الحسين عليه السّلام.. في مواجهة الطغاة
الحسين عليه السّلام.. في مواجهة الطغاة
لا شكّ.. أنّ في كلّ نهضةٍ اجتماعيّة ـ دينيّة أشخاصاً منافقين يستبطنون غير ما يُظهرون، ويتظاهرون بغير ما يعتقدون؛ مجاراةً للتيّار ووصولاً إلى مصالحهم وغاياتهم التي يكتمونها ويَسعَون في تحقيقها وهم يتحيّنون الفرص ويستغلّون الثغرات ويتطلّبون المنافع الشخصيّة يتصيّدونها ويغتنمونها وإن كان في ذلك عوائدُ سيّئة على الرسالة والأمّة!
وهؤلاء المنافقون ليسوا بجُهّال ولا مُغَرَّرٍ بهم، ولا هم من السُّذَّج المغفّلين، إنّما هم واعون للحقائق ولكنّهم صادّون عنها متنكّبون طريق الصدق والعدالة، فإذا وصلوا إلى أهدافهم سَعَوا في الأرض فساداً، متّخذين عباد الله خُوَلاً، وأموالهم دُوَلاً وطَغَوا يُهلكون الحرثَ والنسل، مُموِّهين على الناس أنّهم مصلحون، وهمُ المفسدون.. لذا اقتضى الأمر أن يُعرَّفوا للأمّة ويُفضَحُوا، وتُكسَرَ شوكتهم ويُكشَف تاريخهم.
وهذا هو ما كان من موقف أهل البيت عليهم السّلام معهم ـ ومنهم سيّد شباب أهل الجنّة الإمام أبي عبدالله الحسين صلوات الله عليه. لتعرف الأمّة مَن تسلّط على الرقاب غصباً وظلماً في غفلةٍ وتهاونٍ فيها، حتّى دُفِع أهل البيت سلام الله عليهم عن مَقامهم وأُزيلوا عن مراتبهمُ التي رتّبهمُ الله فيها، بل وحتّى قُتلوا بعد أن ظُلِموا، وكان من الأمّة الخاطئة تمهيدٌ لذلك وتمكين من القتال الآثم.. وكان الأسف المرير أن تزعّم أقزام الأمّة وحُثالاتها وَنِكراتها وأهل الجاهليّة الأُولى، ثمّ جاراهم الناس وما شاهم، وتخلّفوا عمّن أوصى بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله في عشرات، بل مئات.. من أحاديثه الشريفة المتواترة، فيقف أمير المؤمنين عليه السّلام يوبّخ العاصين له المتفرّقين عنه فيقول لهم في إحدى خُطَبه:
للهِ أنتم! أما دِينٌ يجمعُكم، ولا حَميّة تَشحَذُكم ؟! أوَ ليس عَجَباً أنّ معاوية يدعو الجُفاةَ الطَّغامَ فيتّبعونه على غير مَعُونةٍ ولا عطاء، وأنا أدعوكم ـ وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة الناس ـ إلى المعونة أو طائفةٍ من العطاء، فتَفَرّقون عنّي وتختلفون علَيّ ؟! ( إلى أن قال عليه السّلام لهم: )
قد دارَستُكمُ الكتاب، وفاتَحْتُكمُ الحِجاج، وعرّفتُكم ما أنكرتُم، وسوّغتُكم ما مَجَجْتم، لو كان الأعمى يَلْحَظ، أو النائمُ يستيقظ! وأقْرِبْ بقومٍ مِن الجهل بالله.. قائدُهم معاوية ومؤدِّبُهم ابن النابغة!! ( أي عمرو بن العاص ـ نهج البلاغة: الخطبة 180 ).
إذاً.. ماذا يُنتظر وقد تفلّتت فرصُ الإصلاح، وانجرف الكثير الأكثر في تيّار الشهوات والنزوات والرغبات الدنيويّة الدنيئة ؟! وماذا يُرجى وقد صُمّت الآذان وعَمِيَت القلوب عن سَماع الحقّ أو رؤيته ؟! وماذا بقيَ إلاّ أن يُوصَمَ المبطلون بباطلهم والأشرارُ بشرورهم، وأن يُدمَغَ المضلِّلون بخزيهم وعارهم ؟!
مع معاوية بن أبي سفيان
• في ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهرآشوب، و ( الاحتجاج على أهل اللَّجاج ) لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي: عن موسى بن عُقبة أنّه قال:
لقد قيل لمعاوية: إنّ الناس قد رَمَوا أبصارهم إلى الحسين، فلو قد أمَرْتَه يصعد المنبر فيخطب؛ فإنّ فيه حَصْراً ( أي عجزاً ) وفي لسانه كَلالَة! فقال معاوية: قد ظَنَنّا ذلك بالحسن، فلم يَزَل حتّى عَظُم في أعين الناس وفضَحَنا!
فلم يزالوا به حتّى قال معاوية للحسين عليه السّلام: يا أبا عبدالله، لو صعدتَ المنبر فخطبت. فصعد الحسين عليه السّلام المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ صلّى على النبي صلّى الله عليه وآله، فسمع رجلاً يقول: مَن هذا الذي يَخطُب ؟! فقال الحسين عليه السّلام:
نحن حزبُ الله الغالبون، وعِترةُ رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيّبون، وأحَدُ الثقلَينِ الذين جعَلَنا رسولُ الله ثانيَ كتاب الله تبارك وتعالى الذي فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه الباطلُ مِن بَينِ يَدَيه ولا مِن خَلْفِه ، والمُعَوَّل علينا في تفسيره، ولا يُبطِئُنا تأويله، بل نتّبع حقائقه.
ثمّ قال عليه السّلام: فأطيعونا؛ فإنّ طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عزّوجلّ: أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأُولي الأمرِ مِنكُم، فإنْ تَنازَعتُم في شيءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله ، وقال: ولَو رَدُّوهُ إلى الرسولِ وإلى أُولي الأمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الذينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم، ولولا فَضلُ اللهِ عليكُم ورَحمتُهُ لاَتّبعتُمُ الشيطانَ إلاّ قليلاً .
وقال عليه السّلام بعد ذلك: وأُحذّرُكمُ الإصغاءَ إلى هُتوف الشيطان بكم؛ فإنّه لكم عدوٌّ مُبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: لا غالبَ لكمُ اليومَ مِن الناسِ وإنّي جارٌ لكُم، فلمّا تَراءتِ الفِئتانِ نكَصَ على عَقِبَيهِ وقالَ إنّي بَريءٌ منكم! ، فتَلْفَون للسيوف ضرباً، وللرماح وِرداً، وللعَمَد حطماً، وللسِّهام غرضاً، ثمّ لا يُقبَلُ مِن نَفْسٍ إيمانُها لم تكنْ آمَنَتْ مِن قبلُ أو كَسَبتْ في إيمانِها خيراً!
فقال معاوية ( وكأنّه ضاق به المقام أو ضاقت به الحقائق ): حَسْبُك يا أبا عبدالله، فقد أبلغتَ!
• في ( رجال الكشّي ): رُوي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية ـ ومروان يومئذ عامل معاوية على المدينة ـ: أمّا بعد، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنّه لا يأمَن وثُوبَه، وقد بحثتُ عن ذلك فبلَغَني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولستُ آمَنُ أن يكون هذا أيضاً لِما بَعدَه، فاكتُبْ إليّ برأيك في هذا، والسلام.
فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فقد بلغني وفهمتُ ما ذكرتُ فيه مِن أمر الحسين، فإيّاك أن تَعرض للحسين في شيء، واترُكْ حسيناً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نعرض له في شيءٍ ما وفي بيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكِمنْ عنه ما لم يُبدِ لك صفحتَه، والسلام.
وكتب معاوية إلى الإمام الحسين عليه السّلام: أمّا بعد، فقد انتَهَتْ إليّ أمورٌ عنك، إن كانت حقّاً فقد أظنُّك ترَكْتَها رغبةً، فَدَعْها. ولَعَمرُ الله إنّ مَن أعطى اللهَ عهدَه وميثاقَه لَجديرٌ بالوفاء، فإن كان الذي بَلَغَني باطلاً فإنّك أنت أعزلُ الناس لذلك، وعِظْ نفسك فاذكر، وبعهدِ الله أوفِ، وأن يردّهم الله على يديك في فتنة فقد عرفت الناس وبَلَوتهم، فانظرْ لنفسك ودينك ولأمّة محمّد، ولا يستخفّنك السفهاء والذين لا يعلمون.
فلمّا وصل الكتاب إلى الإمام الحسين صلوات الله عليه كتب إلى معاوية:
أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه قد بلغك عنّي أمورٌ أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله. وأمّا ما ذكرتَ أنّه انتهى إليك عنّي؛ فإنّه إنّما رَقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنَّميم، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً. وأيمُ الله، إنّي لَخائفٌ لله في ترك ذلك، وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك وفي أولئك القاسطين الملحدين، حزبِ الظَّلَمة وأولياء الشياطين!
ـ ألستَ القاتلَ حُجْراً أخا كِنْدة، والمصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ويستعظمون البِدَع ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتَلْتَهم ظلماً وعدواناً مِن بعد ما كنتَ أعطيتَهم الأيمانَ المغلَّظة والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدُها في نفسك!
ـ أوَ لستَ قاتلَ عمرَو بن الحَمِق صاحبِ رسول الله صلّى الله عليه وآله العبدِ الصالح الذي أبلَتْه العبادةُ فنَحَل جسمُه وصفرت لونه، بعد ما آمِنتَه وأعطيته مِن عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيتَه طائراً لَنزلَ إليك من رأس الجبل، ثمّ قتَلْتَه جُرأةً على ربّك واستخفافاً بذلك العهد!
ـ أو لستَ المدّعي زيادَ ابن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمتَ أنّه ابنُ أبيك، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر.. فتركتَ سُنّة رسول الله تعمّداً، وتَبِعتَ هواك بغير هدىً من الله، ثمّ سلّطتَه على العراقَين يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ويَسمِل أعيُنَهم ويَصلبهم على جُذوع النخل، كأنّك لستَ مِن هذه الأمّة وليسوا منك!
ـ أوَ لستَ صاحبَ الحَضرميّين الذين كتب فيهم ابنُ سُميّة أنّهم كانوا على دين عليٍّ صلوات الله عليه، فكتبتَ إليه أن اقتُلْ كلَّ مَن كان على دِين عليّ، فقتَلَهم ومُثّل بهم بأمرك. ودينُ عليٍّ عليه السّلام ـ واللهِ ـ الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلستَ مجلسك، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.
وقلتَ فيما قلت: انظُرْ لنفسك ودينك ولأمّة محمّد، واتّقِ شقَّ عصا الأمّة، وأن تردّهم إلى فتنة! وإنّي لا أعلم فتنةً أعظمَ على هذه الأمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم نَظَراً لنفسي ولديني ولأمّة محمّد صلّى الله عليه وآله علينا أفضل مِن أن أُجاهدك، فإن فعلتُ فإنّه قربةٌ إلى الله، وإن تركتُه فإنّي أستغفر اللهَ لذنبي وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلتَ فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكِدْك تَكِدْني! فكِدْني ما بدا لك؛ فإنّي أرجو أن لا يَضرَّني كيدُك فيّ، وأن لا يكون على أحدٍ أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبتَ جهلك، وتحرّصتَ على نقض عهدك. ولَعْمري ما وَفِيتَ بشرط، ولقد نقضت عهدَك بقتلك هؤلاء النَّفَرَ الذين قتَلْتَهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتَلْتَهم مِن غير أن يكونوا قاتلوا وقَتَلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذِكْرِهم فضلَنا، وتعظيمِهم حقَّنا، فقتلتهم مخافةَ أمرٍ لعلّك لو لم تقتلهم متَّ قبلَ أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يُدركوا!
فأبشِرْ ـ يا معاوية ـ بالقِصاص، واستَيقِنْ بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظِّنّة، وقتلِك أولياءه على التُّهَم، ونفيِك أولياءه مِن دُورهم إلى دار الغُربة، وأخذِك الناسَ ببيعة ابنك ( وهو ) غلام حَدَث يشرب الخمرَ ويلعب بالكلاب. لا أعلَمُك إلاّ وقد خَسَرتَ نفسك وبَتَرتَ دِينَك وغَشَشتَ رعيّتَك وأخزَيتَ أمانتك، وسمعتَ مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ الوَرِعَ التقيَّ لأجلهم، والسلام.
ودخل عبدالله بن عمرو بن العاص فقال له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين ؟ قال: وما هو ؟! فأقرأه الكتاب، فقال عبدالله ( متملّقاً ) في هوى معاوية: وما يمنعك أن تُجيبَه بما يُصغّر إليه نفسه.. فضحك معاوية وقال:
ـ أمّا يزيد فقد أشار إليّ بمِثْل رأيك!
قال عبدالله: فقد أصاب يزيد. فقال معاوية:
ـ أخطأتما! أرأيتما لو أنّي ذهبتُ لعيبِ عليٍّ مُحقّاً.. ما عَسَيتُ أن أقول فيه ؟!.. وما عَسَيتُ أن أعيبَ حُسيناً ؟! وواللهِ ما أرى للعيب فيه موضعاً، وقد رأيتُ أن أكتب إليه أتوعّده وأتهدّده، ثمّ رأيت أن لا أفعلَ ولا أمحكَه ( أي: لا ألجّ معه في المنازعة ).
• في ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهرآشوب: يُقال:
دخل الحسين عليه السّلام على معاوية وعنده أعرابيّ يسأله حاجة، فأمسك معاوية وتشاغل بالحسين عليه السّلام، فقال الأعرابيّ لبعض مَن حضر: مَن هذا الذي دخل ؟ قالوا: الحسين بن عليّ. فقال الأعرابي للحسين عليه السّلام: أسألك يا ابن بنت رسول الله لَمّا كلّمتَه في حاجتي. فكلّمه الحسين عليه السّلام في ذلك فقضى حاجته، فقال الأعرابي:
أتَيـتُ العَبْشَمـيَّ فلـم يَجُدْ لـي إلـى أن هَـزَّهُ إبـنُ الـرسـولِ
هُو آبن المصطفى كرماً وجـوداً ومِـن بطـنِ المطهَّـرةِ البتـولِ
وإنّ لـهـاشـمٍ فضـلاً عليكـم كما فَضـلُ الربيع على المُحـولِ
فقال معاوية: يا أعرابيّ، أُعطيك وتمدحه ؟! فقال الأعرابيّ: يا معاوية، أعطيتَني مِن حقّه، وقضيتَ حاجتي بقوله.
مع مروان بن الحكم
• في ( مناقب آل أبي طالب ) كتب ابن شهرآشوب:
كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ـ وهو عامله على الحجاز ـ يأمره أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبدالله بن جعفر لابنه يزيد، فأتى عبدَالله بن جعفر فأخبره بذلك، فقال عبدالله: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين عليه السّلام وهو خالُها. فأخبر الحسينَ بذلك، فقال عليه السّلام: أستخير اللهَ تعالى، اللهمّ وفّقْ لهذه الجارية رضاك من آل محمّد.
فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين عليه السّلام وعنده مِن الجُلّة، وقال مروان: إنّ ( معاوية ) أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلحِ ما بين هذين الحَيَّين، مع قضاء دَينه، واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثرُ ممّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفوُ مَن لا كفوَ له، وبوجهه يُستسقى الغَمام، فرُدَّ خيراً يا أبا عبدالله!
فقال الحسين عليه السّلام: الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدِينه، واصطفانا على خَلْقه.. إلى آخر كلامه، ثمّ قال عليه السّلام:
يا مروان، قد قلتَ فسمعنا، أمّا قولك: مهرُها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ؛ فلَعَمرْي لو أردنا ذلك ما عَدَوْنا سُنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو ثنتا عشرة أُوقية يكون أربعَمائةٍ وثمانين درهماً. وأمّا قولك: مع قضاء دَين أبيها؛ فمتى كُنّ نساؤنا يَقضِينَ عنّا دُيونَنا ؟! وأمّا صلحُ ما بين هذين الحَيَّين؛ فإنّا قومٌ عادَيناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا فلعَمْري فلقد أعيا النسب، فكيف السبب ؟! وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر؛ فقد استمهر مَن هو خيرٌ من يزيد ومِن أبي يزيد ومن جَدّ يزيد! وأمّا قولك: إنّ يزيد كُفْوُ مَن لا كفوَ له؛ فمن كان كفوَه قبل اليوم فهو كفوُه اليوم، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً! وأمّا قولك: بوجهه يُستسقى الغمام؛ فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وأمّا قولك: مَن يَغبِطنا به أكثر ممّن يَغبطه بنا؛ فإنّما يغبطنا به ( أي بيزيد ) أهلُ الجهل، ويغبطه بنا أهلُ العقل.
ثمّ قال عليه السّلام ـ بعد كلام ـ: فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجتُ أمَّ كلثوم بنتَ عبدالله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمائةٍ وثمانين درهماً، وقد نَحَلتُها ضيعتي بالمدينة ـ أو قال: أرضي بالعَقيق ـ وإنّ غِلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنىً إن شاء الله.
قال الراوي: فتغيّر وجه مروان وقال: غدراً يا بني هاشم، تَأبَون إلاّ العداوة! فذكّره الإمام الحسين عليه السّلام بإحدى غدراته وما كان منه مع الإمام الحسن عليه السّلام ثمّ قال له: فأين موضع الغدر يا مروان ؟! فقال مروان:
أرَدنا صِهْـرَكُم لِنجـدَّ ودّاً قَد آخْلَقَه به حَدَثُ الزمـانِ
فلمّـا جئتُكـم فجَبِهتُمونـي وبُحتُم بالضميرِ مِن الشَّنـانِ
فأجابه ذكران مولى بني هاشم:
أماطَ اللهُ منهـم كـلَّ رجـسٍ وطهَّرَهم بذلك فـي المثانـي
فما لَهُمُ سِواهـم مِـن نظيـرٍ ولا كُفْوٌ هنـاك ولا مُـدانـي
أتجـعـلُ كـلَّ جبـارٍ عنيـدٍ إلى الأخيار مِن أهل الجِنانِ ؟!
• في ( تفسير العيّاشيّ ): عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام قال: دخل مروان بن الحكم المدينة فاستلقى على السرير ـ وثَمّ مولى للحسين عليه السّلام ـ فقال: رُدُّوا إلى اللهِ مَولاهمُ الحقِّ ألاَ له الحُكْمُ وهوَ أسرعُ الحاسبين ، فقال الإمام الحسين عليه السّلام لمولاه:
ـ ماذا قال هذا حين دخل ؟ قال:
ـ استلقى على السرير فقرأ رُدُّوا إلى الله مَولاهمُ الحقّ.. .
فقال الحسين عليه السّلام: نعم والله، رُددتُ أنا وأصحابي إلى الجنّة، ورُدَّ هو وأصحابه إلى النار!
• في ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهرآشوب و ( الاحتجاج ) لأبي منصور أحمد ابن علي الطبرسي: قال مروان بن الحكم يوماً للإمام الحسين بن علي عليه السّلام: لولا فخرُكم بفاطمة، بما كنتم تفتخرون علينا ؟! فوثب الحسين عليه السّلام، وكان عليه السّلام شديد القَبضة، فقَبَض على حَلق مروان فعصره، ولوّى عمامته على عنقه حتّى غُشي على مروان، ثم تركه، وأقبل الحسين عليه السّلام على جماعةٍ من قريش فقال:
أنشدكم بالله إلاّ صدّقتموني إن صدقت، أتعلمون أنّ في الأرض جيبَينِ كانا أحبَّ إلى رسول الله منّي ومن أخي ؟! أو على ظهر الأرض ابن بنت نبيٍّ غيري وغير أخي ؟! قالوا: لا، قال: قال علي السّلام: وإنّي لا أعلم أنّ في الأرض ملعونَ ابن ملعونٍ غير هذا وأبيه طريد رسول الله صلّى الله عليه وآله!
مع عمرو بن العاص
• في ( مناقب آل أبي طالب ) روى ابن شهرآشوب قال:
قال عمرو بن العاص للإمام الحسين عليه السّلام: ما بالُ أولادنا أكثر من أولادكم ؟! فأجابه عليه السّلام:
بُغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً وأمّ الصّقـر مِقْلاتٌ نَزُورُ
فقال عمرو: ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه إلى شواربكم ؟
فأجابه الإمام عليه السّلام: إنّ نساءكم نساء بَخِرة، فإذا دنا أحدكم من امرأته نكَهَتْه في وجهه فشاب منه شاربه!
فقال عمرو: ما بالُ لِحائِكم أوفر من لحائنا ؟
فأجابه الحسين عليه السّلام: والبلدُ الطيِّبُ يخرج نباتُه بإذنِ ربِّهِ والذي خَبُثَ لا يَخرجُ إلاّ نَكِداً .
فنادى معاوية على عمرو بن العاص: بحقّي عليك إلاّ سَكتَّ، فإنّه ابنُ عليّ بن أبي طالب. فقرأ الإمام الحسين عليه السّلام:
إنْ عادت العَقربُ عُدْنا لها وكانت النَّعلُ لها حاضـره
قد عَلِمَ العَقربُ واستيقَنَـت أنْ لا لها دُنيـا ولا آخـره
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام