عاشوراء وثقافة الوحدة والجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .
ليست الدعوة للوحدة الإسلامية بين المذاهب والتكتلات الفقهية والفكرية والسياسية لأجل الوحدة وحسب، وإنما تتأكد هذه الدعوة من الهادي في ظل ما نشهده اليوم من مخاطر هذه الحقبة من تاريخنا الإسلامي لأجل تجنب الإنقسامات والإختلافات التي تفاقمت وأدت إلى تشتت الطاقات وخلق محاور متعددة داخل الأمة، الأمر الذي يساعد أعداءها على التسلل عبر مجموعة ثغرات لتنفيذ ما تبقى من المخططات التي تستهدف المسلمين وإيمانهم وهوياتهم وثرواتهم…
لقد استبدلت ثقافتنا الإسلامية بنمط ثقافي سياسي إجتماعي إقتصادي غربي لا يغري العقل المعاصر إلا بالفردية والمادية والعلمانية والإستهلاك وفُتِنّا بقضايا التقدم والتحديث والحضارة وأصبح الدين والتراث وسائر ما له علاقة بالأصالة مرفوضاً، يمثّل قمة التخلّف والرجعية وأصبح الجهاد إرهاباً والمقاومة عنفاً والممانعة تمرداً على القانون الدولي وديباجياته الكاذبة.
إن التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يهدف بحسب المجتهد الأكبر محمد الحسين آل كاشف الغطاء إلى إزالة أصل الخلاف بينها. بل أقصى المراد وجل الغرض هو إزالة أن يكون هذا سبباً للعداء والبغضاء… فالغرض هو تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب.
فإذا كان جميع المسلمين ينادون بالحق ويريدون أن يسيروا على الحق فهذا الحق هو القرآن، هو الإيمان، هو شريعة الله. وقد اعتبر الشيخ محمود شلتوت أن المسلمين “على تفرقهم في البلاد والأقاليم وتفرقهم في السلطان والنفوذ وضعفهم المادي أمام دول الغرب، وبالرغم مما غُمِروا به وغزوا من علوم متنوّعة، وثقافات متعددة ذات ألوان متعددة، مادية، وأدبية، وإجتماعية وتشريعية، لا يزالون يعتصمون بالقرآن، ويدينون بقدسية القرآن ويتآزرون على خدمة القرآن وأنهم ليتشرفون جميعاً لمطلع ذلك اليوم الذي يعود فيه سلطان القرآن فيكون التشريع – تشريع القرآن والأخلاق أخلاق القرآن والهدي، هدي القرآن ونرجو أن يكون قريباً”.
وكل المؤمنين يتمنون أن يصل هذا اليوم بأقرب وقت، هذا اليوم الذي لن يأتي وحده بل سيكون نتيجة جهاد المسلمين.
كيف لا وإلهنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة. فإذا كانت عقيدتنا واحدة وشريعتنا واحدة فلماذا لا تكون أمتنا واحدة موحدة؟ عاملة بهدى كتاب الله وسنن رسوله (ص) والأئمة من أهل بيته (ع).
لأن بعضنا لا زال يكفّرُ البعض الآخر، ولأن بعضنا يتعصب لمذهبه ولقائده ولتياره ولكتابٍ فقهيٍّ يقدسه وينسى أو يتناسى أن التعصُّب للإسلام. وجميعُ التيارات والمذاهب والأفكار إنما هي اجتهاد في تفسير، أو رأي في بعض أحكام الإسلام. هذا الرأي وهذا الإجتهاد يحتملان الصواب ويحتملان الخطأ وصاحبه على كل حال مأجور.
فبأي حق نصادر الحق لنا؟ ولنا وحدنا ونتّهم الآخرين بالإنحراف والفساد والضلا وحتى الكفر. وحسب قول الشيخ محمد جواد مغنية “إذا أردنا معرفة أن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب علينا أن نلاحظ جميع الأٌقوال المتضاربة حول الحكم وندرسها بطريقة جدية بصرف النظر عن قائلها ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق.
أما من يطلع على قول مذهب ويؤمن به ويتعصّب له لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه ويحكم على سائر المذاهب بأنها بدعة ضلال فهو مصداق الآية الكريمة:{وإذا قيل لكم اتبعوا ما أنزل الله ? قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا ? أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}. إن التعصب الوحيد المسموح به هو التعصب للإسلام بمعنى “الحرص على تعاليمه واحترام شعائره والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبث روح الألفة والتآخي بين المسلمين جميعاً”.
إن من سنن الحياة الخلافات فنحن لا نكاد نتوقف عن ملاحظة تفرق اتباع كل عقيدة من فجر التاريخ وحتى الآن، فأتباع العقائد الإلهية انقسموا وأتباع النظريات السياسية الفلسفية تفرّقوا إلى أحزاب وفئات فالاختلاف في الأمور النظرية شيء واقعي منطقي ما دام الإنسان هو الذي يتفاعل مع هذه القضايا والإنسان ذو هوى.
إن الحضارة والأمة الإسلامية الإسلامية قد بنتا ثقافة فكراً مودوعين لدى الأجيال اللاحقة للأمة لكن “الورثة تنازعوا هذا وقسموه وأقاموا الحواجز بين أقسامه واستقل كل فريق بحصّته ومنع الآخرين من الدخول إليها”…
إن الحضارة الإسلامية “ثقافة وفكراً وعلماً وعمراناً أو مذهباً أو طائفة” حسب العلاّمة محمد تقي القمي مُوحّدة إذا التفّ حولها المسلمون – كفيلة بتوحيد صفوفهم. والمطلوب من جميع المسلمين أن يثبّتوا قبل إصدار حكمهم حول أية قضية وأن لا يعتبروا جزءاً واحداً من الشريعة أو الفكر أو الثقافة الإسلامية يمكن أن يهيمن على المجموع. قال شيخ الأزهر عبد المجيد سليم “لم نعلم مذهباً من المذاهب الإسلامية المعتبرة خطأ كله أو صواباً كله وإذا كان الأمر هكذا ينبغي أن تطغى العصبية المذهبية على المسلمين…”.
ونحن ماذا نفعل، فعدا عن الفئة التي تغربت وانجرفت مع التيار المادي العلماني الذي فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها نجد أن بعض المفكرين والعلماء قد قدموا خدمات جليلة لأعداء المسلمين عبر إبرازهم ضعف الوحدة الإسلامية وظهور الخلافات والإنقسامات.
فإذا كنا اعتبرنا أن الخلافات في الأمور النظرية شيء طبيعي وإذا كنا نعتبر أن هدفنا المرحلي هو إزالة كون هذه الخلافات سبباً للبغضاء والعداوة بل تبديل هذه المشاعر بمشاعر الأخوة فإنني أرى أن السبيل إلى ذلك يكون بتطبيق الحديث الشريف “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.
من جهة أخرى إن مصدراً أساسياً للوحدة بين المسلمين هو الخطر المشترك الذي يتعرّض له كل المسلمين والعرب من العدو اليهودي. ۱۹۸۴ اغتصبت فلسطين… ۱۹۶۷ احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء… ۱۹۸۲ جاء دور لبنان. والله وحده يعلم دور أي أرض وأي شعب هو التالي بعد أفغانستان والعراق. إننا مصابون بمرض النسيان السريع نسيان ما يدّعيه العدو من أن أرضه تمتد من النيل إلى الفرات. إن إسرائيل تنظر إلى العالم الإسلامي والعربي نظرة واحدة طبقاً لمصلحتها العليا، أما نحن – المسلمين والعرب – فلا نزال نصادر المصلحة الإسلامية أو العربية العليا والشاملة ونحولها إلى مصلحة شخصية مجتزأة.
لنحاول معاً أن نغوص في أعماق واقعنا الإسلامي أو بالأحرى غير الإسلامي. لنأخذ قضية الإستقلال: إذا كان الإستقلال هو عدم وجود قوات أجنبية على أراضي الدولة فحتى هذا الشرط ليس محققاً ولا يبدو أنه مطبق كلياً في بلدان كثيرة من العالم الإسلامي.
والأخطر من كل هذا هو تلك التبعية الفكرية الثقافية وفي نمط الحياة حتى في الثياب والأكل ومنهج التفكير والتعليم وفي معيار القيم. إن هذا الإستعمار لهو أشد خطراً، إنه استعمار مموّه يستعمل أدوات داخلية من أبناء البلاد.
من هنا نردد مع الدكتور صبحي الصالح أن “لا عزّة للأمة إلا بوحدتها ولا وحدة لها اليوم إلا بإحساسها بالخطر الواحد المشترك، ولا قيمة لهذا الإحساس نفسه إلا إذا أخلصناه لوجه الله الكريم.”
فإذا اتهمنا في الماضي السياسة بأنها فرقت المسلمين فإننا اليوم نعتقد أن السياسة الإسلامية الواقعية تستطيع أن توحّد صفوفهم وتجمع كلمتهم “ليكون الموقف الفكري والعلمي متمثلاً في وحدة المصالح العامة للمسلمين في العالم بعيداً عن كل الآفاق المحدودة المهيمنة على الواقع كما يقول السيد محمد حسين فضل الله”.
إن المسلمين نسوا ضياع أكثر من نصف العالم الإسلامي تحت سيطرة الإستكبار والمستكبرين “ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة في أول الفاتحة”. على حد قول الشيخ صلاح أرقدان فالمسلمون يواجهون حرب وجود فإما أن يكونوا أو لا يكونوا.
إن دعوة الإسلام إلى وحدة الأمة، لا ينبغي أن نفهمها على أنها دعوة نظرية إلى السلام بين أبناء أمة القرآن، بل يجدر بنا أن نتوسّع في فهمها وفق رؤية تربوية أخلاقية تحدد أمام الإنسان فاصلاً جوهرياً بين مفهوم الخصومة ومفهوم العداوة. فالخصم ليس عدواً دائماً وفي كل حال وليس العدو دائماً هو من يعتدي عليك من خارج ذاتك فلربما كان العدو في داخلك وهو نفسك الأمّارة أو المنغلقة على هواها…
لذلك كانت عاشوراء مدرسة ملهمة لتجليات هذا الفاصل الجوهري الدقيق في مشهد إنساني ثوري يحدد مهنى الوحدة والشقاق حتى لا تقاس الوحدة الحقة بالكثرة ولا الشقاق بالقلة المؤمنة فيزيد لم يجمع الأمة وإن جمع آلاف الجند في ساحة كربلاء والحسين لم يشق عصا المسلمين وإنما شق حجاب الزيف ونقل المجتمع الإسلامي من واقع الإنحراف والفتن إلى واقع وحدة الحق والدين والأمة التي لم يكتب لها الإستمرار والبقاء إلا بالدم الحسيني الخالد. ووحدة الموقف المعاند لمظاهر التسلّط والإستكبار وذلك لأن الصيغة التي اعتمدها الإمام الحسين بن علي (ع) لإنجاز وحدة المسلمين هي صيغة الإيمان بتوحيد الله سبحانه ووحدة الإنسان المتألقة أبداً بتقديس كرامته وعزته، وحقه في الدفاع عن مقدساته…
فإلى أن تعي الأمة الصيغة الحسينية لإنجاز الوحدة المنشودة ستبقى المسافات بينها وبين العزة والكرامة طويلة وطويلة جداً.
وذلك قول النبي (ص) “حسين مني وأنا من حسين”.