في القرآن الكريم محلاة بالألف واللام، والوارد فيه من دون ذلك في موردين، وقد سردناهما في بداية الحديث.

وأمّا المراد من هذا الاسم الشريف، فقد قال الفيلسوف الإسلامي الملا هادي السبزواري في شرح لدعاء الجوشن ما يلي:

«فالق: فلقه، أي شقَّه، وهو تعالى فالق الحب والنوى بإخراج الأغصان والأوراق والأزهار منها، وفالق كل مادة بإخراج الصور منها، بل فالق ظلمة العدم بنور الوجود كما هو فالق ظلمة الليل بنور الإصباح »۴٫

وقال الشيخ الصدوق: «الفالق: اسم مشتق من الفلق، ومعناه في أصل اللغة الشق، يقال: سمعتُ هذا من فلق فيه، وفلقتُ الفستقة فانفلقت ْ، – شققتُها فانشقّت ْ- وخلق الله تبارك وتعالى كل شئ فانفلق عن جميع ما خلق، فلق الأرحام فانفلقت عن الحيوان، وفلق الحب والنوى فانفلقا عن النبات، وفلق الأرض فانفلقت عن كل ما أخرج منها، وهو كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾۵ صدعها فانصدعت، وفلق الظلام فانفلق عن الإصباح، وفلق السماء فانفلقت عن القطر، وفلق البحر لموسى (ع) فانفلق فكان كل فرق منه كالطود العظيم »۶٫

 

تجلـّيات الفالق

قال صاحب تفسير الأمثل في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {۹۵} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {۹۶}﴾۷:

« يوجّه القرآن الخطاب إلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذّابة وفي نماذج حيّة من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.

ففي الآية الأولى يشير إلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثانية يشير إلى ثلاثة من الظواهر السماوية.

يقول القرآن الكريم أولاً: ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾.

(الفلق) شقُّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض۸٫

و(الحب) و (الحبة) يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضًا۹٫

و(النوى) هو كل نوى، وقيل أنه يخص نوى التمر، ولعلَّ هذا يرجع إلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان ينصرف ذهنه إلى نوى التمر إذا سمع هذه الكلمة.

ولننظر الآن إلى ما يكمن في هذا التعبير: ينبغي أنْ نعلم أن أهم لحظة في حياة الحبة والنوى هي لحظة الفلق، وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إلى عالم آخر، إذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحوُّل في حياته.

ومما يلفت الانتباه أنَّ الحبة والنواة غالبًا ما تكونان صلبتين، فنظرة إلى نواة التمر والخوخ وأمثالهما، والى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أنَّ تلك النطفة الحياتية التي هي في الواقع نبتة صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب، وإن يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الاختراق خاصية التسليم والليونة، أمام اختراق الجنين، كما منحت الجنين قوة اندفاع تمكنه من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقًا حادثة عجيبة في عالم النبات، لذلك يشير إليها القران على أنَّها من دلائل التوحيد… ».

ثمّ يضيف قائلاً: « قلنا أنَّ القرآن في الآية الثانية يشير إلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أوّلاً: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ وذكرنا أنَّ (الفلق) هو شقُّ الشيء، وإبانة بعضه عن بعض، و (الإصباح) و(الصبح) بمعنى واحد.

إنَّه تعبير رائع فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح شقًا وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما، لأنَّ الصبح الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة عمود، وكأنَّه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة، والصبح الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند امتداد الأفق الشرقي، وكأنَّه شقُّ عباب الليل الأسود من الأسفل ممتدًا من الجنوب إلى الشمال، متقدمًا في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلّها شيئًا فشيئًا.

كثيرًا ما يشير القرآن إلى نعمتي النور والظلام والليل والنهار، ولكنه هنا يتناول (طلوع الصبح) كنعمة من نعم الله الكبرى، فنحن نعرف أنَّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جـوّ الأرض، ذلك الغـلاف الضــخم من الهواء الذي يحيط بالأرض، فلـو كانت الأرض – مثل القمر – عديمة الجو، لما كان هناك (طلوعان) ولا (فلق) ولا (إصباح)، ولا (غسق) ولا (شفق) بل لكانت الشمس تبزغ فجأة، وبدون أية مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت ظلام الليل ولم تكد تفارقه، وعند الغروب تختفي فجأة، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء، غير أنَّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيئ الإنسان تدريجيًا لتقبل هذين الاختلافين المتضادين والانتقال من الظلمة إلى النور ومن النور إلى الظلمة، شيئًا فشيئًا، بحيث أنَّه يستطيع أنْ يتحمل كل منهما، فنحن نشعر بالانزعاج إذا كنا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعمَّ الظلام، ثم إذا استمر الظلام ساعة، وعاد النور مرة أخرى فجأة، عادت معها حالة الانزعاج بسبب سطوع الضوء المفاجئ الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية الأشياء، وإذا ما تكرر هذا الأمر فإنَّه لا شك سيؤذي العين، غير أنَّ ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ قد جنب الإنسان هذا الأذى بطريقة رائعة.

ولكيلا يظن أحد أنَّ فلق الصبح دليل على أنَّ ظلام الليل أمر غير مطلوب وأنَّه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إلى القول: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾.

من الأمور المسلّم بها أنَّ الإنسان يميل خلال انتشار النور والضياء إلى العمل وبذل الجهد، ويجري الدم نحو سطح الجسم وتتهيّأ الخلايا للفعّاليّة والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحًا، لأنَّ النوم يكون أعمق وأكثر راحة كلما كان الظلام أشد، إذ في الظلام يتجه الدم نحو الداخل، وتدخل الخلايا عمومًا في نوع من السكون والراحة، ولذلك نجد في الطبيعة أنَّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل أنَّ النباتات تنام في الليل أيضًا، وعند بزوغ خيوط الصبح الأولي تشرع بفعّاليتها ونشاطها، وبعكس الإنسان في العصر الآلي، فهو يبقى مستيقظًا إلى ما بعد منتصف الليل، ثم يظل نائمًا حتى بعد ساعات بعد ساعات من طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.

في الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع) نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا التنظيم، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي (ع) أنَّه قال يوصي أحد قواده: «… ولا تسر أول الليل فإنَّ الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ضعنًا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك…»۱۰٫

 

العبد والفالق

إنَّ هذه الإشارات الإلهية والتأكيدات الروائية لما تضمنه القرآن الكريم لم يأت جزافًا أو للقراءة العابرة فقط من دون تأمل أو تدبر، بل لهي إشارات لأولي الألباب كي يسعوا معتمدين على الله تعالى وثمَّ على أنفسهم لكشف حقائق الكون ورفع الستار عن هذه الآيات الباهرات المنتشرة في أرجاء هذا الكون العظيم الدال على عظمة الخالق وفالقيته وحكمته وجبروته، ومن ثمّ يتقدم الإنسان اعتقاديًا وفكريًَّا وفي كل مجالات الحياة.

إلا أنَّ ما نراه نحن المسلمون أنْ أصبحنا رهن اكتشافات الغرب والشرق، وكأنَّ الأمر لا يعنينا، أو كأنَّنا لا نؤمن أنَّ للعالم خالق بديع حكيم دبر الأمور على الحكمة والقدرة الفائقتين.

إنَّ من جملة الفوارق الجوهرية بيننا وبين علمائنا الأبرار السابقين الذين تشرَّف التاريخ بتدوين أسماؤهم الشريفة في أسطر أوراق كتبها، هو أنَّهم كانوا يسعون للتأمل في كل صغيرة وكبيرة، ومعرفة الحكمة والمصلحة الكامنة في كل الظواهر الكونية، وفي جميع مجالات الحياة، فاكتشفوا وأبدعوا واخترعوا فانقادت لهم علماء الشرق والغرب بعد أنْ نكسوا رؤوسهم أمام عبقريتهم ودقة تأملاتهم وعلمهم.

فحظّ العبد من هذه الصفة الشريفة هو أنْ يسعى لشق ستار الجهل عما يحيطه من أمور، ويسعى للتقدم العلمي معتمدًا بما انتهى إليه العلم، ويكون بذلك السبيل لتحرر بلاد الإسلام من ذلّ عبودية الغرب والشرق. والخروج من الاستعمار حقيقة وواقعًا، ونكون متبوعين لا تابعين، ونحي بذلك تاريخنا المجيد.

__________
۱- سورة الأنعام: الآيتان ۹۵،۹۶٫
۲- بحار الأنوار- العلامة المجلسي ج ۹۱، ص۳۹۲٫ ومفاتيح الجنان.
۳- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص۱۹۴٫
۴- شرح الأسماء الحسنى- الملا هادى السبزواري ج ۱، ص ۲۲۰٫
۵- سورة الطارق: الآية ۱۲٫
۶- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص۲۰۹٫
۷- سورة الأنعام: الآيتان ۹۵،۹۶٫
۸-المفردات- الراغب الأصفهاني، ص ۳۸۵٫”هامش المصدر”
۹-المصدر السابق، ص۱۰۵٫” هامش المصدر”
۱۰-تفسير الأمثل- آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج۴، ص ۳۶۲- ۳۶۶٫