آيات ومعجزات النبي محمد (ص) قبل المبعث
فمن ذلك ما استفاض في الحديث : أن أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وضعته رأت نورا أضاءت له قصور الشام .
وحدثت هي : أنها اتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لها : إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد.
فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملا قصور بصرى من أرض الشام ، فإذا وقع فسميه محمدا ، فإن اسمه في التوراة أحمد ، يحمده أهل السماء والأرض ، واسمه في الإنجيل أحمد ، يحمده أهل السماء والأرض ، واسمه في الفرقان محمد . قالت : فسميته بذلك ( 1 ) .
وروى أبو امامة قال : قيل : يا رسول الله ما كان بدء أمرك ؟ قال : ( دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) ( 2 ) .
ومن ذلك : ما رواه الأستاذ أبو سعد الواعظ الزاهد الخركوشي ( 3 ) بإسناده عن مخزوم بن أبي المخزومي ، عن أبيه وقد أتت عليه مائة وخمسون سنة قال : لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتجس ( 4 ) إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة ، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، ورأى المؤبذان ( 5 ) أن إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة فانتشرت في بلادها .
فلما أصبح كسرى راعه ذلك وأفزعه وتصبر عليه تشجعا ، ثم رأى أن لا يدخر ذلك عن وزرائه ومرازبته ( 6 ) ، فجمعهم وأخبرهم بما هاله ، فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس ، فقال المؤبذان : وأنا رأيت رؤيا ، وقص عليه رؤياه في الإبل ، فقال : أي شئ يكون هذا يا مؤبذان ، قال ؟ حدث يكون من ناحية العرب .
فكتب كسرى عند ذلك إلى ملك العرب النعمان بن المنذر : أما بعد : فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه .
فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني ، فلما قدم عليه أخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خال يسكن مشارق الشام ، يقال له : سطيح ، قال : فاذهب إليه فسله وائتني بتأويل ما عنده .
فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلم فلم يحر جوابا ، فأنشأ عبد المسيح أبياتا يذكر فيها ما أراده منه ، ففتح سطيح عينيه ثم قال : عبد المسيح على جمل مسيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان : لارتجاس الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها .
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار فارس ، فليس الشام لسطيح شاما ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكل ما هو آت آت ، ثم قضى سطيح مكانه .
فنهض عبد المسيح وقدم على كسرى وأخبره بما قال سطيح ، فقال : إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين والباقون إلى أمارة عثمان ( 7 ) .
ومن ذلك : ما رواه علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن رجاله قال : كان بمكة يهودي يقال له يوسف ، فلما رأى النجوم تقذف وتتحرك ليلة ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : هذا نبي قد ولد في هذه الليلة ، لأنا نجد في كتبنا أنه إذا ولد آخر الأنبياء رجمت الشياطين وحجبوا عن السماء .
فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال : هل ولد فيكم الليلة مولود ؟
قالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب ابن في هذه الليلة .
قال : فاعرضوه علي .
فمشوا إلى باب آمنة ، فقالوا لها : اخرجي ابنك ، فأخرجته في قماطه ، فنظر في عينه ، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء وعليها شعيرات ، فلما نظر إليه اليهودي وقع إلى الأرض مغشيا عليه ، فتعجبت منه قريش وضحكوا منه ، فقال : أتضحكون يا معشر قريش هذا نبي السيف ليبيرنكم ، وذهبت النبوة عن بني إسرائيل إلى آخر الأبد ، وتفرق الناس يتحدثون بخبر اليهودي ( 8 ) .
ومن ذلك : بشارة موسى بن عمران عليه السلام به في التوراة ، فلقد حدثني من أثق به قال : مكتوب في خروج النبي من ولد إسماعيل ، وصفته هذه الألفاظ : لا شموعيل شمعشخوا هني بيراختما اوثو هربيث ، أتو هربتي واتو بماد ماد شينم آسور نسيئم وأنا تيتو الكوى كادل .
وتفسيره : إسماعيل قبلت صلاته ، وباركت فيه ، وأنميته ، وكثرت عدده بولد له اسمه محمد ، يكون اثنين وتسعين في الحساب ، سأخرج اثنا عشر إماما ملكا من نسله ، وأعطيه قوما كثير العدد .
ومن ذلك : ما أخبر به الثقة أنه قرأ في الإنجيل – ذكره الشيخ أبو جعفر ابن بابويه رحمه الله في كتاب كمال الدين وتمام النعمة – . ( إني أنا الله الدائم الذي لا أزول ، صدقوا النبي الأمي صاحب الجمل والمدرعة والتاج – وهي العمامة – والنعلين والهراوة – وهي القضيب – . . الأكحل العينين ، الصلت ( 9 ) الجبين ، الواضح الخدين ، الأقنى ( 10 ) الأنف ، المفلج ( 11 ) الثنايا ، كأن عنقه إبريق فضة ، كأن الذهب يجري في تراقيه ، له شعرات من صدره إلى سرته ، ليس على بطنه وصدره شعر ، أسمر اللون ، دقيق المسربة ( 12 ) ، شثن الكف والقدم ، إذا التفت التفت جميعا ، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، وإذا جاء مع القوم بذهم ، عرقه في وجهه كاللؤلؤ ، وريح المسك تنفح منه ، لم ير قبله مثله ولا بعده ، طيب الريح ، نكاح للنساء ، ذو النسل القليل ، إنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة ، لا صخب فيه ولا نصب ، يكفلها في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك ، لها فرخان مستشهدان ، كلامه القران ، ودينه الإسلام وأنا السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه ، وشهد أيامه وسمع كلامه ) .
فقال عيسى عليه السلام : ( يا رب وما طوبى ؟ ) .
قال : ( شجرة في الجنة إنما غرستها بيدي ، تظل الجنان ، أصلها من رضوان ، ماؤها من تسنيم ، برده برد الكافور ، وطعمه طعم الزنجبيل ، من يشرب من تلك العين شربة لم يظمأ بعدها أبدا ) .
فقال عيسى عليه السلام : ( اللهم اسقني منها ) .
قال : ( حرام يا عيسى على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي ، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب أمة ذلك النبي ، أرفعك إلي ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ، ولتعينهم على اللعين الدجال ، أهبطك في وقت الصلاة لتصلي معهم إنهم أمة مرحومة ) ( 13 ) .
ومن ذلك : حديث سلمان الفارسي وأنه لم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الأسرار ، ويستدل بالأخبار ، وينتظر قيام سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة سنة حتى بشر بولادته ، فلقا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي . والخبر في ذلك طويل مذكور في كتاب كمال الدين ( 14 ) .
ومن ذلك : حديث تبع الملك وقوله : سيخرج من هذه – يعني مكة – نبي يكون مهاجره يثرب ، وأخذ قوما من اليمن فأنزلهم مع اليهود بيثرب لينصروه إذا خرج ، فهم الأوس والخزرج .
وفي ذلك يقول تبع :
شهدت على أحمد أنه رسول من الله بارئ النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وكنت عذابا على المشركين وأسقيهم كأس خوف وغم ( 15 )
ومن ذلك : ما رواه أيضا بإسناده عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالا له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد المطلب ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج وهو غلام فيمشي حتى يجلس على الفراش ، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخروه ، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني فوالله إن له لشأنا عظيما ، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم ، إني أرى غرته غرة تسود الناس ، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ، ويقول : ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط ، ثم يلتفت إلى أبي طالب – وذلك أن أبا طالب وعبد الله لام – فيقول : يا أبا طالب ، إن لهذا الغلام لشأنا عظيما فاحفظه واستمسك به فإنه فرد وحيد ، وكن له كالأم لا يوصل إليه بشئ يكرهه . ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعا ، وكان عبد المطلب قد علم أنه يكره اللات والعزى فلا يدخله عليهما .
فلما تمت له ست سنين ماتت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة ، وكانت قدمت به أخواله من بني عدي ، فبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتيما لا أب له ولا أم ، فازداد عبد المطلب له رقة وحفظا .
وكانت هذه حاله حتى أدرك عبد المطلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب فجاءه ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدره وهو في غمرات الموت فصار يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظا لذلك الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولا ذاق شفقة أمه .
أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإني قد تركت بني كلهم ووصيتك به لأنك من أم أبيه .
يا أبا طالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس ومن أعلم الناس به ، وإن لم استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسود ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي .
يا أبا طالب ما أعلم أحدا من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا أمه على حال امه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيتي ؟
قال : نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد .
قال عبد المطلب : فمد يدك إلي .
فمد يده إليه فضرب يده على يده ، ثم قال عبد المطلب : الان خفف علي الموت ، ثم ضمه إلى صدره ولم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم اقبل أحدا من ولدي أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها منك . ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه . افمات عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين ، فضمه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه . ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتى بلغ ، لا يأتمن عليه أحدا ( 16 ) .
ومن ذلك : حديث سيف بن ذي يزن ، والرواية بذلك مشهورة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة – وذلك بعد مولود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين – وفد العرب وأشرافها إليه وفيهم : عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جذعان ، وأسد بن خويلد ، ووهب بن عبد مناف ، وغيرهم من وجوه قريش ، فقدموا عليه صنعاء فاستأذنوا وهو في قصر ، يقال له غمدان ، وهو الذي يقول فيه أمية ابن أبي الصلت :
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دار منك محالا
ثم ساق الحديث إلى أن قال : فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه ثم قال : يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا لو كان غيرك لم أبح به إليه ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه ، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره ، إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا وأخبرناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس عامة ولرهطك كافة ، ولك خاصة .
فقال عبد المطلب : مثلك أيها الملك قد سر وبر فما هو ؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر .
فقال : إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة .
فقال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد إبت بخير ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من أسراره ما أزداد به سرورا . فقال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ، وقد ولد سرارا ، والله باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .
فقال عبد المطلب : أيها الملك عز جدك ، وعلا كعبك ، وداج ملكك ، وطال عمرك ، فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح ؟
فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب .
قال : فخر عبد المطلب ساجدا ، فقال له : إرفع رأسك ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرته ؟
فقال : كان لي ابن وكنت به معجبا وعليه رفيقا ، فزوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام فسميته محمدا ، مات أبوه وأمه وكفلته عمه .
قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت لك ، فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذي معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرئاسة ، فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل ، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شك ، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه ، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملكه ، فيها استحكام أمره ، وأهل نصرته ، وموضع قبره ، ولولا أني أخاف فيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لأعلنت على حداثة سنه أمره في هذا الوقت ، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، ولكني سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك .
قال : ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلتين من البرود ومائة من الإبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضعة وكرش مملوءة عنبرا .
قال : وأمر لمعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال : إذا حال الحول فائتني . فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول .
قال : فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه ، فإذا قيل : وما هو ؟ قال : ستعلمن نبأ ما أقول ولو بعد حين ( 17 ) .
وقد روى هذا الحديث الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوة من طريقين ( 18 ) .
ومن ذلك : حديث بحيراء الراهب ، فقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار قال : إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجرا ، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير انتصب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال : ( يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم لي ؟ ) .
فرق له أبو طالب فقال : والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا . فخرج وهو معه .
فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيراء في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانية ، وكان كثيرا ما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم ، فلما نزلوا ذلك العام قريبا من صومعته صنع لهم طعاما ، وذلك فيما يزعمون عن شئ رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه ، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة ، وتهصرت ( 19 ) أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته – وقد أمر بذلك الطعام فصنع – ثم أرسل إليهم فقال :
إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم ، وحركم وعبدكم .
فقال له رجل منهم : يا بحيراء إن لك اليوم لشأنا ، ما كنت تصنع لنا هذا الطعام وقد كنا . نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟
فقال له بحيراء : صدقت قد كان ما تقول ، ولكنكم ضيف ، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم .
فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما رأى بحيراء القوم لم يجد الصفة التي يعرف فقال : يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا .
قالوا له : ما تخلف عنا أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سنا تخلف في رحالهم .
قال : فالا تفعلوا ، ادعوه حتى يحضر هذا الطعام معكم .
فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى إن هذا اللوم بنا أن يتخلف ابن عبد المطلب عن الطعام من بيننا .
قال ثم قام إليه فاحتضنه ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم ، فلما رآه بحيراء جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد يجدها عنده في صفته ، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيراء فقال له : يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه ، وإنما قال ذلك بحيراء لأنه سمع قومه يحلفون بهما .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسألني باللات والعزى ، فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئا قط .
فقال بحيراء : فوالله إلا أخبرتني عما أسألك .
فقال : سلني عما بدا لك .
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من ( 20 ) نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته ، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده .
قال : لما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال : ما هذا الغلام منك ؟
قال : ابني .
قال بحيراء : وما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا .
قال : فإنه ابن أخي .
قال : فما فعل أبوه ؟
قال : مات وأمه حبلى به .
قال : صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده ؟ احذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عارفت منه ليبغينه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلده .
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام .
فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه فردهم عنه بحيراء وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا بما أرادوه لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم و صدقوه بما قال وتركوه وانصرفوا ( 21 ) .
وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته الدالية – أوردها محمد بن إسحاق ابن يسار – :
إن ابن آمنة ( النبي ) ( 22 ) محمدا * عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته * والعيس قد ( قلصن ) ( 23 ) بالأزواد
( فارفض ) ( 24 ) من عينف دمع ذارف * مثل الجمان مفرد الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة * وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة * بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة * ولقد تباعد طية المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شرف من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثا صادقا * عنه ورد معاشر الحساد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى * ظل ( النمام وغر ذا الأكباد ) ( 25 )
( ساروا ) ( 26 ) لقتل محمد فنهاهم * عنه وأجهد أحسن الإجهاد ( 27 )
وأمثال ما ذكرناه كثيرة ، لو قصدنا إيراد جميعها لخرجنا من الغرض المقصود بهذا الكتاب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) انظر : كشف الغمة 1 : 0 2 ، وسيرة ابن هشام 1 : 166 ، النبوة للبيهقي 1 : 2 8 و 83 ، والكامل في التاريخ 1 : 458
( 2 ) مسند الطيالسي : 155 / 40 11 ، الطبقات الكبرى 1 : 102 ، مسند أحمد 5 : 262 ، تاريخ الطبري 2 : 165 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 84 .
( 3 ) الخركوشي : هو أبو سعد عبد الملك بن محمد النيشابوري الحافظ الواعظ صاحب كتاب ( شرف المصطفى ) . قال عنه السمعاني في الأنساب : الخركوشي بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الكاف وفي آخرها الشين ، هذه النسبة إلى خركوش وهي سكة بنيسابور كبيرة كان بها جماعة من المشاهير مثل أبي سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم الخركوشي ، الزاهد الواعظ ، أحد المشهورين باعمال البر والخير ، وكان عالما زاهد فاضلا ، رحل إلى العراق والحجاز وديار مصر ، وأدرك العلماء والشيوخ ، وصنف التصانيف المفيدة – إلى أن قال – : وجاور حرم الله مكة ، ثم عاد إلى وطنه نيشابور ، ولزم منزله ، وبذل النفس والمال للمستورين من الغرباء والفقراء المنقطعين منهم ، وبنى دارا للمرض بعد أن خربت الدور القديمة لهم ، ووكل جماعة ص أصحابه لتمريضهم وحمل مياههم ، وكانت وفاته في سنة 406 ه بنيشابور .
انظر : الكنى والألقاب 2 : 83 1 ، الأنساب 5 : 3 9 .
( 4 ) ارتجس : اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت ( لسان العرب 6 : 95 ) .
( 5 ) المؤبذان ( بضم الميم وفتح الباء ) : فقيه الفرس وحاكم المجوس ( القاموس المحيط 1 : 360 ) .
( 6 ) المرزبة : كمرحلة ، رئاسة الفرس ، وهو مرزبانهم أي أميرهم ورئيسهم . ( انظر : القاموس المحيط 1 : 73 ) .
( 7 ) كمال الدين : 1 9 1 / 38 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 8 ، تاريخ الطبري 2 : 66 1 – 8 6 1 ، دلائل النبوة للأصبهاني 1 : 4 7 1 – 177 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 0 26 1 – 129 الوفا بأحوال المصطفى 1 : 97 – 100 ، وفيها باختلاف يسير
( 8 ) تفسير القمي 1 373 و 374 ، كمال الدين : 97 ، وفيه باختلاف يسير .
( 9 ) الصلت : الواضح ( لسان العرب 2 : 53 ) .
( 10 ) القنا : احديداب في الأنف ، يقال رجل أقنى الأنف وامرأة قنواء . ( الصحاح قنا – 6 . 2469 ) .
( 11 ) المفلج : الفلج في الأسنان : تباعد ما بين الثنايا والرباعيات . ( العين 6 : 127 ) .
( 12 ) المسربة : شعيرات تنبت في وسط الصدر إلى أصل السرة ( العير 7 0 249 )
( 13 ) كمال الدين : 159 / 18 .
( 14 ) كمال الدين : 161 / 21 .
( 15 ) كمال الدين : 170 .
( 16 ) كمال الدين : 171 / 28 .
( 17 ) كمال الدين : 76 1 / 4 3 ، كنز الفوائد 1 : 87 1 ، دلائل النبوة للأصبهاني 1 : 4 1 1 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 125 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 191015 / 11 .
( 18 ) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 9 .
( 19 ) تهصرت : أي تدلت عليه أغصانها . ( انظر : النهاية 5 : 264 ) .
(20) سيرة ابن إسحاق : 73 ، وانظر كذلك : كمال الدين : 83 / 35 ، الخرائج والجرائح 1 : 1 7 / 0 13 ، سيرة ابن هشام 1 : 1 9 1 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 27 ، تاريخ الطبري 2 : 277 ، دلائل النبوة للأصبهاني 1 : 1 1 8 / 2 0 1 .
(21) سيرة ابن إسحاق : 73 ، وانظر كذلك : كمال الدين : 83 / 35 ، الخرائج والجرائح 1 : 1 7 / 0 13 ، سيرة ابن هشام 1 : 1 9 1 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 27 ، تاريخ الطبري 2 : 277 ، دلائل النبوة للأصبهاني 1 : 1 1 8 / 2 0 1 .
(22) كذا في نسخنا ، وفي ديوان شيخ الأباطح ، وكتاب شعر أبي طالب : الأمين ، وهي الصواب ، لان رسول الله صلى الله عليه وآله كان لم يبعث بعد حين قال أبو طالب رحمه الله تعالى هذا الشعر .
كما أن هذا البيت برواية أبي هفان ورد هكذا : ان الأمين محمدا في قومه عندي يفوق منازل الأولاد
(23) قلصن : ارتفعن ونهضن للمسير ( انظر : لسان العرب 7 : 81 ) .
(24) ارفض : سال وتفرق . ( لسان العرب 7 : 1156 ) .
(25) كذا في نسخنا وفي سيرة ابن إسحاق : وغر ذي الأكياد إلا . ان الصواب ما ورد في ديوان شيخ الأباطح ، وشعر أبي طالب لأبي هفان في حيث ورد بهذا الشكل : ظل الغمامة ناغري الأكباد ، لوضوح العبارة وصحة كلماتها ، فالرواية المعروفة تذكر بان غمامة واحدة كانت تظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو منطقي ومعقول ، فالفرد الواحد تكفيه غمامة واحدة ، فما جدوى أكثر منها ، ومن تظل .
ثم إن باقي الكلام الوارد في العجز أعلاه لا معنى له عكس ما جاء في الديوانين لأنه يوفي بالغرض الذي جاء من أجله فالنغر شدة الغيظ ، وحيث يقال للرجل الذي يغلي جوفه من الغيظ رجل ناغر ( انظر : الصحاح – نغر – 2 : 833 ) اي ان اليهود لعنهم الله تعالى كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغمامة تظله وأجوافهم تضطرم غيظا وغضبا .
(26) في الديوانين : ثاروا ، وفي سيرة ابن إسحاق كما في كتابنا .
(27) في الديوانين : التجهاد ، وفي سيرة ابن إسحاق موافق لما في كتابنا .
(28) أنظر : سيرة ابن إسحاق : 76 ، شعر ابن طالب وأخباره : 63 ، ديوان شيخ الأباطح : 33 .