في ذكر وفاة الإمام الرضا (ع) وسببها وبعض ما جاء من الأخبار في ذلك
وكان سبب قتل المأمون إياه أنه عليه السلام كان لا يحابي المأمون في حق ، ويجبهه في أكثر أحواله بما يغيظه ويحقده عليه ، ولا يظهر ذلك له ، وكان عليه السلام يكثر وعظه إذا خلا به ، ويخوفه بالله تعالى ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن خلافه .
ودخل عليه السلام يوما عليه فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء فقال : ( لا تشرك – يا أمير المؤمنين – بعبادة ربك أحدا ) فصرف المأمون الغلام وتولى إتمام وضوئه .
وكان عليه السلام يزري على الفضل والحسن – ابني سهل – عند المأمون إذا ذكرهما ، ويصف له مساوئهما ، وينهاه عن الاصغاء إلى مقالهما ، فعرفا ذلك منه ، فجعلا يحطبان ( 1 ) عليه عند المأمون ، ويخوفانه من حمل الناس عليه ، حتى قلبا رأيه فيه وعزم على قتله ، فاتفق أنه عليه السلام أكل هو والمأمون طعاما فاعتل الرضا عليه السلام وأظهر المأمون تمارضا ( 2 ) .
فذكر محمد بن علي بن أبي حمزة ، عن منصور بن بشير ، عن أخيه عبد الله بن بشير قال : أمرني المأمون أن أطول أظفاري عن العادة ولا أظهر لاحد ذلك ، ففعلت ، ثم استدعاني وأخرج إلي شيئا شبيها بالتمر الهندي ، وقال : اعجن هذا بيديك جميعا ، ففعلت .
ثم قام وتركني ، فدخل على الرضا عليه السلام فقال له : ما خبرك ؟
قال : ( أرجو أن أكون صالحا ) .
فقال له : وأنا اليوم بحمد الله أيضا صالح ، فهل جاءك أحد من المترفقين في هذا اليوم ؟ قال : ( لا ) .
فغضب المأمون وصاح على غلمانه ، ثم قال : فخذ ماء الرمان الساعة ، فإنه مما لا يستغنى عنه ، ثم دعاني فقال : إئتنا برمان ، فأتيته به فقال لي : أعصره بيديك ، ففعلت وسقاه المأمون بيده ، وكان ذلك سبب وفاته ، ولم يلبث إلا يومين حتى مات ( 3 ) .
وروي عن محمد بن الجهم أنه قال : كان الرضا عليه السلام يعجبه العنب ، فاخذ له شئ منه فجعل في موضع أقماعه الإبر أياما ثم نزعت منه وجئ به إليه ، فأكل منه وهو في علته التي ذكرناها فقتله ، وذكر أن ذلك من لطيف السموم ( 4 ) .
وروى جماعة كثيرة بن أصحابنا ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهروي قال : بينا أنا واقف بين يدي الرضا عليه السلام إذ قال لي : ( يا أبا الصلت ، ادخل هذه القبة التي فيها قبر هارون فائتني بترابه من أربعة جوانب ) .
قال : فأتيته به فقال : ( ناولني هذا التراب ) – وهو من عند الباب – فناولته فأخذه وشمه ثم رمى به فقال : ( سيحفر لي ههنا ، فتظهر صخرة لو جمع عليها كل معول بخراسان لم يتهيأ قلعها ) ثم قال : ( في الذي عند الرجل مثل ذلك ، وفي الذي عند الرأس مثل ذلك ) .
ثم قال : ( ناولني هذا التراب فهو من تربتي ) ثم قال : ( سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل ، وأن يشق لي ضريحا ، فإن أبوا إلا أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا ، فإن الله عز وجل سيوسعه لي بما شاء ، فإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلم بالكلام الذي أعلمك ، فإنه ينبع الماء حتى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتانا صغارا ففتت لها الخبز الذي أعطيك فإنها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شئ خرجت حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان . الصغار حتى لا يبقى منها شئ ، ثم تغيب فإذا غابت فضع يدك على الماء وتكلم بالكلام الذي اعلمك فإنه ينضب الماء ولا يبقى منه شئ ، ولا تفعل ذلك إلا بحضرة المأمون ) .
ثم قال عليه السلام : يا أبا الصلت ، غدا أدخل إلى هذا الفاجر فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلم أكلمك ، وإن خرجت وأنا مغطى الرأس فلا تكلمني ) .
فلما أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له : أجب أمير المؤمنين ، فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلما بصر بالرضا عليه السلام وثب إليه وعانقه وقبل ما بين عينيه وأجلسه معه وناوله العنقود وقال : يا ابن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا ، فقال له الرضا عليه السلام : ( ربما كان عنبا حسنا يكون من الجنة ) فقال : كل منه ، فقال له الرضا عليه السلام : ( تعفيني منه ) فقال : لابد من ذلك ، وما يمنعك منه ، لعلك تتهمنا بشئ ، فتناول العنقود وأكل منه ثم ناوله فأكل منه الرضا عليه السلام ثلاث حبات ثم رمى به وقام ، فقال له المأمون : إلى أين ؟ قال : ( إلى حيث وجهتني ) .
وخرج عليه السلام مغطى الرأس فلم أكلمه حتى دخل الدار وأمر أن يغلق الباب فاغلق ثم نام عليه السلام على فراشه ، ومكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا ، فبينا أنا كذلك إذ دخل علي شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليه السلام فبادرت إليه وقلت : من أين دخلت والباب مغلق ؟ فقال لي : ( الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق ) .
فقلت له : ومن أنت ؟
فقال لي : ( أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمد بن علي ) .
ثم مضى نحو أبيه عليه السلام فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلما نظر إليه الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه ، ثم سحبه سحبا في فراشه وأكب عليه محمد بن علي يقبله ، وساره بشئ لم أفهمه ، ورأيت على شفتي الرضا زبدا أشد بياضا من الثلج ، ورأيت أبو جعفر يلحسه بلسانه ، ثم أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئا شبيها بالعصفور فابتلعه أبو جعفر ، ومضى الرضا عليه السلام .
فقال أبو جعفر : ( قم يا أبا الصلت وائتني بالمغتسل والماء من الخزانة ) .
فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء .
فقال لي : ( انته إلى ما أمرك به ) .
فدخلت الخزانة ، فإذا فيها مغتسل – وماء ، فأخرجته وشمرت ثيابي لأغسله معه ، فقال لي : ( تنح ) يا أبا الصلت ، فإن معي من يعينني غيرك ) .
فغسله ثم قال لي : ( ادخل الخزانة فأخرج إلي السفط الذي فيه كفنه وحنوطه ) .
فدخلت ، فإذا أنا بالسفط لم أره في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه وكفنه وصلى عليه ، ثم قال : ( إئتني بالتابوت ) .
فقلت : أمضي إلى النجار حتى يصلح تابوتا .
قال : ( قم ، فإن في الخزانة تابوتا ) .
فدخلت الخزانة فوجدت تابوتا لم أره قط ، فأتيته به فأخذه عليه السلام فوضعه في التابوت بعدما صلى عليه وصف قدميه وصلى ركعتين ، لم يفرغ منها حتى علا التابوت وانشق السقف فخرج منه التابوت ومضى ، فقلت :
يا ابن رسول الله الساعة يجيئنا المأمون يطالبنا بالرضا فما نصنع ؟
فقال لي : ( أسكت فإنه سيعود يا أبا الصلت ، ما من نبي يموت في المشرق ويموت وصيه في المغرب إلا جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما ) .
فما أتم الحديث حتى انشق السقف ونزل التابوت ، فقام عليه السلام واستخرج الرضا عليه السلام من التابوت ووضعه على فراشه كأنه لم يغسل ولم يكفن ، ثم قال : ( يا أبا الصلت ، قم فافتح الباب للمأمون ) .
ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكيا حزينا قد شق جيبه ولطم رأسه وهو يقول : يا سيداه ، فجعت بك يا سيدي ، ثم دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه .
فأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كل شئ على ما وصفه الرضا عليه السلام ، فقام بعض جلسائه وقال : ألست تزعم أنه إمام ؟ قلت : بلى ، لا يكون الامام إلا مقدم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة ، فقلت : أمرني أن أحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه ، فقال : إنتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت – سوى الضريح – ولكن يحفر له ويلحد .
فلما رأى ما ظهر له من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون : لم يزل الرضا عليه السلام يرينا العجائب في حياته حتى أراناها بعد وفاته أيضا .
فقال له وزير كان معه : أتدري ما أخبرك به الرضا .
قال : لا .
قال : أخبركم إن ملككم بني العباس – مع كثرتكم وطول مدتكم – مثل هذه الحيتان ، حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلط الله تعالى عليكم رجلا منا فأفناكم عن آخركم .
قال له : صدقت ، ثم قال : يا أبا الصلت ، علمني الكلام الذي تكلمت به .
قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ، فحبست سنة ، فضاق علي الحبس وسألت الله أن يفرج عني بحق محمد وآله ، فلم أستتم الدعاء حتى دخل محمد ين علي الرضا عليهما السلام فقال لي : ( ضاق صدرك يا أبا الصلت ؟ )
فقلت : إي والله .
قال : ( قم فاخرج ) ثم ضرب بيده إلى القيود التي كانت علي ففكها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار ، والحرسة والغلمة يرونني فلم يستطيعوا أن يكلموني ، وخرجت من باب الدار ثم قال لي : ( إمض في ودائع الله ، فإنك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبدا ) .
قال أبو الصلت : فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت ( 5 ) .
وروي عن إبراهيم بن العباس قال : كانت البيعة للرضا عليه السلام لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين ، وزوجه ابنته أم حبيب في أول سنة اثنين ومائتين ، وتوفي سنة ثلاث ومائتين والمأمون متوجه إلى العراق ( 6 ) .
وفي رواية هرثمة بن أعين عن الرضا عليه السلام – في حديث طويل – : أنه قال : ” يا هرثمة ، هذا أوان رحيلي إلى الله عز وجل ولحوقي بجدي وآبائي عليهم السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله ، فقد عزم هذا الطاغي على سمي في عنب ورمان مفروك ، فأما العنب فإنه يغمس السلك في السم ويجذبه بالخيط في العنب ، وأما الرمان فإنه يطرح السم في كف بعض غلمانه ويفرك الرمان بيده ليلطخ حبه في ذلك السم ، وإنه سيدعوني في اليوم المقبل ويقرب إلي الرمان والعنب ويسألني أكلهما فأكلهما ثم ينفذ الحكم ويحضر القضاء ) ( 7 ) .
ثم ساق الحديث بطوله قريبا من حديث أبي الصلت الهروي في معناه ، ويزيد عليه بأشياء .
وكان للرضا عليه السلام من الولد ابنه أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام لا غير ( 8 ) .
ولما توفي الرضا عليه السلام أنفذ المأمون إلى محمد بن جعفر الصادق عليه السلام وجماعة آل أبي طالب الذين كانوا عنده ، فلما حضروه نعاه إليهم وأظهر . حزنا شديدا وتوجعا ، وأراهم إياه صحيح الجسد ، وقال : يعز علي يا أخي أن أراك بهذه الحال وقد كنت آمل أن أقدم قبلك ، ولكن أبى الله إلا ما أراد ( 9 ) .
الهوامش
( 1 ) حطب فلان بفلان : سعى به . ( لسان العرب 1 : 322 ) .
( 2 ) ارشاد المفيد 2 : 269 ط وباختصار في : مقاتل الطالبيين : 565 .
( 3 ) ارشاد المفيد 2 : 270 ، اثبات الوصية : 181 ، روضة الواعظين : 232 ، كشف الغمة : 2 : 281 .
( 4 ) ارشاد المفيد 2 : 270 ، روضة الواعظين : 232 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 374 ، كشف الغمة 2 : 282 ، مقاتل الطالبيين . 567 .
( 5 ) أمالي الصدوق : 526 / 17 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 242 / 1 ، روضة الواعظين : 229 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 374 ، الثاقب في المناقب : 489 / 417 .
( 6 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 245 / 2 .
( 7 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 246 ، دلائل الإمامة : 178 .
( 8 ) انظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 250 ، ارشاد المفيد 2 : 271 ، المناقب الابن شهرآشوب 4 : 367 ، كشف الغمة 2 : 282 .
( 9 ) انظر : ارشاد المفيد 2 : 271 ، روضة الواعظين : 233 ، كشف الغمة 2 : 282 ، مقاتل الطالبيين : 567 .