التعليم والعدالة الاجتماعية في الإسلام
تنعكس العدالة التي نادى بها الإسلام وحثّ على تحقيقها بين جميع الأفراد، على النظام التعليمي بالخصوص. فنظريًا يحث الإسلام جميع الأفراد القادرين من الناحية العقلية، على الدخول في المدارس العامة من المرحلة الابتدائية ولحد وصولهم إلى المستوى التخصصي المهني أو العلمي. وفي المرحلة الأخيرة يلعب الجهد والذكاء دورًا أساسيًا في مساعدة الأفراد على حجز مقاعدهم الدراسية في الجامعات العلمية والأدبية والمعاهد الفنية. فالطلبة المتفوقون في العلوم البايولوجية والكيميائية يدخلون كليات الطب والعلوم المتعلقة بها. والطلبة المتفوقون في الرياضيات والعلوم الهندسية يدخلون كليات الهندسة والعلوم المتعلقة بها. والمتفوقون في الاجتماعيات يدخلون كليات العلوم الاجتماعية، وهكذا.
وهذا المقياس في حجز مقاعد الجامعات، أعدل من مقياس النظام الرأسمالي الذي يشترط العامل الطبقي ولون البشرة اساسًا في دخول الجامعات العريقة. فالنظام التعليمي الإسلامي يشجع الطالب الفقير على شق طريقه بنجاح إلى ارقى الجامعات في الدولة بغض النظر عن لونه وطبقته الاجتماعية. بل يستطيع أن يتميز عن أقرانه الأغنياء لأن الفقر لا يشغله عن التحصيل، وهو على اطمئنان بأن عائلته يعيلها النظام الاجتماعي أو الدولة عن طريق الحقوق الشرعية. فلا يصرفه الفقر عن الدرس، ولا تجبره حاجة العائلة الأساسية على ترك التحصيل.
وإذا ظهرت بوادر انحلال النظام الطبقي خلال مراحل التعليم، أصبحت فرص انتعاش النظام الاجتماعي أوسع، وأصبح المقياس في تسيير النظام الاجتماعي عن طريق الجهد والذكاء أكثر مما هو عليه الحال في النظام الرأسمالي. ولا يختلف اثنان على أن الذكاء قدرة علمية تحصيلية تتواجد عند الفقراء كما تتواجد عند الأغنياء. ومع أن الإسلام يقدم نظامًا عادلاً في توفير الفرص التعليمية لكل القادرين على التحصيل، إلا أنه لا ينكر وجود التفاوت فى قابليات الفهم والإدراك والإبداع لدى الأفراد.
فالأفراد عمومًا متفاوتون في مستوى فهمهم العلمي وإبداعهم وإنتاجهم. ولمّا كانت هذه القابليات متفاوتة، فإن المكافآة على الجهد المبذول يجب أن تتفاوت من فرد إلى آخر. ولكن هذا التفاوت في الأجور ينبغي أن لا يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة بل طبقة واحدة مختلفة الدرجات. وهذا النظام التعليمي الرائع يضمن قضيتين أساسيتين، الأولى: تنشيط فرص الإبداع لكل فرد، والثانية: العدالة الاجتماعية لكل الأفراد. فلا يستطيع الذكي بكل ما أوتي من قوة عقلية أن ينشئ طبقة متميزة به عن الآخرين، تمامًا كما لا يستطيع الثري مهما اُوتي من قوة مالية إنشاء طبقة متميزة به وبأقرانه، لأن ذلك يدعو إلى الظلم الذي يرفضه الإسلام. وإذا ثبتت أسس العدالة الاجتماعية بقوة، كما جاء بها الإسلام، أصبحت القاعدة التي يتعامل بها النظام التعليمي المرتبط بالنظام الاجتماعي الإسلامي، مع جميع الطلبة هي قاعدة العدالة والمساواة.
فإذا كان من حق كل فرد الحصول على تعليم ذو مستوى معين، فلا يمكن أن تكون الأجور الجامعية حينئذ عائقًا في دخوله الجامعة المؤهل لها. وحتى إذا كانت للجامعة أجور رمزية، كان المدار في ذلك قابلية الفقير على تسديدها. وإذا تم إشباع الحاجات الأساسية للعوائل الفقيرة، فإنها ستأمل من شبابها الدخول فى المعاهد العلمية لينفضوا عن اسمالهم غبار الفقر والجهل.
وتصبح تلك العوائل حينئذ عونًا على رفع العبء الذي كان يتحمله الشاب الفقير تجاه عائلته المحرومة، وسندًا لتحفيزه على إكمال دراسته العلمية. وإذا كانت بيوت الفقراء لا تهيئ أجواءً دراسية مثالية لشبابها، تحتم على المدارس العامة والجامعات تهيئة أفضل المكتبات وقاعات الدراسة الفردية والجماعية لطلبتها، وتخطيط نظام متقن للنقل العام من البيوت إلى المدارس، حتى يتضاءل البون الشاسع بين الطلبة الأغنياء والفقراء في خلق الأجواء السليمة للتحصيل والمذاكرة.
وإذا كان الإسلام في نظامه القضائي يعاقب المفتري بالتعزير الذي يراه الحاكم الشرعي، فإن تطبيق الحدود سيلغي مشاكل الالصاق التي يستعملها الأفراد من الطبقة العليا لوصم الطلبة الفقراء، بمختلف الاتهامات. وهذا التطبيق سيساهم في فسح المجال للأفراد على التركيز على قابلياتهم الذكائية، واستجماع قواهم الداخلية للفهم والإدراك، وشق طريق التحصيل بكل نجاح، على عكس النظام الرأسمالي الذي يوصم الفقراء بمحدودية الفهم والتخلف عن إدارك الحقائق والمفاهيم، مما يؤدي إلى تخلفهم من الناحية العلمية عن أقرانهم من أفراد الطبقات العليا. وإذا كان التغير المستمر في الوضع الاجتماعي الرأسمالي قد ساهم في ارتفاع نسب الطلاق، والانفصال، والولادات غير الشرعية فإن ذلك المجتمع سيواجه مصيرًا قائمًا على المستوى التعليمي، بخصوص انخفاض المستوى العلمي للتلاميذ المتضررين بهذا التغير الاجتماعي.
لأن العائلة المستقرة والبيت السليم بوجود الأبوين يساعدان على استقرار شخصية الطفل وتهذيبها وتأديبها، ويساهمان في تقدم الطفل في الميادين العلمية والاجتماعية. ولما كان النظام الرأسمالي لا يميز، لحد الآن، بين واجبات البيت وواجبات المدرسة التأديبية، فكيف نتوقع من الطفل النمو والتطور عقليًا وأخلاقيًا، خصوصًا إذا كان البيت لا يقوم بواجباته الأخلاقية ولا تقوم المدرسة بواجباتها التأديبية؟ وهذا الإحباط في فهم دور البيت والمدرسة يُعدّ من أخطر مساوئ النظام التعليمي في الحضارة الرأسمالية الحديثة. ولا نشك أن البيت في الإسلام هو مصدر الحب والرحمة والتهذيب والتأديب، والمدرسة الإسلامية تشارك البيت في كلّ ذلك، ولكنها إضافة إلى ذلك لا تقدم للطالب علمًا نظريًا فحسب، بل تقدم له تفسيرًا للمعاني الأخلاقية، وتحليلاً للنظام الاجتماعي وواجبات الأفراد وحقوقهم فيه. وإذا كان الأب يقوم بدور المهذب والمؤدب لأبنائه وبناته، فإن المعلم يقوم إضافة إلى التعليم، بدور مشابه لدور الأب في تقويم وتهذيب سلوك الطلاب. ولا يقر الإسلام نظام تكافؤ الفرص فحسب، بل يهيئ الأفراد تهيئة شاملة للمنافسة العلمية القائمة على أساس الجهد والذكاء.
فيزيل أولاً كل أسباب التعويق الاجتماعي لطلب العلم من فقر وعدم إشباع الحاجات الأساسية، فيأخذ حقوق الفقراء ويرجعها إليهم، ويلغي النظام الطبقي العائلي، ويشبع حاجات الأفراد جميعًا ويوفر لهم مستوىً واحدًا من التعليم الابتدائي والثانوي لا يختلف فيه الفقير عن الغني. ثم يضع هؤلاء المتسابقين في ميدان العلم على خط البداية، ويهتف بهم، تسابقوا على بذل الجهد، فإن سبق أحدكم الآخر فإنما يفوز بجهده وقابليته. والإسلام بهذا النظام الرائع لا يثبت عدالته بين الأفراد فحسب، بل يبرز نظامه المنسجم مع طبيعة الحياة الإنسانية التي خلقها الباري عز وجل، ويربطها بالنظام الكوني المبني على أساس الدقة والتنظيم والعدل. على عكس النظام الرأسمالي الذي يزجّ بالمتسابقين في ميدان العلم غاضًّا نظره عن المعوقات الاجتماعية التي وضعها للبعض منذ البداية، كتراكم الثروة لدى طبقة وحرمان الطبقات الأخرى، وتسليح الأغنياء بأفضل النظم العلمية وحرمان الفقراء منها، وحصر الجامعات الراقية بالنخبة من أفراد الطبقة الرأسمالية من خلال رسم مستقبل مشرق لهم وهم في مهد الطفولة.
ويجب أن نلتفت إلى مسألتين في خاتمة حديثنا عن النظام التعليمي العام في المجتمع الإسلامي، وهما:
أولاً: الاهتمام بدور المعلم في النظام التعليمي ومكافأته بصورة تتناسب مع ذلك الاهتمام والإكرام. فقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت (ع) في فضل العالم الذي يقوم بدور التعليم. ولا ريب أن إكرام المعلم هو إكرام للعلم والفكر، ورفع لمستوى التحصيل، وإسناد للنظام الاجتماعي. فدور المعلم كدور العامل في بناء الدار، فإذا كان البناء سليمًا ثبت الدار أمام الرياح والعواصف. وكذلك المعلم، إذا كان مخلصًا صادقًا في تعليم الجيل الناشئ، فإنه يؤسس في عقول تلاميذه أسس الحياة الاجتماعية القائمة على أساس التعاون والتآزر، ويغرس في نفوسهم التوجه نحو خالق الإنسان ومبدع الكون في الشدة والرخاء ويعلمهم حب الدين والوطن والدفاع عن العقيدة والمبدأ.
ثانيًا: وضع المناهج التعليمية على أساس الحاجات الاجتماعية. فما فائدة العلم النظري الذي لا يساعد المجتمع الإنساني على فهم المشاكل الاجتماعية؟
فإذا كان النظام الاجتماعي مبتليًا بمشاكل التدخين مثلاً، فيجب أن تساهم المؤسسات التعليمية بدراسة هذه الظاهرة وتدريس التلاميذ أضرار هذا الامر باستخدام مختلف العلوم التجريبية المبتكرة. وإذا كانت البلاد مبتلية بارتفاع حوادث السيارات مثلاً، فيجب أن تساهم المؤسسات العلمية في دراسة هذه المشكلة دراسة دقيقة، والخروج بنتائج عملية، كضرورة تعليم الطلبة في المدارس قيادة السيارات بأمان مثلاً، وتعليمهم نظام عبور المشاة، وكيفية التوفيق بين الإنسان والمكائن الحديثة في عالم اليوم.
ومحاولة ربط العلوم الحديثة بالتغير الاجتماعي لها مدلولات ذات أثر عظيم في منفعة النظام الاجتماعي، وما العلوم النظرية التي تدرس في المدارس إلا وسيلة لفهم وتطوير العلوم التجريبية التي تخدم المجتمع. ولا شك أن النظام الاستكباري الرأسمالي لا يروقه تطبيق العلوم النظرية بما يناسب حاجات المجتمع الإسلامي، لأن ذلك التطبيق يساهم في تقديم النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للإسلام، ويُبرزْ تشجيع الإسلام للعلم والنظام بأجلى صوره مما يؤدي إلى إعجاب الإنسانية المعذبة بمضمون الرسالة الإسلامية في إزالة التخلف والتبعية عن نفس الإنسان، وهذا ما يخشاه كل رأسمالي جشع يطمع في زيادة حصته من المال على حساب حصص الفقراء والجياع والبائسين والمحرومين.