في ذكر طرف من خصائص الإمام الرضا (ع) ومناقبه وأخلاقه الكريمة
محمد بن يحيى الصولي ، عن ابن ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : ما رأيت الرضا عليه السلام سئل عن شئ قط إلا علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شئ فيجيب عنه ، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كل ثلاث ويقول : ” لو أني أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت ، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها وفي أي شئ أنزلت وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختمه في كل ثلاث ” ( 1 ) .
وفي رواية أخرى : عن إبراهيم بن هاشم ، عن إبراهيم بن العباس أنه قال : ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا ، وشاهدت منه ما لم أشاهده من أحد ، وما رأيته جفا أحدا بكلامه قط ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ، وما رد أحدا عن حاجة يقدر عليها ، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكئ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته يشتم أحدا من مواليه ومماليكه ، وما رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه بل كان ضحكه التبسم ، وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس ، وكان قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح ، وكان كثير الصوم ، ولا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، ويقول : ” ذلك صوم الدهر ” وكان كثير المعروف والصدقة في السر ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه ( 2 ) .
وعن محمد بن أبي عباد قال : كان جلوس الرضا عليه السلام على حصير في الصيف وعلى مسح في الشتاء ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم ( 3 ) .
وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده ، عن الفضل بن العباس ، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي قال : ما رأيت أعلم من علي ابن موسى الرضا عليهما السلام ، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي أحد منهم إلا أقر له بالفضل وأقر على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت علي بن موسى الرضا عليهما السلام يقول : ” كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسالة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها ” ( 4 )
قال أبو الصلت : ولقد حدثني محمد بن إسحاق بن موسى بن جعفر ، عن أبيه : أن موسى بن جعفر عليهما السلام كان يقول لبنيه : ” هذا أخوكم على بن موسى عالم آل محمد ، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم ، فإني سمعت أبي جعفر بن محمد * غير مرة يقول لي : إن عالم آل محمد لفي صلبك ، وليتني أدركته فإنه سمي أمير المؤمنين علي عليه السلام ” ( 5 ) .
وروى علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمد بن يحيى الفارسي قال : نظر أبو نؤاس إلى الرضا عليه السلام ذات يوم وقد خرج من عند المأمون على بغلة له ، فدنا منه وسلم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، قد قلت فيك أبياتا وأنا أحب أن تسمعها مني .
قال : ” هات ” فأنشأ يقول :
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أين ما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر
فالله لما برا خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور
فقال الرضا عليه السلام : ” قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد ، يا غلام هل معك من نفقتنا شئ ؟ ” .
فقال : ثلاثمائة دينار .
فقال : ” أعطها إياه ” ثم قال : ” لعله استقلها ، يا غلام سق إليه البغلة ” ( 6 ) .
ولأبي نؤاس فيه أيضا :
قيل لي أنت أوحد الناس طرا * في فنون من الكلام النبيه ( 7 )
لك من جوهر الكلام بديع * يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلام تركت مدح ابن موسى * والخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام * كان جبريل خادما لأبيه ( 8 )
علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهروي قال :
دخل دعبل بن علي الخزاعي على الرضا عليه السلام بمرو فقال له : يا ابن رسول الله ، إني قد قلت فيكم قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا
قبلك .
فقال عليه السلام : ” هاتها ” .
فأنشده :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
فلما بلغ إلى قوله :
أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات
بكى أبو الحسن الرضا عليه السلام وقال له : ” صدقت يا خزاعي ” .
فلما بلغ إلى قوله :
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم * أكفا عن الأوتار منقبضات
جعل الرضا عليه السلام يقلب كفيه ويقول : ” أجل والله منقبضات ” .
فلما بلغ إلى قولة :
لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها * وإني لأرجو الامن بعد وفاتي
قال الرضا عليه السلام : ” آمنك الله يوم الفزع الأكبر ” .
فلما انتهى إلى قوله :
وقبر ببغداد لنفس زكية * تضمنها الرحمن في الغرفات
قال الرضا عليه السلام : ” أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك ؟ ”
فقال : بلى يا ابن رسول الله .
فقال عليه السلام :
” وقبر بطوس يا لها من مصيبة * توقد في الأحشاء بالحرقات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائما * يفرج عنا الهم والكربات “
فقال دعبل : يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟
فقال الرضا عليه السلام : ” قبري ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفورا له ” .
ثم نهض الرضا عليه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه ، فدخل الدار فلما كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار – وفي رواية غيره : ستمائة دينار – وقال له : يقول لك مولاي :
” إجعلها في نفقتك ” .
فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعا في شئ ، ورد الصرة وسأل ثوبا من ثياب الرضا ليتبرك به ويتشرف ، فأنفذ إليه الرضا عليه السلام بجبة خز مع الصرة وقال للخادم : ” قل له : خذ هذه الصرة فإنك ستحتاج إليها ، ولا تراجعني فيها ” .
فانصرف دعبل وصار من مرو في قافلة فوقع عليهم اللصوص وأخذوا القافلة وكتفوا أهلها وجعلوا يقسمون أموالهم ، فتمثل رجل منهم بقوله :
أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات
فقال دعبل : لمن هذا البيت ؟ قال : لرجل من خزاعة . قال : فأنا دعبل قاتل هذه القصيدة .
فحلوا كتافه وكتاف جميع القافلة ، وردوا إليهم جميع ما أخذ منهم .
وسار دعبل حتى وصل إلى قم وأنشدهم القصيدة فوصلوه بمال كثير وسألوه أن يبيع الجبة منهم بألف دينار فأبى ، وسار عن قم فلحقه قوم من أحداثهم وأخذوا الجبة منه ، فرجع دعبل وسألهم ردها عليه فقالوا : لا سبيل لك إليها فخذ ثمنها ألف دينار ، فقال : على أن تدفعوا إلى شيئا منها ، فأعطوه بعضها وألف دينار .
وانصرف دعبل إلى وطنه فوجد اللصوص أخذوا جميع ما في منزله ، فباع المائة دينار التي وصله بها الرضا عليه السلام من الشيعة كل دينار بمائة درهم ، وتذكر قول الرضا عليه السلام : ” إنك ستحتاج إليها ” ( 9 ) .
وعن أبي الصلت الهروي قال : سمعت دعبل قال : لقا أنشدت مولاي الرضا عليه السلام القصيدة وانتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا عليه السلام بكاء شديدا ثم رفع رأسه إلي وقال :
” يا خزاعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم ؟ ”
قلت : لا يا مولاي ، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يملأ الأرض عدلا . فقال : ( يا دعبل ، الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا ) ( 10 ) .
وروى الصولي ، عن أبي ذكوان ، عن إبراهيم بن العباس قال : كان الرضا عليه السلام ينشد كثيرا :
( إذا كنت في خير فلا تغتر ربه * ولكن قل اللهم سلم وتمم ) ( 11 )
وعن الريان بن الصلت قال : أنشدني الرضا عليه السلام لعبد المطلب :
( يعيب الناس كلهم زمانا * وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا * ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب * ويأكل بعضنا بعضا عيانا ) ( 12 )
وشكا رجل أخاه في مجلسه عليه السلام فأنشأ يقول :
( اعذر أخاك على ذنوبه * واستر وغط على عيوبه
واصبر على بهت السفيه * وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا * وكل الظلوم إلى حسيبه ) ( 13 )
وروي عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال : كتب أبو الحسن الرضا عليه السلام إلى بعض أصحابه : ( إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الايمان وبحقيقة النفاق ) ( 14 ) .
وروي عن ياسر الخادم قال : كان غلمان لأبي الحسن عليه السلام في البيت صقالبة وروم ، وكان أبو الحسن عليه السلام قريبا منهم فسمعهم بالليل يتراطنون بالصقلبية والرومية ويقولون : إنا كنا نفتصد في كل سنة في بلادنا ثم ليس نفتصد هاهنا ، فلما كان من الغد وجه أبو الحسن عليه السلام إلى بعض الأطباء فقال : ( افصد فلانا عرق كذا ، وافصد فلانا عرق كذا ) ثم قال : ( يا ياسر ، لا تفتصد أنت ) .
قال : فافتصدت فورمت يدي واحمرت . فقال لي : ( يا ياسر مالك ؟ ) فأخبرته فقال : ( ألم أنهك عن ذلك ، هلم يدك ) فمسح يده عليها وتفل فيها ثم أوصاني أن لا أتعشى ، فكنت بعد ذلك ما شاء الله لا أتعشى ثم أتغافل فأتعشى فتضرب علي ( 15 ) .
عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهروي قال : كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم ، وكان والله أفصح الناس وأعلمهم بكل لسان ولغة ، نقلت له يوما : يا ابن رسول الله إني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها .
فقال : ( يا أبا الصلت ، أنا حجة الله على خلقه ، وما كان الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم ، أوما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام : أوتينا فصل الخطاب ؟ فهل فصل الخطاب إلا معرفة اللغات ) ( 16 ) .
وروى الحسن بن علي بن فضال ، عن الرضا عليه السلام : أنه قال له رجل من أهل خراسان : يا ابن رسول الله ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام كأنه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغيب في ثراكم نجمي ؟
فقال له الرضا عليه السلام : ( أنا المدفون في أرضكم ، وأنا بضعة من نبيكم ، وأنا الوديعة والنجم ، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تعالى من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ، ومن كنا شفعاؤه نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس . ولقد حدثني أبي عن جدي عن أبيه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة ) ( 17 ) .
وأما ما روي عنه عليه السلام من فنون العلم ، وأنواع الحكم ، والاخبار المجموعة والمنثورة ، والمجالس مع أهل الملل والمناظرات المشهورة فأكثر من أن تحصى .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 180 / 4 ، كشف الغمة 2 : 316 .
( 2 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 184 / 7 ، كشف الغمة 2 : 316 .
( 3 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 / 1 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 360 ، كشف الغمة 2 : 316 .
( 4 ) كشف الغمة 2 : 316 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 49 : 100 / 17 .
( 5 ) كشف الغمة 2 : 317 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 49 : 100 / ذيل حديث 17 .
( 6 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 143 / 10 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 366 ، بشارة المصطفى : 81 ، كشف الغمة 2 : 317 ، الفصول المهمة : 248 .
( 7 ) في نسخة ” م ” : في المعاني وفي الكلام البديه .
( 8 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 143 / 9 ، روضة الواعظين : 236 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 342 ، بشارة المصطفى : 80 ، كشف الغمة 2 : 317 ، تذكرة الخواص : 321 ، وفيات الأعيان 3 : 270
( 9 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 263 / 34 ، كمال الدين : 373 / 6 ، وباختصار في : ارشاد المفيد 2 : 263 ، ورجال الكشي : 504 / 970 ، وقطعة منه في : دلائل الإمامة : 182 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 338 ، كشف الغمة 2 : 318 ، الفصول المهمة : 248 .
( 10 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 265 / 35 ، كمال الدين : 372 / 6 ، كشف الغمة 2 : 328 ، الفصول المهمة : – ه 25 .
( 11 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 / 9 ، كشف الغمة 2 : 328 .
( 12 ) أمالي الصدوق : 150 / 6 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 177 / 5 ، كشف الغمة 2 .
( 13 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 176 / 4 ، بشارة المصطفى : 78 ، كشف الغمة 2 : 269 و 329 ، الفصول المهمة : 247 .
( 14 ) بصائر الدرجات : 308 / 5 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 227 / 1 .
( 15 ) بصائر الدرجات : 358 / 4 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 227 / 1 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 334 .
( 16 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 228 / 3 ، ومختصرا في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 333 ، كشف العمة 2 : 329 .
( 17 ) أمالي الصدوق : 61 / 10 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 257 / 11 ، كشف الغمة 2 : 329 .