قيم عاشوراء: نصرة الحق أهم من الجاه والمال
قال تعالى في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (۴۶) سورة الكهف.
هكذا وصف الله سبحانه وتعالى الحياة الدنيا في مقدمة الآية الكريمة، وقد قدم سبحانه المال على البنون، مما يدلل دلالة تامة على أن النفس البشرية متأصلة بحب المال وحب الجاه أكثر من حب الأبناء وهذا -والله اعلم- هو المفهوم الظاهر من هذه الآية المباركة.
ولكن هل كل الناس يحبون المال ولو كان على حساب صلة الرحم أو على حساب الحق والقيم؟
لو عدنا إلى عاشوراء الحسين (ع) لوجدنا الدرس الذي كتبه لنا أنصار الحسين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، لوجدنا أن النفس البشرية قد سمت سموا عاليا ووصلت إلى مراحل الرفعة، وهي غير تلك النفس المجبولة على حب الأموال والأولاد والجاه والثراء، وخير مثال هو شيخ الأنصار وعميدهم حبيب بن مظاهر الاسدي، عميد قومه وكبيرهم وصاحب الضيعات والبساتين والجاه الدنيوي في الكوفة، والذي عندما وصل إلى الحسين (عليه السلام) ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه، قال للحسين (عليه السلام): إن هاهنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك؟ فأذن له الحسين (عليه السلام)، فسار إليهم حتى وافاهم، فجلس في ناديهم ووعظهم، وقال في كلامه: يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه، فأتيتكم لتنصروه، وتحفظوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة، وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً.
فقال عبد الله بن بشير ألأسدي: شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب؛ أما أنا فأول من أجاب.
وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهجوا مع حبيب، وانسل منهم رجل فأخبر ابن سعد، فأرسل الأزرق في خمسمائة فارس، فعارضهم ليلاً ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم، فلما علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل، وتحولوا عن منازلهم، وعاد حبيب إلى الحسين (عليه السلام) فأخبره بما كان، فقال (عليه السلام): وما تشاءون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد روي عن الإمام زين العابدين إنه قال عن حبيب (قد طلق الدنيا وحضي بالجنان) وهذا ما يشير له الجزء المتبقي من الآية وهو قوله تعالى (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (۴۶) سورة الكهف. قد يحمل هذا الدرس معناً روحياً، ولكنه أيضا يحمل معناً أخلاقياً والتزاما مبدئياً وهو الأداء بالبيعة لم يستحقها حتى لو كلف ذلك الغالي والنفيس من المال والجاه والأبناء، ومن أكرم عند الله ممن يضحي بحياته في سبيل مبدئه والوقوف مع الحق.
تلك المواقف المشرفة من عاشوراء أضحت أساساً لبناء شخصية الإنسان المؤمن وقد استلهمها أتباع أهل البيت عليهم السلام، وقد عانى الكثيرون في سبيل ذلك، ومنهم الذين تصدوا للنظام البائد الذي أراد أن يحرف الناس عن الخط الايماني الحسيني، وكان ديدنهم الصبر والصمود والاستقامة ومواصلة العمل بهمة وروح متفانية وعزم وتصميم قل نظيره إلا في الرجال الأفذاذ الذين أرخصوا النفوس وما لذ وطاب من الدنيا لأجل أهدافهم السامية ومبادئهم الرفيعة، فكانوا كما كان أصحاب الحسين (ع) يرتقون مشانق الجلادين ولا يبالون وتعذب عوائلهم وتطارد من بلاد الى بلاد دون أي ذنب يذكر، فعاشوا في الفلوات وتحملوا كل الصعاب وصبروا على الاذى.
وللاسف الشديد أصبحت تلك العوائل لم تجد من يمد لها يد العون والمساعدة بعد أن من الله تعالى على العراقين بهلاك (يزيد العصر) صدام وجلاوزته، فما أحوجنا اليوم الى من يمد يده ليمسح بها على رأس يتيم فقد والده في سبيل وطنه، وما أحوجنا الى من يدرك معاناة تلك الاسر التي جار عليها زمان البعث لترى من يهتم ويدافع عن عوائل البعثيين أكثر منهم، ومع ذلك كله يبقى الامل قائما في أن العراق لا يخلو من الخيرين والحسينيين الذين لا تغرهم المناصب ولا الجاه ولا المسميات الزائفة لإنصاف الناس من أنفسهم قبل غيرهم.