الإمام الحسين.. نور بلا حدود
الإمام الحسين.. نور بلا حدود
حينما يقال إنّ كربلاء أوسع من البقعة المكانيّة التي عُرِفت، وأطول من البرهة الزمانيّة التي دارت خلالها المعركة، وأعظم وأوسع ممّا تصوّره البعض أنّها حادثة تاريخيّة تنطوي في صفحات التاريخ شأنها شأن بقيّة الوقائع.. حينما يُقال ذلك فربّما يُطلَب أكثر من دليل.
وحينما يُقدَّم الدليل تلو الدليل، يُدّعى أنّ وراء ذلك تعصّباً للشهيد المظلوم أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، أو أنّ الكلام منطلقٌ من رغبةٍ جامحةٍ في الانتصار له بعد تلك الظّلامة العظمى؛ لإعلاء شأنه بعد أن مثّل أعداؤه ببدنه القُدسيّ، وذبحوا أهل بيته وإخوته وأبناءه وأحبّته وخُلّص أصحابه أمام عينيه الكريمتين.
وفي هذا السياق.. نوجّه الأنظار والأذهان إلى شيءٍ ممّا اعتقده إنسان غير مسلم وصرّح به، وكتبه بيراعٍ صادق مؤمنٍ بالحقائق التي توصّل إليها بقلبه وضميره. ذلك هو الكاتب « أنطون بارا » في مؤلَّفه: « الحسين في الفكر المسيحيّ ». فدَعُونا ـ أيّها الإخوة ـ نعيش مع هذا الكتاب بعض فقراته التي ترى الإمام الحسين عليه السّلام فوق الاعتبارات الضيّقة، وفوق نطاق الجغرافية.. نراه حاضراً في الضمير الإنسانيّ الحيّ والوجدان المتيقّظ.. وفي كلّ رسالات الأديان النزيهة.
يقول « أنطون بارا »:
• الهزّة العظيمة
لم تَحْظَ ملحمةٌ إنسانيّة في التاريخَين: القديمِ والحديث، بمِثل ما حَظِيَت ملحمةُ الاستشهاد في كربلاء، من إعجابٍ ودرسٍ وتعاطف؛ فقد كانت حركةً على مستوى الحادث الوجدانيّ الأكبر لأمّة الإسلام بتشكيلها المنعطفَ الروحيّ الخطيرَ الأثر في مسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها لكان الإسلام مذهباً باهتاً يُركَنُ في ظاهر الرؤوس، لا عقيدةً راسخةً في أعماق الصدور، وإيماناً يترعرع في وجدان كلّ مسلم.
لقد كانت ( كربلاء ) هزّة، وأيّة هزّة! زلزلت أركانَ الأمّة مِن أقصاها إلى أدناها، ففتّحت العيون، وأيقظت الضمائرَ على ما لسطوةِ الإفك والشرّ من اقتدار، وما للظلم من تلاميذ على استعدادٍ لزرع ذلك الظلم في تلافيف الضمائر؛ ليغتالوا تحت سُتُرٍ مزيّفة قيمَ الدِّين، وينتهكوا حقوقَ أهليه(1).
• المسيرة الخالدة
ألم يَعُوا كيف تحوّلت هذه الملحمة العظيمة ( ملحمة كربلاء ) بتقادم العهد عليها، إلى مسيرة.. وكيف صارت الشهادة التي أقدَم عليها الحسينُ عليه السّلام وآلُ بيته وصحبُه الأطهار، إلى رمزٍ للحقّ والعدل.. وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، مَناراً لا ينطفئ لكلّ متطلّعٍ باحثٍ عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خَلْقَه بقوله: « ولَقَد كرَّمْنا بَني آدَمَ »؟!(2)
والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنّة واستشهاده الذي لم يُسجِّل التاريخُ شبيهاً له.. كان عنواناً صريحاً لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمةِ المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثُّلِها، فغدا حبُّه كثائرٍ واجباً علينا كبشر، وحبُّه كشهيدٍ جزءً من نفثات ضمائرنا. فقد كان ( الحسين ) عليه السّلام شمعة الإسلام، أضاءت ممثِّلةً ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعاً حَمى العقيدةَ مِن أذى مُنتهكيها، وذبَّ عنها خطرَ الاضمحلال، وكان انطفاؤه ( أي شهادته ) فوق أرض كربلاء مرحلة أُولى لاشتعالٍ أبديّ، كمَثَل التوهّج من الانطفاء، والحياة في موت(3).
• الغليان الدائم
هي ثورة بدأت ساخنة، واستمرّت محافظةً على سخونتها.. طالما ثَمّة ظلمٌ فوق هذا الكوكب، وطالما ثمّة فسادٌ في الحكم، وطالما ثمّة عبثٌ في العقائد. وهي ثورة لن تبرد أبداً، بل هي في غَلَيان دائبٍ.. سيّما في هذا العصر، عصرِ الضَّنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوبٍ كثيرة، حيث انتُهِكت الحريّات، وبان جليّاً العبثُ في العقائد والأديان، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريّة.
فالحسين عليه السّلام ثارَ مِن أجل الحقّ، والحقُّ لكلّ الشعوب.
والحسين عليه السّلام ثار مِن أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّن، بل هي لكلّ خَلْق الله... المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروَّعون من كلّ المذاهب والبقاع.. يتوجّهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين عليه السّلام، ففي اتّجاههم الفطريّ ورودٌ إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان.
وما دامت قد تعيّنت ماهيّة ثورة الحسين عليه السّلام بهذه ( المعاني ).. أفَلا يَجدر اعتبار الحسين شهيداً: للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، ولكلّ الأديان والعقائد الإنسانيّة الأخرى ؟!(4)
• قال قسّيس مسيحيّ: لو كان الحسين لنا، لَرفَعْنا له في كلّ بلدٍ بَيْرقاً، ولنصَبْنا له في كلّ قريةٍ مِنْبراً، ولَدَعْونا الناس إلى المسيحيّة باسم « الحسين »(5).
• حركة الحسين.. شهادة للإسلام الحقّ
جديرٌ بقدسيّة رسالة الحسين عليه السّلام، أن يقدّمها العالَمُ الإسلاميّ كأنصع ما في تاريخ الإسلام، إلى العالَم المسيحي، وكأعظم شهادةٍ لأعظم شهيدٍ في سبيل القيم الإنسانيّة الصافية الخالية من أيّ غرضٍ أو إقليميّة ضيّقة، وكأبرز شاهدٍ على صِدق رسالة محمّدٍ « صلّى الله عليه وآله » وكلِّ رسالات الأنبياء السابقين.
وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين عليه السّلام من قوةِ جذبٍ للشعور الإنسانيّ، من حادثة رسول القيصر إلى يزيد، حينما أخذ يزيد ينكث ثغر الحسين الطاهر بالقضيب على مَرأىً منه، فما كان من رسول القيصر إلاّ أن قال له مستعظِماً فِعلتَه: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافرَ حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونهدي إليه النذورَ ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فأشهَدُ أنّكم على باطل!(6) فأغضب يزيدَ هذا القول، فأمر بقتله، فقام رسول القيصر إلى الرأس الطاهر وقبّله، وتشهّد الشهادتين ( أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله )، وعند قتله سمع أهلُ المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً يردّد: لا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله! »(7).
وحادثة أخرى دفعت براهبٍ مسيحيّ لأن يبذل دراهم مقابل تقبيل رأس الشهيد، وكان ذلك عند نصب الرأس على رمحٍ إلى جانب صومعته، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهَّر، وسمع قائلاً يقول: « السلام عليك يا أبا عبدالله »، فتعجّب حيث لم يعرف الحال.
وعند الصباح استخبر الراهبُ القومَ فقالوا له: إنّه رأس الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت النبيّ محمّد، فقال لهم: تَبّاً لكم أيّتُها الجماعة! صَدَقتِ الأخبار في قولها: إذا قُتِل تَمطُر السماءُ دماً!
وأراد منهم أن يقبّل الرأس فلم يُجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم، ولمّا ارتحلوا عن المكان نظروا إلى دراهم الراهب فإذا مكتوبٌ عليها: وسَيَعلمُ الذينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلبون (8).
فبداهةُ القول: أنّ أيّ فكرٍ إنسانيٍّ يطّلع على السيرة العطرة لسيّد الشهداء، لابدّ وأن تتحرّك في وجدانه نوازعُ الحبّ لهذا الشهيد المثاليّ، كما تحرّكت شبيهةُ هذه النوازع في قلبَيْ كلٍّ من: رسول القيصر، والراهب. ففي أعماق كلّ إنسان لواقطُ خفيّة تلتقط أدنى إشارات العظمة والقداسة خُفوتاً.. فكيف بأقواها تلك المتعلّقة بشخص سيّد الشهداء، والمنبعثة ـ رغم السنين والقرون ـ مِن كلّ كلمةٍ في سِفْر حياته وكفاحه وشهادته، والتي تستهوي أشدَّ القلوب ظلامةً للتفاعل معها، وتُوقظ أشدَّ الضمائر موتاً لاستلهامها والسير على هُدى أنوارها السَّنيّة ؟!(9)
• المسيح.. في كربلاء
بعد ذلك يدخل أنطون بارا في أجواء كربلاء وأيّام عاشوراء، فيستوحي المعاني من أعماق التاريخ، ويتأمّل في مشاهد عديدةٍ من قصّة الشهادة العظمى التي تَجلَّت في مواقف الإمام الحسين عليه السّلام في أبعادٍ لا يمكن تصوّرها. ثمّ يبقى هذا الكاتب المسيحيّ معجبَاً وهو يحلّل الوقائع حتّى ينغمر في أجواء الطفّ وكأنّه مسلمٌ واعٍ ينتصر لسيّد الشهداء ويتنفّر من أعدائه وقتلته، ثمّ يعود إلى التاريخ فيسطّر عنواناً نصُّه: « المسيح.. هل تنبّأ بالحسين ؟ »، ليكتب هذه الفقرات:
أيُّها القاتلون ـ جهلاً ـ حسيناً أبشِـروا بالعـذابِ والتنكيـلِ
قد لُعِنتُم على لسـان ابـن دا ودَ وموسى وصاحبِ الإنجيلِ
لقد لعنَ المسيحُ قاتلي الحسين وأمر بني إسرائيل بلعنهم، قائلاً: « مَن أدرك أيّامَه فليُقاتِلْ معه، فإنّه ( أي المقاتل مع الحسين ) كالشهيد مع الأنبياء مُقْبلاً غير مُدْبِر، وكأنّي أنظر إلى بقعته، وما مِن نبيٍّ إلاّ وزارها وقال: إنّكِ لَبقعةٌ كثيرة الخير، فيكِ يُدفَن القمرُ الزاهر »(10).
في هذا النصّ ( والحديث ما زال للكاتب أنطون بارا ) ثلاثُ نقاطٍ ذات دِلالةٍ وأهميّة:
1 ـ لعنُ المسيح لقاتلي الحسين، وأمرُه لبني إسرائيل بلعنهم.
2 ـ الحثّ على المقاتلة مع الحسين، بإيضاح أنّ الشهادة في هذا القتال كالقتال مع الأنبياء.
3 ـ التأكيد على زيارة كلّ الأنبياء لبقعة كربلاء، بالجزم التامّ على أنّ « ما مِن نبيّ إلاّ وزارها ».
وتذكر بعض المصادر التاريخيّة(11) أنّ عيسى ابن مريم عليهما السّلام مرّ بأرض كربلاء، وتوقّف فوق مطارح الطفّ، ولعن قاتلي الحسين ومُهْدِري دمه الطاهر فوق هذا الثرى(12).
• من الخصائص الحسينية المتألّقة
ونظرة واحدة إلى الملايين المؤمنة من البشر، التي تؤمّ قبر الحسين ومزارات آل البيت في كلّ مكان، لَكافيةٌ كي تدعم الرأي بتعاظم قوّة العقيدة وتمكّنها من النفوس، ورغبةِ المؤمنين في أن يظلَّ لقتل الحسين حرارةٌ متأجّجة لا تبرد في قلوبهم أبداً.. طالما هم مؤمنون، وصراطهم مستقيم.
فكيف سيكون ما كان، لولا الذي كان من استشهاد سيّد شباب أهل الجنّة، وإزهاق الباطل الذي عبّر عنه القرآنُ الكريم بقوله: إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً ؟
وكيف كان وسيكون، مِن خَلْق هذا الشهيد لولا اختيار العناية الإلهيّة له، ولولا تعهّدُ جَدّه النبيّ الأكرم بتنشئته تنشئةً نبويّة ؟ فارتقت إنسانيّته إلى حيث نبوّة الجَدّ « أنا مِن حسين »، ( واصطفّت ) نبوّة الجدّ إلى حيث إنسانيّته « حسينٌ منّي ». ولا عجب في ذلك... فالحسين ـ في هذا ـ وَرِث خصائصَ جدّه من حيث الغَيرة على الدِّين، والاستعداد لبذل ما هو غالٍ في سبيله.
وقولة الرسول: « حسينٌ منّي وأنا مِن حسين »، و « اللهمّ أحِبَّه؛ فإنّي أُحبّه » فيهما شهادةٌ وتكليف:
شهادة: بأنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) قد عَهِد براية الإسلام الذي أُنزِل عليه إلى سِبطه الحسين الذي هو بضعةٌ منه.
وتكليف: للابن الذي أحبّه الرسول وطلب من ربّه أن يُحبّه، بالاستشهاد صَوناً للعقيدة، ودفاعاً عن روح الدين من العبث والاستهتار اللَّذينِ كادا يؤدّيانِ إلى اضمحلاله، فكانت هذه الشهادة وهذا التكليف هما العنوانَ الضخم والرمز الخالد لنهضة الابن في سبيل عقيدة الجدّ، حتّى استحقّ ـ عن جدارة ـ مغزى قولة: الإسلام.. بَدؤُه محمّديّ، وبقاؤه حسينيّ ».
فالحسين.. البضعة الرسوليّة، قام بمهمّةٍ لا تقلّ خطراً عن مهمّة جَدّه، فأبقى الإسلامَ كما بشّر به جدُّه الكريم، وأودع في صدور المسلمين وديعةً ثمينةً تنبّههم بوجوب الحفاظ عليها، كأندرِ وأغلى ما يملكون(13).
• صورة النبيّ صلّى الله عليه وآله
لقد جاء في أخبار الحسين عليه السّلام أنّه كان صورةً تشكّلت من صورة جدّه النبيّ صلّى الله عليه وآله، له شَبَهُه في الخُلُق والخِلقة.. تطلّع إليه الجدّ فرأى في مَخايِله سيماءَ مستقبل الأمّة وسؤددها، وحاملَ لوائها مِن بعده.
السبط النبويّ ـ تطلّع إلى جَدّه.. فرأى فيه معنى الدِّين ومعنى العقيدة، واستشفّ من الأذان الذي كبّره ( جَدُّه ) في سريرته ـ ولمّا يَزَل ( الحسين ) رضيعاً ـ رؤى المستقبل الآتي.
سيّد الشهداء ـ سما في شهادته فوق سمّو كلّ الشهادات التي أُوتيها أرباب الديانات وشهداؤها.. منذ زكريّا ويحيى حتّى المسيح، فكان ( الحسين ) إمامَ حقّ، وسيّدَ شهداءِ الحقّ.
سيّد شباب أهل الجنّة ـ أتمَّ حجّةَ الله في خَلْقه وفي دِينهِ الحنيف، وأبرزَ مظلوميّةَ آل محمّد، وأعاد دين النبيّ ـ الذي بشّر به إلى صراطه المستقيم ـ فأفنى ذاته وأهله في هذا السبيل، رَخّص نفسه الغالية فأغلى له اللهُ تعالى نفسَه على أنفُسِ ساكني جنّة خُلده، فصار سيّدَهم بما عَمِل وضحّى، وصار أحبَّ أهل الأرض إلى أهل السماء(14).
• شمعة الإسلام ـ أضاءت لملايين المسلمين دربَ خلاصهم، وعرّفت لهم موطئ أقدامهم، وجنّبتْهمُ الزللَ في حُفَر الضلالة والسقوطَ في فِخاخ الخطيئة والتهاون، وأبانت لبصائرهم ـ بسطوعها المتجلّي أبداً ـ مسالكَ الحقّ، وطردت عنها معالمَ الوحشة لقلّة سالكيها، فعَبَرها المؤمنون آمنينَ مستنيرين بأنوار الشمعة التي أضاءت ـ باحتراقها فوق ثرى كربلاء ـ ولم تَزَل تُضيء.. حتّى يقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً.
دِرع الإسلام ـ ذبَّ عن الإسلام الأذى المتمثّلَ بوهن العقيدة وانحلال روحانيّة الدِّين، بعد أن غدت العقيدة ( في قلوب الناس ) ضَعفاً لا يتّصل بقوّة، بعد أن كانت قوّةً لا تتّصل بضَعف، فأغار ( الحسين عليه السّلام ) على مواطن الوهن والإثم، بالقول والفعل، وتلّقى ( عليه السّلام ) ـ بصبرٍ نادرٍ عجيبٍ ـ كلَّ ما شَهَره في وجهه: حَفَدةُ الشيطان، مستحلّو حُرَم الله وناكثو عهوده، ومخالفو سُنّة رسوله، العاملون في عباد الله بالإثم والعدوان.. فكان ( عليه السّلام ) ـ بتصدّيه للأذى اللاّحق بالعقيدة ـ دِرعَ الإسلام بحقّ. فلولاه، لَما كان الإسلام إلى ما صار إليه: عقيدةً ثابتة تترع في وجدان المسلمين وضمائرهم، بعد أن كاد يتحوّل إلى مذهبٍ باهتٍ يُركَن في ظاهر الرؤوس التي أدارتها نحو المذهبيّة الساذجة الحمقاء ممارساتُ القائمين على أمور المسلمين من حكّامٍ وأذنابِ سلطةٍ ومَدّاحي دواوين!
ضمير الأديان إلى أبد الدهور ـ.. باستشهاده ( عليه السّلام )، الذي لم يسجّل التاريخ مثيلاً له، تكرّست ثورته كضمير للأديان السماويّة، يستصرخ أبداً مناطقَ الشعور في الأنفس، وينبّه بتواترٍ لا يَهدأ مَثاوي العقيدة في الحَنايا، فكأنّه من الدين المعنى الدينيّ، ( رتّله ) في المهج على مقدار ما فيه من معناه.
حسيننا ضمير الأديان، والضمير محبّةٌ وتحابٌّ وغَيرة، في تلافيفه حنوُّ المستقبل ونَصَعانه، ومن آياته المُعبِّرة في صيغةٍ تعبيريّة عن حقيقتها: يا أيُّها الذينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عن دِينهِ فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَه، أذلّةٍ على المؤمنين، أعزّةٍ على الكافرين، يُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ لا يَخافونَ لَومَةَ لائم، ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاء، واللهُ واسعٌ عليم (15)...
خير الأمم أمّةٌ هُدِيَت إلى الحقّ فهَدَتْ به، فالحقُّ يَجعل من الأمّة خيرَ الأمم، ومن المؤمنين خيرَ البشر وممّن خَلَقْنا أُمّةٌ يَهدون بالحقِّ وبهِ يَعْدِلون (16).
مقياس الأمم قبول الحقّ والعمل به، ومقياس المقاييس خير المؤمنين فئةٌ هدَتْ إلى الحقّ وعدلَتْ به، ونَهَتْ عن نقيضه.
فمَن مِن المؤمنين فعَلَ هذا ؟
مَن الذي أعلن على رؤوس الملأ قوله هذا:
« إنّما خَرَجتُ لطلبِ الإصلاح في أمّةِ جَدّي.. أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ. فمَن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومَن رَدَّ علَيّ هذا أصبِرُ حتّى يقضيَ اللهُ بيني وبين القوم بالحقّ، واللهُ خير الحاكمين » ؟
إنّه الحسين سيّد الشهداء في ميادين الحقّ، والذي كانت نهضته تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان على مرّ الدهور.
ولئن اعتُديَ على الحقّ الإلهيّ في غفلةٍ من الزمن، وفي حَلْكة الظلام، فلهذا الحقّ في ضمير الكون شاهد. وكان الحسين عليه السّلام ضميرَ الأديان في عمر الدهور، هو الشاهد الأوحد على محاولة إزهاق الحقّ في ضمير الكون.
ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتمّ نوره.. وتأبى حكمته إلاّ أن تبلغ مَداها في فضاء العزّة والجلالة، لتغمرَ آفاقَ البشريّة بالقدسيّة والعدل والنُّبْل.
لهذا المقصد الإلهيّ.. كان الحسين قبسَ هداية، ومِشكاةَ طُهْر، ونموذج أخلاقٍ فاضلة، فكان حقّاً ضميرَ الأديان إلى يوم القيامة(17).
فسلامٌ عليك يا شهيد الحقّ،
ويا سفينة النجاة ومصباح الهدى،
وسلام عليك يا منار الدين، وفخرَ الموالين والمحبّين.
( من كتاب: الحسين في الفكر المسيحي ـ تأليف انطون بارا
انتشارات الهاشمي ـ قم المقدّسة ـ مطبعة نمونه ـ الطبعة الثانية ـ 1404هـ / 1984م )
--------------------------------
1 ـ ص 59.
2 ـ سورة الإسراء:70.
3 ـ ص 65.
4 ـ ص 71.
5 ـ ص 72.
6 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر 119.
7 ـ مثير الأحزان لابن نما. مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزميّ 72:2.
8 ـ تذكرة خواصّ الأمّة لسبط ابن الجوزيّ 150. والآية في سورة الشعراء:227.
9 ـ ص 85 ـ 87.
10 ـ كامل الزيارات لابن قولويه 67.
11 ـ ومنها: كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 295.
12 ـ ص 295 ، 296.
13 ـ ص 310 ـ 311.
14 ـ ص 346 ـ 347.
15 ـ سورة المائدة:54.
16 ـ الأعراف:181.
17 ـ ص 346 ـ 353.