عاشوراء خلود القيم الإيمانية
مرَّت على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قرون عديدة، وهي ما زالت حيّة، تنبض بالعطاء وستبقى تتحرك إلى درجة الغليان في وجدان الأمة، بكل أحداثها وتفاصيلها، بآثارها وانعكاساتها، من قبل كافة الطبقات الاجتماعية على المستوى العاطفي والفكري والسلوكي، وذلك لأنها ثورة الإنسانية المظلومة والمعذبة في وجه الجبابرة المعتدين على الحقوق، إنها شملت الرجال والنساء والأطفال، بمختلف الأعمار كهولاً وشباباً وحتى الطفل الرضيع الذي يعدّ أصغر جندي يخوض معارك المصير.
وقد اشترك في هذه الثورة بعد انطلاقتها كل عناصر ومراتب المعسكر الحسيني بصدقٍ وثبات، ضمن التوجيهات المكثفة للإمام القائد – ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) – منذ خروجه من الحجاز، فخطب بأصحابه: (…كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا..).
وقد توّجها في خطبه وأقواله منذ أن وطأت قدماه أرض كربلاء وذلك في اليوم الثاني من شهر محرم ۶۱ه – فقد خطب بأصحابه قائلاً: (الناس عبيد الدنيا،و الدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلَّ الديانون… ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقّاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).
وفي يوم عاشوراء قال لأصحابه بعد صلاة الصبح: (إن الله تعالى أذن في قتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال).
وبذلك حملت ثورته المباركة هموم الإنسان والإنسانية ودافعت عن الحقوق المصادرة ظلماً وعدواناً من قبل المتسلطين الظالمين، على طول الزمن وحتى قيام الساعة.
لقد شهدت كربلاء – يوم عاشوراء – ملحمة جهادية فريدة من نوعها في التاريخ البشري، تجسدت من خلالها قيم الإسلام والإيمان في معاني المقاومة والجهاد، وصور المواساة والإيثار والصبر، وقد بلغت الروح الإنسانية في هذه الثورة، ذروة عطائها، وقمة حيويتها، فالمتتبع لأحداثها – خطوة خطوة – على أرض المعركة يصاب بصدمةٍ لا تطاق عن كيفية احتواء ساعات عاشوراء الطويلة هذا الكم الهائل من الإباء والخلق السامي وعشق اللقاء بالله والرسول في المخيم الحسيني، إلى جانب الروح الجاهلية واللهاث نحو الدنيا وسحق القيم وموت الضمائر في ذلك الجانب الأموي، وهنا تكمن العزّة الإسلامية والكرامة الإلهية والعناية الربانية التي يتحسسها كل إنسان منصف يدرس الوقائع ومجريات الأحداث في معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) خصوصاً ما صدر من شخص الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام).
من هنا احتلت هذه الواقعة بكامل تفاصيلها موقع الصدارة في قلوب المؤمنين بحرارتها الإيمانية، ورحمتها بالمظلومين وشدتها وصلابتها في وجه المعتدين، فتوارثتها الأجيال جيل بعد جيل:
خـــلدتك الأيام جــيلاً فـجـيلاً ** وستبقى مدـى الأزمان جليلا
يوم ناديت يا سـيوف خذيني ** أبـت النفـــس أن أعـيش ذليلا
وبالفعل أصبحت مراسيم عاشوراء لها خصوصية عميقة في الوعي الإيماني، والثقافة الحركية، وسبل النهضة واليقظة والثورة التحررية، صحيح أن مراسيم ذكرى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه الكرام تختلف من شعب لآخر، ومن بلد لآخر، في إعلان مظاهر الحزن والعزاء والإطعام، وإقامة المآتم والمواكب ضمن الإمكانيات والأعراف السائدة، إلا أنها تلتقي في مسألة الإحياء لهذه المناسبة التي تتجدد كل عام لتثير فينا النخوة وأسس الإيمان والجهاد من خلال تلك الآهات التي عصفت قلوب المؤمنين ومن قبلهم الأنبياء والأوصياء، وهي تشترك لتكريس قيم الإسلام والإيمان في القلوب، وتمنح الناس فرص التوبة والإصلاح ومحاربة الفساد والانحراف وتغذي المجتمع بروح الرفض للباطل والوقوف بشجاعة ضد السلطان الجائر والمعتدي، لتعيش الأمة حياة الأحرار حيث العزة والكرامة.
الشهداء حققوا أهدافهم
من المفارقات البيّنة في هذه الثورة الخالدة إن طرفي المعركة كلاً حقق أهدافه – فالإمام الحسين وأهل بيته وصحبه (عليهم السلام) قد حققوا أهدافهم النبيلة في إقدامهم وشهادتهم، وذلك بثبات مواقفهم المبدئية في ساحة القتال، وخوضهم للعمليات الجهادية بشجاعة تامة حتى بلغوا أقصى درجات التضحية في سبيل الله وبذلك قدموا للامة نموذجاً متطوراً للمعارضة والثورة، فزودوا البشرية كلها بوعي سياسي حركي يعتمد الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمتاز بأداء فريضة الجهاد بتمام المعنى، وعلى مر العصور أصبحت هذه الثورة قدوة حسنة لسائر الثورات من بعدها التي اتخذت منها شرعية الجهاد والمقاومة، فقد قال الإمام الحسين (عليه السلام): (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً وظالماً وإنما خرجت لطلب الاصلاح، في امة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).
وبالمقابل حقّق الأعداء أهدافهم أيضاً في كربلاء، حيث عبّروا عن أحقادهم وعبدوا دنياهم واتخذوا الباطل منهجاً لهمن فأراقوا الدماء الزكية، ورفعوا رؤوس أهل البيت على الرماح وداروا بها وبسبايا أهل بيت المصطفى في البلدان، طمعاً لوهم الهدايا المزعومة من حطام الدنيا.
هكذا تُعطي مدرسة عاشوراء دروس الاقتداء لأحد المعسكرين إما معسكر الإيمان والحق أو معسكر الضلال والباطل. وقد أصبحت عاشوراء – بالفعل – مدرسة القيم القرآنية الخالدة، مدرسة المقاتلين الشرفاء في جبهة الحق بقيادة الإمام السبط (عليه السلام) وبقيت تمنح العالم نور الهداية والثورة، فأصبحت هذه القيم خالدة بخلود الحق بينما تلاشت أهداف معسكر الباطل إلى سراب واهم، تأفف مرتكبوا الجرائم، على صنعتهم تلك، وقد عضوا أصابع الندم بعد انتصارهم الخاسر.
نعم، إن القيم الرسالية التي نادى بها الإمام الحسين يوم عاشوراء وطبّقها عملياً على أرض كربلاء جسّدت الإسلام بمعانيه الأصيلة وتطلعاته الإنسانية على واقع الحيّاة – فأصبح فخر الثائرين في كل عصر ومصر، وقدوة المضحين من أجل الإسلام – في ظروف استثنائية كان الأعداء الإستراتيجيون للإسلام يتربصون به الدوائر، بشوقٍٍ وحفاوة ينتظرون لحظة سقوط الإسلام وانهيار المسلمين وأطلقت حناجر بني أمية صرخات الانتصار وهم يحملون رأس الحسين ورؤوس أهل بيت المصطفى وصحبه الكرام على الرماح العالية، انتصار جاهليتهم وكفرهم فقد قال يزيد بن معاوية حينذاك:
ليت أشياخي ببدر شـــهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلـوا فـــرحاً ** ثـم قالوا يا يزيد لا تُشــلْ
لـعــبت هاشـم بالملك فلا ** خـبر جــاء ولا وحي نزلْ
وبالفعل كانت الخطة الماكرة تستهدف الإسلام بعينه ليحوّلوه إلى طقوس شكلية تؤدّي في زوايا الحياة وبينما تربع الطغاة باسم الإسلام على الحكم بنزعاتهم السلطوية.
في هكذا ظروف قاهرة جاءت دماء كربلاء كصدمة هائلة في واقع المسلمين لإنقاذهم من الحالة المتردية البائسة، وانتشالهم من مستنقع الغفلة والتخدير الإعلامي. واليوم تبقى تلك الدماء الطاهرة بسخونةٍٍ ووعي في الأمة فتنقشع في عاشوراء سحب اليأس من الواقع المأساوي الذي وصلت إليه الأمة، وبذلك تشرق شمس الإسلام على المعمورة.
قال الرسول (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين).
فالرسالة المحمدية بعد عمليات التآمر المتعاقبة تبرز أشعتها من الحسين (عليه السلام) في عاشوراء فإن كان الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) هو المبلغ المؤسس الذي رفع لواء التوحيد والإيمان والصلاح فإن الإمام الحسين هو المصحح للمسيرة والمعيد بالأمة إلى الاستقامة المحمدية.
فقد تساقطت على أعتاب ثورته المباركة محاولات طمس معالم الإسلام من قبل الأمويين وغيرهم، يقول الإمام علي(عليه السلام): (ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة؟ بغير قَدَمٍ سابق، ولا شرفٍ باسق، وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إلي، وأعفُ الفريقين من القتال، لتعلم أيُّنا المرين على قلبه، والمغطى على بصره،فأنا أبو الحسن قاتل جدك وأخيك، وخالك شَدْخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوي ما استبدلت ديناً، ولا استحدثت نبياً، وأني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين).
استمرارية العطاء
واليوم أصبحت ذكرى عاشوراء موسم الدماء والدموع، مناسبة حية لتجديد البيعة مع الله على الاستمرار على نهج الاستقامة والصبر رغم الصعاب، إن التفاعل الشعوري مع ملحمة عاشوراء يعني العودة إلى الأصالة الإسلامية ورفض الباطل. فعلى المستوى الشخصي كما الجمعي، وعلى المستوى السلوكي كما التربوي والتوعوي، فإن الإنسان المسلم وعلى مدى أشهر وأيام السنة يتعاطى مع الدنيا ويتفاعل مع طموحاتها، فتتغير رؤاه أحياناً وتلتبس عليه المفاهيم في ساعات من الغفلة… حتى تطل عليه عاشوراء ببركاتها وعطاءاتها، لتشعل أنوار الهداية في القلوب وتكتسب حرارة الذكرى في النفوس آلاماً وآمالاً، بالفعل تمنح مراسيم عاشوراء وعياً إيمانياً وروحاً جهاديةً وانتفاضة على الواقع وإحياءً للقيم النبيلة. فتتجدد في الإنسان عزائم الجهاد لوقوف في جبهة الحق ضد الباطل في المعركة المستمرة بينهما.
والحمد لله رب العالمين.