صلح الحسن ونهضة الحسين شيئان نابعان من هدف واحد
لقد تنازل الحسن بن علي لمعاوية وسالمه ، في وقت كان يجتمع عنده من الأنصار والجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال. وفي المقابل خرج أخوه الحسين ـ رضي الله عنه ـ على يزيد في قلة من أصحابه، في وقت كان يمكنه فيه الموادعة والمسالمة.
فلا يخلو أن يكون أحدهما على حق، والآخر على باطل؛ لأنه إن كان تنازل الحسن مع تمكنه من الحرب (حقاً) كان خروج الحسين مجرداً من القوة مع تمكنه من المسالمة (باطلاً)، وإن كان خروج الحسين مع ضعفه (حقاً) كان تنازل الحسن مع ( قوته) باطلاً!
وهذا يضع الشيعة في موقف لا يحسدون عليه؛ لأنهم إن قالوا : إنهما جميعا على حق، جمعوا بين النقيضين، وهذا القول يهدم أصولهم. وإن قالوا ببطلان فعل الحسن لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته، وبطلان إمامته يبطل إمامة أبيه وعصمته؛ لأنه أوصى إليه، والإمام المعصوم لا يوصي إلا إلى إمام معصوم مثله حسب مذهبهم.
وإن قالوا ببطلان فعل الحسين لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته وعصمته، وبطلان إمامته وعصمته يبطل إمامة وعصمة جميع أبنائه وذريته؛ لأنه أصل إمامتهم وعن طريقه تسلسلت الإمامة، وإذا بطل الأصل بطل ما يتفرع عنه(۱).
والجواب عن هذا الكلام من خلال المراجعة والقراءة لما دار بين الامام الحسن عليه السلام وبين معاوية.
واول شيء يرد في الكلام أن معاوية بن ابي سفيان ليس خليفة حتى يبايعه الحسن عليه السلام او يتنازل له عن الخلافة بل هو ملك بنص حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم حيث قال:” الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك” يقول سفينة راوي الحديث:” أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة وخلافة علي ست سنين”(۲).
وفي حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه قال:” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها ثم تكون ملكا عاضا..”(۳).
وفي حديث اخر عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال:” خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء”(۴).
قال الزمخشري:” الملك العضوض: الذي فيه عسف وظلم للرعية كأنه يعضهم عضا. ومنه قولهم: عضتهم الحرب وعضهم السلاح”(۵).
وقال ابن منظور :” ملك عضوض: شديد فيه عسف وعنف. وفي الحديث: ثم يكون ملك عضوض ، اي يصيب الرعية فيه عسف وظلم ، كأنهم يعضون فيه عضا.
والعضوض من ابنية المبالغة. وفي رواية: ثم يكون ملك عضوض ، وهوجمع عض بالكسر ، وهو الخبيث الشرس. وفي حديث أبي بكر: وسترون بعدي ملكا عضوضا”(۶).
وقد ذكر العلماء أن بني أمية ملوك وأن أول الملوك معاوية بن أبي سفيان، ففي مسند الطيالسي عن سفينة قال:” فمعاوية كان أول الملوك”(۷).
وفي مصنف ابن أبي شيبة:” قال معاوية: أنا أول الملوك”(۸).
وفي البداية والنهاية:” حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن أبي عتيبه عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.
وقال ابن ابي خيثمة: حدثنا هارون. . عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك واخر خليفة.
قلت والسنة أن يقال لمعاوية ملك ولا يقال له خليفة لحديث سفينة”(۹).
وفي مصنف ابن ابي شيبة عن سعيد بن جمهان قلت لسفينة:” ان بني امية يزعمون أن الخلافة فيهم.
قال: كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك ، وأول الملوك معاوية”(۱۰).
وقالوا:” كان عمر اذا نظر الى معاوية قال: هذا كسرى العرب”(۱۱).
ومن جانب اخر نرى أن الخلافة لا تصح في الطلقاء كما أخبر بذلك عمر بن الخطاب وقرره حيث قال:” هذا الامر في اهل بدر ما بقي منهم احد ثم في اهل احد ما بقي منهم احد ثم في كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء”(۱۲).
وعن عمر أنه قال لاهل الشورى:” لا تختلفوا فانكم ان اختلفتم جاءكم معاوية من الشام وعبد الله بن أبي ربيعة من اليمن فلا يريان لكم فضلا لسابقتكم ، وان الامر هذا لا يصلح للطلقاء ولا لابناء الطلقاء”(۱۳).
فالخلاصة فيما قدمناه هي:
۱- ان النبي صلى الله عليه واله وسلم حدد خلافة النبوة بثلاثين سنة وما بعدها يكون الملك.
۲- ان الملك الذي يحكم الامة بعد الثلاثين هو ملك عضوض.
۳- ان الملك العضوض هو الملك الذي تسفك فيه الدماء وتهتك فيه الاعراض ويتعدى فيه على حدود الله تعالى.
۴- ان معاوية بن ابي سفيان من الطلقاء ، والطلقاء لا تحل لهم الخلافة كما شهد بذلك الصحابة وعلى راسهم عمر بن الخطاب.
۵- ان معاوية بن ابي سفيان شهد على نفسه انه ما قاتلهم على الصيام والصلاة واقامتها وانما قاتل من اجل ان يتامر عليهم حيث خطب فقال:” ما قاتلنا لتصوموا ولا
تصلوا ولا لتحجوا او تزكوا قد عرفت انكم تفعلون ذلك ، ولكن انما قاتلناكم لاتامر عليكم ، وقد اعطاني الله ذلك وانتم كارهون”(۱۴).
وفي هذا الساق يقول ابو الاعلى المودودي:” كان امتلاك معاوية لاعنة الحكم مرحلة انتقالية على طريق تحول الدولة الاسلامية من الخلافة الى الملك ، ولقد فهم أهل البصيرة تلك المرحلة فقالوا: نحن على ابواب الملك ، لذلك نجد سعد بن أبي وقاص يخاطب معاوية بعد البيعة فيقول له:” السلام عليك ايها الملك.
قال: وما عليك ان قلت يا امير المؤمنين؟
قال: والله ما احب اني وليتها بما وليتها به”(۱۵).
وكان معاوية نفسه يفهم هذه الحقيقة فقال ذات مرة: انا اول الملوك. بل ان ابن كثير يقول: انها لسنة ان يلقب بالملك بدل تلقيبه بالخليفة ، لان النبي صلى الله عليه واله وسلم تنبا بذلك فقال:” الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا”. وهذه المدة انتهت في ربيع الاول عام ۴۱ هجرية حين تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية.
هنا بقيت الفرصة الاخيرة امام عودة الخلافة على منهاج النبوة مرهونة بطريقة تعيين من سياتي بعد معاوية ، فاما أن يترك معاوية للناس اختيار من يرونه بتشاورهم ورضاهم فيما بينهم ، واما ان يرى أن تعيين خليفته في حياته امرا ضروريا لسد باب النزاع ، فيجمه أهل العلم والخير من المسلمين ليقرروا أن معاوية عهد لابنه يزيد بولاية العهد…
وأول من هذا على معاوية المغيرة بن شعبة ، وكان معاوية يريد عزله من على الكوفة ، فلما علم بذلك سافر الى دمشق وقابل يزيد وقال له:” انه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم وكبراء قريش وذووا اسنانهم ، وانما بقي ابناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا واعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين من ان يعقد لك البيعة”.
فحدث يزيد اباه بذلك فدعا المغيرة وسأله ما هذا الذي قلت ليزيد؟
قال: يا امير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فان حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك الدماء ولا تكون هناك فتنة.
فسأله معاوية: ومن لي بهذا؟
قال: اكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.
ثم رجع المغيرة الى الكوفة واسترضى عشرة رجال بثلاثين الف درهم على ان يذهبوا في شكل وفد يكلم معاوية في امر يزيد ، وذهب هذا الوفد وعلى رأسه موسى بن المغيرة بن شعبة الى دمشق وادى مهمته على خير وجه ، فاستدعى معاوية موسى بعد ذلك وسأله: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟
قال: بثلاثين الف درهم.
قال معاوية: لقد هان عليهم دينهم”(۱۶).
وعلى هذا فلا يمكن ان نقول بان معاوية خليفة لان الحسن عليه السلام صالحه وتنازل له عن الخلافة ، لانه ليس بخليفة كما دل على ذلك حديث سفينة من ان الخلافة ثلاثون سنة ، بل معاوية ممن اخرج الخلافة من كونها خلافة الى ملك عضوض كما يدل عليه حديث سفينة ايضا ، ومعاوية طليق لايمكن ان يكون خليفة كما شهد بذلك الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب ، ومعاوية لم ينازع الامام علي عليه السلام والحسن عليه السلام من اجل احقاق الحق واقامة شعائر الدي بل نازعهم من اجل الملك والتسلط على رقاب المسلمين كما اقر واعترف بذلك معاوية نفسه.
فلا يمكن بعد هذا ان نقول ان الحسن عليه السلام تنازل له عن الخلافة واصبح خليفة للمسلمين.
على ان الحسن عليه السلام هو الخليفة كما دل على ذلك حديث سفينة وكما شهد له الموافق والمخالف انه الذي بويع بالخلافة بعد ابيه علي بن ابي طالب عليه السلام ، فمن ينازعه بعد ذلك يكون معاندا مخالفا باغيا يجب عليه الرجوع الى الحق ، وان لم يرجع قوتل حتى يجبر على الحق ، فلايمكن بعد ذلك ان نحكم بان هذا الباغي الواجب المقاتلة هو الخليفة.
واذا رجعنا الى شروط المصالحة بين الحسن عليه السلام ومعاوية ونظرنا فيها نلاحظ الامور التالية.
۱- ان يسلم اليه ولاية امير المؤمنين على ان يعمل فيه بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم وسيرة الخلفاء الصالحين.
۲- وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد لاحد من بعده عهدا ، بل يكون الامر من بعده شورى بين المسلمين.
۳- وعلى ان الناس امنون حيث كانوا من ارض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.
۴- وعلى ان اصحاب علي وشيعته امنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم.
وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما اخذ على احد من خلقه بالوفاء بما اعطى الله من نفسه.
۵- وعلى انه لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت النبي صلى الله عليه واله وسلم غائلة سرا وعلانية ولا يخيف احدا منهم في افق من الافاق(۱۷) .
وفي رواية ابن المطهر المقدسي قال:” فكتب اليه معاوية: اما بعد فانت اولى بهذا الامر واحق به لقرابتك وكذا وكذا ، ولو علمت انك اضبط له واحوط على حريم هذه الامة واكيد للعدو لبايعتك ، فاسال ما شئت. وبعث اليه بصحيفة بيضاء مختومة في اسفلها ان اكتب فيها ما شئت ، فكتب الحسن اموالا وضياعا وامانا لشيعة علي ، واشهد على ذلك شهودا من الصحابة.
وكتب في تسلم الامر كتابا على ان يعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الماضين ، وان لا يعهد بعده الى احد ويكون الامر شورى واصحاب علي امنين حيثما كانوا” (۱۸) .
واذا رجعنا الى الشرط الاول نرى معاوية خارج منه اصلا لان كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه واله وسلم وسيرة الخلفاء ترفض الخلافة ان تكون عند الطلقاء ، بل راينا النبي صلى الله عليه واله وسلم يحكم بان معاوية من الملوك وليس من الخلفاء وشهد بذلك معاوية نفسه.
فالشرط الاول منتف اصلا ولا يمكن لمعاوية تطبيقه لانه لا تحل له الخلافة حسب ما تقدم.
وبالنسبة للتعرض للحسن عليه السلام ، فقد ذكر المؤرخون والمحدثون ان:” سبب موته ان زوجته جعدة بنت الاشعث بن قيس سقته السم”(۱۹).
وقال العظيم ابادي:” وكان وفاة الحسن رضي الله عنه مسموما ، سمته زوجته باشارة يزيد بن معاوية سنة تسع واربعين أو خمسين”(۲۰).
وقال ابن كثير:” وقد سمعت بعض من يقول: وكان معاوية قد تلطف لبعض خدمه ان يسقيه سما… وروى بعضهم ان يزيد ين معاوية بعث الى جعدة بنت الاشعث ان سمي حسنا وأنا بعده ، ففعلت”(۲۱).
ومن هنا هيا معاوية بن ابي سفيان الارضية لاستخلاف ابنه يزيد شارب الخمور واللاعب بالقرود والمبيح لدماء المسلمين قال ابن سعد:”قال ابو وائل: أترى معاوية يرى أنه يرجع الى يزيد بعد الموت فيراه في ملكه”(۲۲).
وعند ابن اعثم:” فارسل مروان الى وجوه اهل المدينة فجمعهم في المسجد الاعظم ، ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وذكر الطاعة وحض عليها وذكر الفتنة وحذر منها.
ثم قال في بعض كلامه: ايها الناس ان امير المؤمنين قد كبر سنه ، ورق جللده وعظمه ، وخشي الفتنة من بعده ، وقد أراه الله رأيا حسنا ، وقد أراد أن يختار لكم ولي عهد يكون من بعده لكم مفزعا ، يجمع به الالفة ويحقن به الدماء ، وأراد أن ذلك من مشورة منكم وتراض فماذا تقولون؟
فقال الناس من كل جانب: انا لا نكره ذلك اذا كان لله فيه رضا.
فقال مروان: انه قد اختار لكم الرضا الذي يسير فيكم بسيرة الخلفاء الراشدين المهديين وهو ابنه يزيد.
قال: فسكت الناس وتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وقال: كذبت والله يا مروان وكذب من أمرك بهذا ، والله ما يزيد برضا ولكن يزيد ورأيه هرقلية”(۲۳).
وقال يزيد الكندي:” ايها الناس ان امير المؤمنين هذا ، واشار بيده الى معاوية ، قاد الملك ، فاذا مات فوارث الملك هذا واشار بيده الى يزيد فمن ابى فهذا واشار بيده الى السيف.
فقال له: اجلس فأنت سيد الخطباء.
ثم قام الحصين بن نمير السكوني فقال: يا معاوية والله لئن لقيت الله ولم تبايع ليزيد لتكونن مضيعا للامة.
فالتفت الى الاحنف بن قيس معاوية وقال: يا ابا بحر ما يمنعك من الكلام؟
فقال: يا امير المؤمنين أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره ومدخله وخرجه وسره وعلانيته ، فان كنت تعلمه لله عز وجل ولهذه الامة رضا فلا تشاور فيه أحدا من الناس ، وان كنت تعلم لله غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت ماض الى الاخرة ، فان قلنا ما علينا أن نقول وسمعنا وأطعنا..”(۲۴).
واما ابند الاخر وهو الامان لشيعة علي بن ابي طالب فايضا لم يلتز به معاوية بن ابي سفيان كما هو مسطور في التاريخ فقد قتل حجر بن عدي واصحابه (۲۵) ، وقتل عمرو بن الحمق الخزاعي(۲۶) ، وقتل عبد الرحمن بن عديس البلوي ، والحضرميين(۲۷).
فصدق كلام النبي صلى الله عليه واله وسلم في معاوية حينما قال:” ويل لهذه الامة من معاوية ذي الاستاة”(۲۸).
فالحسن عليه السلام تنازل لمعاوية عن الخلافة ، لكنه لم يرض به خليفة لانه لا تصح فيه الخلافة ولا تجوز، وشرط عليه شروط المصالحة التي لم يف معاوية بواحد منها البته ، بل ضرب بها عرض الجدارپف واخذ يحكم امة الاسلام بالحديد والنار، من قتل الصحابة الاخيار وتتبع شيعة علي الكرار، وقطع الارزاق واموال بيت المال عن اهلها وبذلها لانصاره من أهل الشام.
بل اخذ يدفع الاموال الى الروم قال سعيد بن عبد العزيز:” ان الروم صالحت معاوية على ان يؤدي اليهم مالا..”(۲۹).
فهو يقاتل الامام علي والحسن عليهما السلام ، وينازعهم امرا ليس له ، وفي مقابل ذلك يدفع للروم الاموال والجزية.
ومن جانب اخر استطاع معاوية أن يجمع حوله طلاب الدنيا والمرتزقة وجيرهم في خدمته وطاعته قال الذهبي:” وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلون ، اما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء ، واما قد ولدوا في الشام على حبه ، وتربى أولادهم على ذلك . وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء ، وحاربوا معه أهل العراق ، ونشاوا على النصب ، نعوذ بالله من الهوى”(۳۰).
وجيش الحسن عليه السلام لم يكن بتلك الالفة والاجتماع ، قال الشيخ المفيد:” وورد على الحسن عليه السلام كتاب قيس بن سعد يخبره بما صنع عبيد الله بن العباس ، فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له ، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله ، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح ، وأنفذ اليه بكتاب أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه ، واشترط على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة وعقد له عقودا كان الوفاء بها مصالح شاملة ، فلم يثق به الحسن عليه السلام وعلم احتياله بذلك واغتياله ، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه وتسليمه الى خصمه ، وما كان في خذلان ابن عمه له ومصيره الى عدوه ، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الاجلة”(۳۱).
وذكر ابن الاثير عن ابن دريد قال:” قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين فقال بعد حمد الله عز وجل: انا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فسلبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في منتدبكم الى صفين ودينكم أمام دنياكم فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وانا لكم كما كنا ولستم لنا كما كنتم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره ، فأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر ألا وان معاوية دعانا الى أمر ليس فيه عز ولا نصفه ، فان أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه الى الله عز وجل بظباء السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضاء. فناده القوم من كل جانب: البقية البقية ، فلما أفردوه أمضى الصلح”(۳۲).
وقال سبط بن الجوزي:” لم يصالح الحسن معاوية رغبة في الدنيا وانما صالحه لما رأى أهل العراق يريدون الغدر به ، وفعلوا معه ما فعلوا ، فخاف منهم أن يسلموه الى معاوية.
والدليل على أنه خطب بالنخيلة قبل الصلح فقال: أيها الناس ان هذا الامر الذي اختلفت فيه انا ومعاوية انما هو حق أتركه ارادة لاصلاح الامة ، وحقنا لدمائها ، وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين”(۳۳).
وصرح الامام الحسن عليه السلام برأيه مرات عدة أمام أهل الكوفة قبل الصلح فقال من جملة كلام له عليه السلام:” والله ما سلمت الامر اليه الا أني لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، وانهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل ، انهم لمختلفون ويقولون لنا ان قلوبهم معنا ، وان سيوفهم لمشهورة علينا”(۳۴).
وغير ذلك الكثير المسطور في صحفات التاريخ ، فهؤلاء الذين سرقوا متاع الحسن عليه السلام الذي يعد بدراهم معدودة كيف يكون حالهم اذا وضع الذهب في طريقهم ، وأذن لهم أن يأخذوه ، نظير خدمة ما يقدمونها الى جهاز معين.
والحسن عليه السلام حينما بويع بالخلافة اشترط عليهم ان يسمعوا ويطيعوا ، فيحاربوا اذا حارب ويسالموا اذا سالم ، لكنهم سالموا قبل ان تبدأ الحرب وخذلوه حينما اراد النهوض الى قتال معاوية.
والصلح جائز ومباح مع الكفار فضلا عن البغاة الذين شهدوا الشهادتين لكنهم يحاربون اولياء الله تعالى من أجل دنيا يردونها.
واما نهضة الحسين عليه السلام فهي لاتعارض صلح الامام الحسن عليه السلام ، لان معاوية نقض شروط الصلح فيمكن للحسين القيام ومنابذة معاوية بن ابي سفيان. هذا من جانب ، ومن جانب اخر فان الظروف التي اكتنفت الحسين عليه السلام تختلف عما اكتنفت الحسن عليه السلام ، حيث رأينا فيما تقدم أن معاوية عرض الصلح على الحسن عليه السلام فاختبر الحسن اصحابه فراهم ليسوا أهل حرب وناجزة ، فرضي بعرض معاوية ، لانه الاحسن من الدخول في امر لا فائدة منه الا انتصار معاوية ومقتل خلص صحابة الامام علي عليه السلام والشيعة.
وهذا ما يدل عليه كلام الامام الحسين عليه السلام حينما قدم عليه المسيب بن عتبة الفزاري في جماعة بعد وفاة الحسن ودعوه الى خلع معاوية وقالوا له:” قد علمنا رأيك ورأي أخيك فقال: اني لارجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف ، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين.
وكتب مروان الى معاوية: اني لست امن أن يكون حسين مرصدا للفتنة ، واظن يومكم من حسين طويلا.
فكتب معاوية الى الحسين: ان من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك الى الشقاق ، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك واخيك ، فاتق الله واذكر الميثاق ، فانك متى تكدني أكدك. فكتب اليه الحسن: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير ، والحسنات لا يهدي لها الا الله ، وما أردت محاربة ولا عليك خلافا ، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك ، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الامة”(۳۵).
بينما في نهضة الحسين عليه السلام فان يزيد اراد من الحسين عليه السلام البيعة وان يتبعه ويؤمن بخلافته ، فقد أرسل يزيد كتابا الى والي المدينة يذكر فيه:” اما بعد فان معاوية كان عبد الله من عباده أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له ثم قبضه الى روحه وريحانه ورحمته وغفرانه ،عاش بقدر ومات بأجل.. وقد كان عهد الي عهدا وجعلني له خليفة من بعده ، وأوصاني أن أحدث ال ابي تراب بال ابي سفيان ، لانهم أنصار الحق وطلاب العدل ، فأذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة.
ثم كتب في صحيفة صغيرة كأنها أذن فأرة: أما بعد فخذ الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب أخذا عنيفا ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث الي برأسه.
فلما ورد كتاب يزيد على الوليد بن عتبة وقرأه قال: انا لله وانا اليه راجعون ، يا ويح الوليد بن عتبة من أدخله في هذه الامارة ، ما لي وللحسين بن فاطمة. ثم بعث الى مروان بن الحكم فأراه الكتاب فقرأه واسترجع ، ثم قال: يرحم الله أمير المؤمنين معاوية ، فقال الوليد: أشر علي برأيك في هؤلاء القوم كيف ترى أن أصنع؟
فقال مروان: ابعث اليهم في هذه الساعة فتدعوهم الى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فان فعلوا قبلت ذلك منهم ، وان أبوا قدمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية فانهم ان علموا ذلك وثب كل رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا الى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لا يقوم له الا عبد الله بن عمر ، فاني لا أراه ينازع في هذا الامر أحدا الا أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفوا ، فذر عنك ابن عمر وابعث الى الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير فادعهم الى البيعة مع أني لأعلم أن الحسين بن علي خاصة لا يجيبك الى بيعة يزيد أبدا ولا يرى له عليه طاعة ، ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أرضرب رقبته كائنا في ذلك ما كان.
قال: فأطرق الوليد بن عتبة الى الارض ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ليت الوليد لم يولد ولم يكن شيئا مذكورا.
قال: ثم دمعت عيناه فقال له عدو الله مروان: أوه أيها الامير لا تجزع مما قلت لك فان ال ابي تراب هم الاعداء في الدهر لم يزالوا ، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ، ثم سار الى أمير المؤمنين فحاربوه ، وبعد فاني لست امن يا امير المؤمنين انك ان لم تعاجل الحسين بن علي خاصة ان تسقط منزلتك عند أمير المؤمنين يزيد..”(۳۶).
فالحسن عليه السلام لم يكن عنده انصارا واعوانا والا فما توانا عن جهاد معاوية كما صرح بذلك فيما قدمناه ، بينما الحسين عليه السلام وجد انصارا واعوانا على حرب يزيد فلذلك قام باحياء شعيرة الجهاد ومقارعة الظالمين.
والنقطة الاخرى أن يزيد يختلف عن معاوية من ناحيتين:
الناحية الاولى: وجود الصحابة في عصر معاوية وهم حملة الدين والمحافظين على السيرة الصحيحة للامة ، فلا يستطيع معاوية اظهار الزيغ والانحراف بشكل علني بل كانت يده مبسوطة في الشام اما المدينة والعراق فلا يستطيع التغيير فيهما لوجود بعض الصحابة الاخيار. اما في زمن يزيد فالصحابة قد قل وجودهم اما بسبب القتل أو الموت ، ودخلنا في عصر جديد كثر فيه التابعين.
الناحية الثانية: أن يزيد مستهترا تماما خصوصا وأنه تربى عند المسيحين أخواله ، وكان يتحامل على اتباع علي بن أبي طالب كثيرا بحيث طلب من كعب بن جعيل ان يهجو الانصار ، لان الانصار كان اغلبهم يميلون الى علي بن ابي طالب عليه السلام ، وخرجوا معه لحرب معاوية في صفين ، فرفض كعب وارشده الى الاخطل الشاعر النصراني ، فاغدق عليه بالاموال وأخذ يهجو الانصار(۳۷).
وكان مشتهرا بالفجور والفسوق كما قدمناه حتى ان ابيه اوصاه بالتستر فلم يستطع.
والشهادة الاخرى هي شهادة الصحابة من أهل المدينة الذين خرجوا على يزيد حيث قال عبد بن حنظلة الذي بايعوه اهل المدينة على خلع وحرب يزيد قال:” فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ان رجلا ينكح الامهات والبنات والاخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصلاة. والله لو لم يكن معي أحد من الناس لابليت لله فيه بلاء حسنا ، فتولاثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي..”(۳۸).
وقال البلاذري في وصف مجون يزيد:” كان يزيد بن معاوية اول من أظهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء والصيد واتخاذ القيان والغلمان ، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة”(۳۹).
وقال المسعودي:” وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب ، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد ، وذلك بعد قتل الحسين فأقبل على ساقيه فقال:
اسقني شربة تسقي مشاشي ثم مل فاسق فاسق مثلها ابن زياد.
صاحب السر والامانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي.
ثم أمر المغنين فغنوا به. وغلب على أصحا بيزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق.
وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة ، واستعملت الملاهي ، وأظهر الناس شرب الشراب. وكان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته ويطرح له متكئا ، وكان قردا خبيثا وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذللت لذلك بسرج ولجام ، ويسابق بها الخيل يوم الحلبة. .”(۴۰).
فالحسن والحسين عليهما السلام كلاهما ينبعان من منبع واحد ، ومتربان على قواعد الدين والسرع الحنيف ، واخذا من جدهم الرسول الاكرم وامهم فاطمة الصديقة وابيهم الفارق علي عليهما السلام ، ونهجهم رافض للظلم والبغي بشتى أنواعه ، الا ان الظروف لم توات الحسن عليه السلام واتت الحسين عليه السلام.
لكن الذين اشريوا حب الامويين لابد لهم من ان يناقشوا حتى في الواضحات ، بل وابده البديهات.
وعجبا لامة تدافع عن معاوية الذي حارب عليا والحسن عليهما السلام ، وتبكي على يزيد الذي قتل الحسين عليه السلام.
__________________
۱- الشبهة منقولة من كتاب( اسئلة قادت شباب الشيعة الى الحق) رقم الشبهة ۸۴٫
۲ – راجع الحديث في المصادر التالية: مسند احمد۲۲۰:۵ ،كتاب السنة:۵۴۹ ، صحيح ابن حبان۳۶:۱۵٫
۳ – مسند احمد۲۷۳:۴ ، وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد۱۸۹:۵ وقال:” رواه احمد في ترجمة النعمان والبزار اتم منه والطبراني ببعضه في الاوسط ورجاله ثقات”.
۴ – سنن ابي داود۴۰۱:۲ ، كتاب السنة: ۵۵۰ وصححه محقق الكتاب الشيخ الالباني.
۵ – الفائق في غريب الحديث۳۷۴:۲٫
۶ – لسان العرب۱۹۱:۷ فصل العين المهملة.
۷ – مسند الطيالسي:۱۵۱
۸ – المصنف لابن ابي شيبة ۲۸۰:۷ ، الاستيعاب ۱۴۲۰:۳ ، سير أعلام النبلاء ۱۵۷:۳٫
۹ – البداية والنهاية۱۴۴:۸٫
۱۰ – المصنف لابن أبي شيبة ۳۵۵:۸٫
۱۱ – راجع الاستيعاب۳۸۶:۴ ، سير أعلام النبلاء۱۳۴:۳ ، تاريخ الاسلام۳۱۱:۴٫
۱۲ – أسد الغابة۳۸۸:۴ ، الطبقات الكبرى۳۴۲:۳ ، فتح الباري۱۷۸:۱۳٫
۱۳ – الاصابة في تمييز الصحابة۷۰:۴٫
۱۴ – سير اعلام النبلاء۱۴۶:۳ ، البداية والنهاية۱۳۱:۸٫
۱۵ – الكامل في التاريخ۴۰۹:۳٫
۱۶ – الخلافة والملك: ۹۳-۹۴٫
۱۷ – كتاب الفتوح۲۹۱:۴٫
۱۸ – البدء والتاريخ ۲۳۶:۵٫
۱۹ – الاستيعاب ۱۴:۲٫
۲۰ – عون المعبود ۱۲۷:۱۱٫
۲۱ – البداية والنهاية ۴۷:۸٫
۲۲ – الطبقات الكبرى ۹۷:۶٫
۲۳ – كتاب الفتوح ۳۳۵:۴٫
۲۴ – كتاب الفتوح۳۳۴:۴ ، الكامل في التاريخ۵۰۸:۳٫
۲۵ – المصنف لابن ابي شيبة ۴۱۱:۲٫
۲۶ – الطبقات الكبرى ۲۵:۶٫
۲۷ – كتاب المحبر:۴۷۹٫
۲۸ – المعجم الكبير۱۷۶:۱۷٫
۲۹ – فتوح البلدان ۱۸۸:۱٫
۳۰ – سير أعلام النبلاء۱۲۸:۳٫
۳۱ – الارشاد۱۴:۳٫
۳۲ – أسد الغابة۱۳:۲ ، الكامل في التاريخ۴۰۶:۳٫
۳۳ – أعيان الشيعة ۵۷۰:۱٫
۳۴ – الاحتجاج ۱۳:۲٫
۳۵ – البداية والنهاية ۱۷۴:۸ ، تهذيب الكمال ۴۱۳:۶٫
۳۶ – كتاب الفتوح ۱۱:۵٫
۳۷ – أسد الغابة ۲۸۶:۳٫
۳۸ – الطبقات الكبرى ۶۶:۵٫
۳۹ – انساب الاشراف: ۱۲۷۷٫
۴۰ – مروج الذهب ۶۷:۳٫ ۲۰۱۰-۰۵-۰۱ ۱۴:۱۸:۰۲٫