شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

السجود على التربة الحسينية

0 المشاركات 00.0 / 5

السجود على التربة الحسينية

تمهيد: فيما يصحّ السجود عليه وما لا يصحّ:

1 ـ ما يصحّ السجود عليه:

يمكن تقسيم ما يصحّ السجود عليه بحسب أدلته الثابتة إلى ما يأتي:

أوّلاً: الأرض، سواء كانت تراباً أو رملاً أو حجراً أو مَدَراً أو حصىً أو طيناً، بشرط تمكين الجبهة(1)، ويدلّ عليه حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: « جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسجداً وطَهوراً » المرويّ بألفاظ متقاربة في كثير من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها(2).

وقد دلَّ الحديث بمنطوقه ومفهومه على أنّ السجود لله تعالى يكون على الأرض بصورة مطلقة، وأنّه لا يختصّ السجود منها بموضعٍ دون غيره، كما دلّ الحديث أيضاً على أنّ الأصل في الأرض هو الطهارة إلاّ ما خرج عن ذلك الأصل بدليل، كوجود عينٍ نَجِسةٍ على بُقعةٍ فيها.

ويؤيّد هذا الحديثَ أحاديثُ أُخَر تشير إلى هذا المعنى صراحةً، كأحاديث وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود(3)، أو أنّه لا صلاة لمن لا يفعل ذلك في سجوده(4).

زيادة على السُنّة الفعليّة للنبيّ صلّى الله عليه وآله، المنقولة عن جُملة من الصحابة والمؤكّدة بأنّه صلّى الله عليه وآله كان إذا سَجَد وَضعَ جبهته وطرف أنفه على الأرض، وهكذا كان يفعل كبارُ الصحابة والتابعين، حتّى أن مسروق بن الأجدَع كان إذا أبحر أخرج معه لَبِنة يسجد عليها في السفينة في أوقات الصلاة(5).

هذا، وقد دلّت جملة من الأخبار على صحّة السجود على ما ذكرناه من أنواع الأرض كالحصى والرمل، حتّى اشتكى الصحابة مِن حَرّها فلم يشكهم رسول الله صلّى الله عليه وآله، عن عبدالله بن مسعود قال: شكونا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله حرّ الرمضاء فلم يشكنا(6). مما ألجأ الصحابة إلى اتّخاذ أسلوبٍ آخر للتخلّص من صعوبة السجود ومشقّته بسبب حرارة الأرض، وهو تبريد الحصى بأكفّهم حتّى يتسنّى لهم السجود عليها. عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: كنّا نصلّي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله الظهر، فأخذتُ قبضةً من حصى في كفّي أُبرّده ثمّ أحوّله في كفّي الأخرى فإذا سجدتُ وضعته لجبهتي(7).

ثانياً: ما أنبتته الأرض أو المصنوع منه، بشرط أن لا يكون مأكولاً أو ملبوساً، وقد ورد في ذلك جُملة من الأخبار تؤكّد سجود النبيّ صلّى الله عليه وآله على الحصير والخُمْرة المصنوعة من سعف النخل (8).

ولم يرد جواز السجود على ما يُؤكَل أو يُلَبس كما يفعله أهل السنّة في سجودهم. وهو قبيح في نفسه؛ لأنّه أشبه بفعل الوثنين الذين كانوا يسجدون على تماثيل من التمر ثمّ يأكلونها!!

ولهذا ورد النهي صراحة عن السجود على القطن والكتان؛ لأنّه مما يكون لباساً(9)، وكذلك النهي عن السجود على الثمار؛ لأنّه مما يؤكل(10).

ثالثاً: الفرش والثياب في حالات الضرورة القصوى، وقد دلّت عليه جملة من أخبار الفريقين وآثارهم (11).

 

علّة السجود على الأرض ونباتها:

قال هشام بن الحكم: قلت لأبي عبدالله الصادق عليه السّلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لا يجوز.

قال عليه السّلام: « السجود لا يجوز إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض، إلاّ ما أُكل أو لُبس » فقلت له: جُعِلت فداك، ما العلّة في ذلك ؟

قال عليه السّلام: «لأنّ السجود هو الخضوع لله عزَّوجلَّ، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يُلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيدُ ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله تعالى، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها. والسجود على الأرض أفضل؛ لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزَّوجلَّ»(12).

إنّ هذا الكلام الواضح يكشف بجلاء عن أنّ السجود على التراب إنّما هو لأجل أنَّ مثل هذا العمل يتناسب مع التواضع أمام الله الواحد أكثر من أي شكل آخر، وهو الأصل كما جاء في العديد من النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام. روى محمّد بن يحى باسناده عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: « السجود على الأرض فريضة، وعلى الخمرة سُنَّة »(13).

 

2 ـ ما لا يصح السجود عليه:

وأما ما لا يصحّ السجود عليه ـ وقد مرّ بعضه ـ فأنواع كثيرة، إذ ورد النهي عنها مع التصريح بعدم صحّة السجود عليها في جُملة من الأخبار، ونذكر تلك الأنواع:

كور العمامة، والثوب والكُمّ، والقُلُنسوة(14)، والقطن والصوف وبقايا الحيوان كالعظام والجلود ونحوها، والطعام والثمار، والرياش(15) والقير والنورة(16) والذهب والفضّة(17)، والزجاج(18) والسبخة والثلج(19) ونحوها.

 

مِن فتاوى علماء الإماميّة حول موضع السجود:

لقد وردت المضامين الحديثية المتقدّمة في فتاوى فقهاء الإماميّة منذ القدم وإلى اليوم، وقد اخترنا أربعة نصوص للدلالة على أنّ الأصل في السجود هو أن يكون على الأرض.

1 ـ قال الشيخ عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي؛ الصدوق الأول ( ت 329 هـ ) في وصيّته إلى ولده أبي جعفر؛ الصدوق الثاني: اسجُد على الأرض أو على ما أنبتت الأرض، ولا تسجد على الحُصر المدنيّة؛ لأنّ سيورها من جلد، ولا تسجد على شعر ولا صوف ولا جلد ولا إبريسم ولا زجاج ولا حديد ولا صِفر ولا شبه ولا رصاص ولا نحاس ولا ريش ولا رماد.

وإن كانت الأرض حارّة تخاف على جبهتك الاحتراق، أو كانت ليلة مظلمة خفتَ عقرباً أو شوكة تؤذيك، فلا بأس أن تسجد على كُمّك إذا كان من قطن أو كتان.

وإن كان بجبهتك دمّل فاحفر حفرة، فإذا سجدتَ جعلتَ الدمّل فيها.

وإن كانت بجبهتك علّة لا تقدر على السجود من أجلها، فاسجُد على قرنك الأيمن من جبهتك، فان لم تقدر عليه فاسجُد على قرنك الأيسر من جبهتك، فإن لم تقدر عليه فاسجد لى ظهر كفّك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على ذِقنك، لقول الله عزَّوجلَّ: إنّ الذين أُوتُوا العلمَ مِن قَبلِه إذا يُتلى عليهم يخِرّون للأذقان سُجّداً.. ويزيدهم خشوعاً (20)، ولا بأس بالقيام ووضع الكفَّين والركبتَين والإبهامَين على غير الأرض وتُرغم بأنفك، ويجزيك في وضع الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين مقدار دِرهم، ويكون سجودك كما يتخوّى البعير الضامر عند بُروكه، تكون شِبه المعلّق، لا يكون شيء من جسدك على شيء منه (21).

2 ـ أبو الصلاح تقيّ الدين بن نجم الدين عبدالله الحلبي ( ت 447 هـ ): قال: لا يجوز السجود بشيء من الأعضاء السبع إلاّ على محلٍ طاهر، ويختصّ صحّة السجود بالجبهة على الأرض أو ما أنبتتْ، ممّا لا يُؤكل ولا يُلبس، فإن سجد ببعض الأعظاء على محلٍّ نجس، وبالجبهة على ما ذكرناه كالصوف والشعر والحنطة والثمار، لم تُجْزِه الصلاة(22).

3 ـ الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ( ت 460 هـ ) قال: لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يُلبس، ويحتاج أن يجمع شرطَين:

أن يكون مِلْكاً أو ما في حكم المِلْك، ويكون خالياً من نجاسة، فأمّا الوقوف على ما فيه نجاسةٌ يابسة لا تتعدّى إليه فلا بأس به، والتنزّه عنه أفضل(23).

4 ـ السيّد كاظم اليزدي قدس سره في العروة الوثقى قال: يُشتَرط مضافاً إلى طهارته ـ مسجد الجبهة من مكان المصلّي ـ أن يكون من الأرض أو ما أنبتته غير المأكول والملبوس. نعم يجوز على القِرطاس أيضاً، فلا يَصُحّ على ما خرج عن اسم الأرض، كالمعادن مثل الذهب والفضة والعقيق والفيروزج والقير والزفت ونحوهما، وكذا ما خرج عن اسم النبات، كالرماد والفحم ونحوهما، ولا على المأكول والملبوس، كالخبز والقطن والكتّان ونحوهما، ويجوز السجود على جميع الأحجار إذا لم تكن من المعادن (24).

 

تغاير مواضع السجود:

يجدر التنبيه على مسألة مهمّة في السجود، وهي هل يُشترَط في السجود أن تكون مواضع السجود السبعة المعروفة كلّها على شيء واحد يصحّ السجود عليه أو لا يُشترط ذلك ؟ وبمعنى آخر ما هو حكم السجود الذي يكون على شيء وبدن الساجد على شيء آخر ؟

والجواب باختصار: نعم، فقد وردت روايات متعددة عن أهل البيت عليهم السّلام تؤكّد على عدم اشتراط اتّحاد مواضع السجود على شيء واحد، منها ما رواه حمران عن أحدهما ـ الباقر أو الصادق عليهما السّلام ـ قال: « لا بأس بالقيام على المُصلّى من الشعر والصوف إذا كان يَسجُد على الأرض، فإن كان من نبات الأرض فلا بأس بالقيام والسجود عليه »(25).

ووردت جُملة من الفتاوى المدعومة بالأثر من طريق العامّة صريحة بصحّة هذا السجود، كما لو وضع الساجد مثلاً جبهتَه على التراب وكان جسمُه على الفراش أو الثوب أو الحصير ونحو هذا(26). فالشرط ـ إذن ـ أن يكون موضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه، ولا يضرّ فيما لو كان البدن خارجاً ولكن في مكان طاهر(27).

ومن هنا يتّضح التوافق على جواز التغاير في مواضع السجود، ويختصّ مذهب أهل البيت عليهم السّلام باشتراط وضع الجبهة على الأرض، أو ما أنبتت.

ولا خلاف أيضاً في صحّة السجود على أيّة بقعةٍ من بقاع الأرض بعد إحراز طهارتها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السجود على جبل أو سهل، أو في أرض قاحلة أو في رياض غَنّاء، وإنّما جاء تشريف بعض البقع على بعض من طريق الأثر الوارد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام الذين عصمهم الله في مُحكَم كتابه من كلّ دَنَس ورِجْس.

 

التربة الحسينية:

لقد كانت التربة الحسينيّة من تلك البقع المشرّفة التي خصّها الله بالكرامة الخاصة في جُملةٍ من الأحاديث الواردة في هذا الشأن عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام، هذا فضلاً عن أنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضل بين الأمكنة والبقاع، إذ بالاضافات والنسب تكون للأراضي والأماكن والبقاع خاصّة ومزيّة بها، تجري عليها مقرّرات كثيرة وتُنزع منها أحكام لا يجوز التعدّي والصفح عنها(28).

وأيّ مسلم لا يُفرّق بين الموضع الذي دُفن فيه أشقى الأشقياء والموضع الذي ضمّ جَدَث سيّد الرسل وخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل وأيّ عاقل في هذه الحياة لا يفرّق بين بيت الخلاء وبيت الصلاة ؟!

إذن.. فبالاضافة يتميّز المضاف ويُعرَف قَدْرُه، ومن هنا يُنتزَع للأماكن المقدسة حُكمُها الخاصّ، كبيت الله الحرام، والمسجد النبويّ، وكذا سائر المساجد والمعابد والأماكن المقدسة التي يُذكَر فيها اسمُ الله عزَّوجلَّ.

وعلى هذا.. نستطيع ـ بقاعدة الاعتبار ـ أن نُفسّر حنين الإنسان إلى مكانٍ ونفرته واشمئزازه من مكان آخر، وبهذه القاعدة أيضاً نعرف لماذا جاء جبرئيل عليه السّلام بقبضة من تراب كربلاء وأعطاها للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فشمّها وقَبّلها وفاضت عيناه بالدموع(29).

ولماذا احتفظت أُمّ سلمة بقطعة من تراب كربلاء وصَيَّرتها في قارورة(30) ؟

ولماذا كانت الزهراء عليها السّلام تأخذ من تراب قبر أبيها الطاهر وتشمّه ؟

ولماذا عملت مِسبحتها من تراب قبر( حمزة ) أسد الله وأسد رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم(31) ؟

ولماذا بكى أمير المؤمنين عليه السّلام حين مرّ بكربلاء وأخذ قبضةً من ترابها فشمّه وبكى حتّى بلَّ الأرض بدموعه وهو يقول: « يُحشَر من هذا الظَّهْر سبعون ألفاً يدخلون الجَنّة بغير حساب »(32).

ترى، أبعد هذا يُستكثَر على من يعبد الله ولا يُشرك بعبادته أحداً، أن يَسجُد لله على تُربة قتيل الله وابن قتيله، وحبيب الله وابن حبيبه، والداعي إليه والدالِّ عليه والناهض به والباذل دون سبيله أهلَه ونفسه ونفيسه، والواضع دم مُهجته في كفّه تجاه إعلاء كلمته ونشر توحيده وتوطيد طريقه وسبيله « فما لَكُم كيف تَحْكُمون؟! ».

ومن هنا قال عبّاس محمود العقّاد عن أرض الحسين كربلاء المقدسة: فهي اليوم حَرَمٌ يزوره المسلمون للعِبرة والذكرى، ويزوره غيرُ المسلمين للنظرة والمشاهدة، ولكنها لو أُعطيت حقّها من التنويه والتخليد، لحقَّ لها أن تصبح مَزاراً لكلّ آدمّي يعرف لبني نوعه نصيباً من القَداسة وحظّاً من الفضيلة، لأننا لا نَذكُر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمُها بجُملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين عليه السّلام فيها(33).

وبغضّ النظر عمّا في تلك التربة من شرف معنويّ، باعتبارها مُذكِّراً ومُنبّهاً على آيات الصمود الحقّ بوجه الطاغوت، وما فعله آلُ الله من إيثار الحقّ على مُهجهم وما جناه آل الشيطان على أنفسهم، فإنّ تلك التربة لم تكن في الواقع سوى قطعة من تراب طاهر، والمناقشة في صحّة السجود عليها كالمناقشة في صحّة السجود على أيّ ترابٍ طاهر، لكونهما من جِنسٍ واحد، إذ لم تكن تربة الحسين عليه السّلام معدناً ـ وإن كانت في واقع الحال أعزّ على قلوب المؤمنين من الذهب الابريز ـ بل هي من جُملة التراب الطاهر الذي جعله الله تعالى مَسجداً وطَهوراً.

على أنّ المناقشة في صحّة السجود عليها لم نجد لها أثراً قبل بروز الانحراف في الفكر والعقيدة الذي تزعّمه بعضُ من تمرّنوا على قبول الجهل بشكل عجيب، واعتادوا الكذبَ الصريح بشكلٍ أعجب من الذين قُدِّر لهم أن يكونوا دُعاةً لترويج الباطل وقُدِّر لدعوتهم أن يكون لها أنصار وأتباع(34).

وفي الواقع أنّ معظم صيحاتها المحمومة، من قبيل كذبهم على المسلمين بأنّ الشيعة تُبيح لأنفسها السجود على الصنم! ـ يعنون بذلك السجود على التربة الحسينية ـ قد ارتدّت بحمد الله تعالى إلى نحورهم بعد أن عرف المسلمون حقيقة الأمر وواقعه، وأدرك الكثيرون منهم أنّ الأفواه التي أطلقت تلك الصيحة هي نفس الأفواه العَفِنة التي كفّرت أهل التوحيد في كلّ مكان بعد أن ابتدعتْ لها مذهباً ضالاًّ مضِلاً يُنكِر على المسلمين توسُّلهم بحبيب الله وصفوته من خلقه، ويُبدع عليهم زيارة قبره المطهّر صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أنّ الثابت بالدليل القاطع هو أنّ حرمة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ميّتاً كحُرمته حيّاً.

ومن هنا أقام المسلمون بشتى مذاهبهم الدليل تِلو الدليل على أنّ الفم الذي يُطلق التكفير عليهم كيفما شاء، إنّما هو من القذارة بمكانٍ لا يستحقّ معه الجواب أو العتاب، ولولا مخافة أن ينخدع الغِرُّ السليم بتلك الأكاذيب والأراجيف التي ما أنزل الله بها من سُلطان، لما ضمّ هذا الفضل زمان أو مكان(35).

وقد ارتأينا أن يكون الحديث فيه موزّعاً على الفقرات الآتية:

 

أولاً: تاريخ السجود على التربة الحسينيّة

تقدّم آنِفاً ما يُشير إلى أن شرف المكان إنّما هو بشرف المكين، وكدليل على ذلك ـ نقتبسه من عصر صدر الإسلام ـ هو ما جرى على آل البيت عليهم السّلام وعموم المسلمين بعد استشهاد أسد الله وأسد رسوله حمزة عليه السّلام عمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد أمر النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نساءَ المسلمين بالنياحة عليه، ثمّ بلغ أمرُ المسلمين في تكريم حمزة عليه السّلام بعد استشهاده ـ وعلى مرأى من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعِلمه ـ أن عملوا المسبحات من تربته، وكان أوّل من عَمِل ذلك سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام، ثمّ اقتدى بها المسلمون، واستمرّ ذلك إلى أن استُشهد الإمام الحسين عليه السّلام فعُدِل بالأمر إلى تربته الشريفة، وقد جاء التصريح بهذا عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: « إنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت سبحتها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت عليها السّلام تُديرها بيدها تُكبّر وتُسبّح، حتّى قُتِل حمزة بن عبدالمطلب، فاستعملت تربتَه، وعُملت التسابيح فاستعملها الناس، فلمّا قُتل الحسين عليه السّلام عُدل بالأمر إليه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزيّة »(36).

وأما عن أهل البيت عليهم السّلام فقد ثبت سجودُهم لله على تربة السبط الزكي الطاهر، فإنّ أوّل من بادر إلى استخدام التربة الحسينية والسجود عليها هو ابنه الإمام عليّ بن الحسين زَين العابدين عليه السّلام (37) الذي وصلت إليه الإمامة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام، فبعد أن دفن الإمام السجاد عليه السّلام أباه وأهلَ بيته وأنصاره، أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف، فشدّ تلك التربة في صرّة وعمل منها سجّادة ومسبحة.

ولما رجع الإمام السجاد عليه السّلام هو وأهل بيته إلى المدينة، صار يتبرّك بتلك التربة ويسجد عليها، فأول من صلّى على هذه التربة واستعملها هو الإمام زين العابدين عليه السّلام(38). ثم تلاه ولده الإمام محمّد الباقر عليه السّلام فبالغ في حثّ أصحابه عليها ونشر فضائلها وبركاتها، ثمّ زاد على ذلك ولده الإمام جعفر الصادق عليه السّلام فإنّه نوّه بها لشيعته، كما وقد التزم الإمام عليه السّلام ولازم السجود عليها بنفسه(39).

وكان للإمام الصادق عليه السّلام خريطة من ديباج صفراء فيها من تراب أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، وكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه لله عزَّوجلَّ، كما أنّ المرويّ عنه عليه السّلام أنّه كان لا يسجد إلاّ على تربة الحسين عليه السّلام تذلّلاً لله واستكانةً إليه، ولم تزل الأئمّة من أولاده تحرّك العواطف وتحفّز الهمم وتوفّر الدواعي إلى السجود عليها والالتزام بها وتبيّن تضاعف الأجر والثواب في التبرّك بها والمواظبة عليها حتّى التزمت الشيعةُ إلى اليوم هذا الالتزام مع عظيم الاهتمام، ولم يمضِ على زمن الإمام الصادق عليه السّلام قَرنٌ واحد حتّى صارت الشيعة تجعل منها ألواحاً وتضعها في جيوبها كما هو المتعارف اليوم(40).

وفي جوابات الإمام المهدي عجل الله فرجه لمحمد بن عبدالله بن جعفر الحميري، وقد سأله عن السجود على لوح من طين القبر الشريف ـ أي التربة الحسينية ـ فأجاب عليه السّلام: « يجوز ذلك وفيه الفَضل »(41).

 

ثانياً: الالتزام بالسجود على التربة الحسينية

التزام الشيعة الإماميّة بالسجود على التربة الحسينية لا يعني اعتقادهم بعدم صحّة السجود إلاّ على التربة الحسينية، إذ لا وجود لهذا القول عند فقهائهم أجمع، بل لا توجد رواية واحدة في الحديث الشيعي تحصر السجود بالتربة الحسينية، نعم وردت روايات كثيرة متواترة عن أهل البيت عليهم السّلام في بَيان فضل التربة الحسينية. وطهارتها واستحباب السجود عليها، مع كَونها أسلم من غيرها من جهة النظافة والنزاهة المؤكّدة فيها ونحو ذلك من المُسوِّغات المشروعة والتي يمكن إجمالها بالنقاط الآتية:

1 ـ اطمئنان الساجد على التربة الحسينية بأنّه يسجد لله على قطعة طاهرة من الأرض لا تختلف عن غيرها من تراب الأرض إلاّ من الناحية المعنويّة.

2 ـ التأسّي بأهل البيت عليهم السّلام من جهة الاقتداء بأفعالهم في السجود على التربة الحسينية، وبأقوالهم الثابتة في الحثّ على السجود عليها أيضاً.

3 ـ صِلة التربة الحسينيّة بالمعاني الروحيّة الرفيعة التي نَدَب الإسلامُ إليها، فهي تُذكّر بالتضحية والصمود من أجل العقيدة والتفاني المنقطع النظير من أجل إعلاء كلمة الحقّ وإزهاق الباطل.

وما أجمل بالمصلي أن يتوجّه لله عزَّوجلَّ بقلبٍ خالص من الرياء، ويتذكّر ما صنعه الحسين عليه السّلام في عاشوراء من أجل الدفاع عن الإسلام وتحطيم هياكل الجَور والفساد والظلم والاستبداد، مُجدّداً العهد مع الله عزَّوجلّ ـ وهو واضعٌ جبهتَه على تراب الحسين عليه السلام ـ بأنّه سيمضي في طريقه ولا يخشى في الله لومة لائم.

 

ثالثاً: السِرّ في تقبيل التربة الحسينيّة

وأما تقبيل التربة الحسينيّة فهو اقتداء بما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ ثبت من طرق العامّة ـ كما رواه جمعٌ من حُفّاظهم ـ بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا جاءه جبرئيل عليه السّلام بقبضةٍ من تراب كربلاء، شمّها وقبّلها وأخذ يُقلّبها بحُزنٍ بالغ، حتّى قالت له أُمّ سلمة: ما هذه التربة يا رسول الله ؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « أخبرني جبرئيل أنّ ابني هذا ـ يعني الحسين عليه السّلام ـ يُقتل بأرض العراق، فقلت لجبرائيل: أرِني تُربة الأرض التي يُقتَل بها، فهذه تربتها » (42).

وفي رواية أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أمَّ سلمة بحفظها قائلاً: «هذه التربة التي يُقتل عليها ـ يعني الحسين ـ ضعيها عندكِ، فإذا صارتْ دماً فقد قُتل حبيبي الحسين».

وفي الأخرى عن أبي وائل شقيق أُمّ سلمة: ثمّ قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « وديعة عندك هذه ـ فشمّها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: ويحَ كَربٍ وبلاء !».

ثمّ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « يا أُمّ سلمة، إذا تحوّلت هذه التربة دماً، فاعلمي أنّ ابني قد قُتل ».

قال أبو وائل: فجعلتْها أُمُّ سلمة في قارورة، ثمّ جعلتْ تنظر إليها كلَّ يوم وتقول: إنّ يوماً تُحوَّلين دماً لَيومٌ عظيم(43).

فالشيعة يقبّلونها كما قبّلها النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويشمّونها كما شمّها كأغلى العطور وأثمنها، ويَدَّخرونها كما ادّخرها، ويسكبون عليها الدموع كما سكب عليها دمعه اقتفاءً لأثره صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّباعاً لسُنّة الله وسُنّة رسوله وأهل بيته عليهم السّلام، ولكلِّ مسلم في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أُسوة حسنة. وآهاً لها من تُربة سَكَب عليها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دمعَه قبل أن يهراق فيها دم مُهجته وحبيبه !

ولا شك في أنّ الاقتداء بسُنّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الواجبات الثابتة عند جميع المسلمين بلا خلاف، قال تعالى: لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حَسَنة (44).

ورُوي أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا نزل كربلاء في مسيره إلى صفين، وقف هناك ونظر إلى مصارع أهله وذُرّيته وشيعته ومسفك دماء مُهجته وثمرة قلبه، فأخذ من تربتها وشمّها قائلاً: « واهاً لكِ أيتُها التربة، لَيُحشرنّ منك أقوامٌ يَدخلُون الجَنّة بغير حساب. ثم قال: طُوبى لك من تربة عليك تهراق دماءُ الأحبّة »(45).

بل وحتّى لو لم يرد في ذلك شيء عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وعِترته المعصومين عليهم السّلام، فلا ضَير في تقبيل التربة الحسينيّة أصلاً، وأيّ محذور في تقبيل شيءٍ يُذكّرك بمُثُل الإسلام العليا وقِيَمه الراقية التي تجسّدت في شخص الإمام الحسين عليه السّلام.

على أن تقبيل التربة الحسينيّة ليس للتربة ذاتها، وإنّما لإضافتها إلى الإمام الحسين عليه السّلام الذي تكمُن في اسمه كلُّ فضيلةٍ، مع ما توحيه تلك التربة لكلّ غيور على الإسلام من ضرورة الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حياض العقيدة مع نصرة الحقّ أينما كان.

نعم، لو لم يَرِد في تقبيلها شيءٌ من السُنّة لكان أصل التقبيل محبّباً عقلاً، لأنّه التعبير الصادق عن الوفاء والحب، فيكون من قبيل قولهم:

أمرُّ على الديـارِ ديارِ لَيلى                 أُقَبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حُبُّ الديار شَغَفْنَ قلبي                ولكنْ حبُّ مَن سَكَن الديارا

رابعاً: حكم السجود على التربة الحسينية

بعد ثبوت سيرة الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام ـ ابتداءً من الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام وانتهاءً بالإمام المهدي عليه السّلام ـ في السجود على التربة الحسينية بما ليس فيه أدنى مجال للشكّ، وبعد ثبوت كوْن السجود على مُطلق الأرض هو الفرض النازل من الله تعالى على عباده والمؤكَّد بسنُة نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. سيتّضح أنّ السجود على التربة الحسينية ليس فرضاً، وإنّما من المستحبّات الأكيدة، وهذا هو ما يقوله جميع الشيعة بلا استثناء اقتداءً بأهل البيت عليهم السّلام، ولهذا تراهم يسجدون على التربة الحسينية كما يسجدون على غيرها مما صحّ السجود عليه، كالتراب والرمل والحصى أو مما أنبتت الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس.

ومع هذه الحقيقة قد ذهب المتطرفون من خصوم الشيعة إلى القول بأن الشيعة لا تجيز السجود على غير التربة الحسينيّة، بل وصفوا سجودهم على التربة الحسينية بالسجود لغير الله، بل لم يُفرقوا ـ جهلاً ـ بين السجود على الشيء وبين السجود للشيء، إذ لو جاز أن يقال إنّ الشيعة تسجد للتربة الحسينيّة لجاز القول بأنّ العامّة تسجد للأرض، أي تسجد لما هو أدنى وأقلّ منزلة من التربة الحسينية، لثبوت شرف التربة الحسينية على غيرها من الأرض. هذا في الوقت الذي نجد فيه تصريح جميع فقهاء الشيعة بأنّه يَحرمُ السجود لغير الله، أنّ من يفعل ذلك فقد كفر وخرج عن دين الإسلام؛ لأنّ السجود عبادة، فلا تصحّ لأحد سواه تعالى مهما كان نبيّاً أو وصيّاً.

قال الشيخ عبدالحسين الأميني رحمه الله: وليس اتّخاذ تربة كربلاء لدى الشيعة من الفرض المحتّم، ولا من واجب الشرع والدين، ولا ممّا ألزمه المذهب، ولا يفرّق أيّ أحد منهم ـ منذ أوّل يوم ـ بينها وبين غيرها من تراب الأرض في جواز السجود عليه، خلافاً لما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم، وإنْ هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ لما هو أولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار وحسب.

وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء مما يصحّ السجود عليه، كحصير طاهر نظيف يُوثَق بطهارته، أو خُمرة مثله ويسجدون عليها في صلواتهم(46).

 

فتاوى فقهاء الشيعة بالسجود على التربة الحسينية

1 ـ الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبدالعزيز الديلمي المقلّب بـ « سلار » (ت 462 هـ) قال: لا صلاة إلاّ على الأرض أو ما أنبتته ما لم يكن ثمراً أو كَثراً (47) أو كسوة، فلهذا لا تجوز الصلاة على القطن والكتان، وإنّما يُصلّى على البواري والحصر.. وما يستحبّ السجود عليه، وهو الألواح من التربة الحسينيّة المقدّسة...(48).

2 ـ عماد الدين أبو جعفر محمّد بن علي بن حمزة الطوسي «المعروف بابن حمزة»، قال: الأرض كلّها مسجد يجوز السجود عليها وعلى كلّ ما يَنبُت منها ممّا لا يؤكل ولا يُلبس بالعادة، إلاّ الحُصُر المعمولة بالسيور الظاهرة، إذا اجتمع فيه شرطان: المُلك أو حُكمه وكَوْنه خالياً من النجاسة. ويستحبّ السجود على الألواح من التربة ـ الحسينية ـ وخشب قبور الأئمّة عليهم السّلام إن وَجَد ( المصلّي ) ولم يَتّقِِ(49).

3 ـ الشيخ أبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي ( ت 689 أو 690 هـ )، قال: ولا يجوز السجود بالجبهة إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض، إلاّ ما أُكل أو لُبس، ويعتبر فيه وفي الثياب. والمكان أن يكون مملوكاً أو مأذوناً فيه ويكون طاهراً... والسُنّة: السجود على الأرض للخبر، وما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف... وسجد ما وقع منه على الأرض أجزأه، وعن أهل البيت عليهم السّلام « الناس عبيد ما يأكلون ويلبسون، فأحبّ أن يُسجد له على ما لا يعبدونه » ويستحبّ السجود على التربة الحسينيّة، والله أعلم(50).

4 ـ الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني ( ت 1091 هـ )، قال: .. واهْوِ للسجود بخُضوع وخُشوع، متلقّياً إلى الأرض بكفيك قبل رُكبتَيك، وتجنح في سُجودك بيديك، باسطاً كفّيك، مَضمومتَي الأصابع حيال منكبَيك ووجهك، غير واضع شيئاً من جسدك على شيء منه، مُمكّناً جبهتك من الأرض، وأفضلها التربة الحسينية ـ على صاحبها أفضل التسليمات ـ جاعلاً أنفك ثامن مساجدك السبعة، مُرغماً به، ناظراً إلى طرفه(51).

5 ـ قال السيّد كاظم اليزدي في العروة الوثقى ما نصّه: السجود على الأرض أفضل من النبات والقرطاس، ولا يَبعُد كَوْن التراب أفضل من الحجر. وأفضل من الجميع التربة الحسينية، فإنّها تخرق الحُجُب السبع، وتستنير إلى الأرضين السبع(52).

6 ـ قال الإمام روح الله الموسوي الخميني قدس سره: يُعتبر في مسجد الجبهة ـ مع الاختيار ـ كَوْنه أرضاً أو قرطاساً، والأفضل التربة الحسينية، وهي تحمل ذكرى الإمام الحسين الشهيد عليه السّلام (53).

7 ـ السيّد علي الحسيني السيستاني: قال: يُعتبر في مسجد الجبهة أن يكون من الأرض أو إنباتها، غير ما يؤكل أو يُلبس، فلا يجوز السجود على الحنطة والشعير والقطن ونحو ذلك.

ويجوز السجود اختياراً على القرطاس المتّخَذ من الخشب، وكذا المتّخذ من القطن أو الكتان على الأظهر، دون المتّخذ من الحرير والصوف ونحوهما على الأحوط.

والسجود على الأرض أفضل من السجود على غيرها، والسجود على التراب أفضل من السجود على غيره، وأفضل من الجميع ( السجود ) التربة الحسينية على مشرّفها آلاف التحية والسلام(54).

 

خامساً: آثار وفوائد التربة الحسينية والسجود عليها

للتربة الحسينيّة المباركة شرف عظيم ومنزلة رفيعة، كما أكّدت عليها الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام، فهي:

 

1 ـ شفاء من كلّ داء، وأمان من كلِّ خوف:

فقد ثبت أنّ للتربة الحسينية أثراً في علاج الكثير من الأمراض التي تعسّر شفاؤها بواسطة العقاقير الطبية، وقد جرّب الكثير من محبّي الإمام الحسين عليه السّلام ونالوا الشفاء ببركة صاحب التربة المقدّسة.

روى محمد بن مسلم عن الإمامَين الباقر والصادق عليهما السّلام من أنّ للإمام الحسين عليه السّلام ثلاث فضائل مميّزات ينفرد بها عن غيره من جميع الخلق، مع ما له من الفضائل الأُخرى التي يصعب عدّها، قال عليه السّلام: «... أنْ جَعَل الإمامةَ في ذُرّيته، والشفاءَ في تُربته، وإجابةَ الدعاء عِندَ قبره...» (55).

وقال الإمام الصادق عليه السّلام: « في طين قبر الحسين عليه السّلام شفاءٌ من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر »(56).

عِلماً أنّ الأخبار تظافرتْ بحُرمة أكل الطين، إلاّ من تربة قبر الإمام الحسين عليه السّلام بآداب مخصوصة وبمقدار معين، وهو أن يكون أقلّ من حِمّصة، وأن يكون أخْذها من القبر بكيفيّة خاصّة وأدعية معيّنة(57).

وروي أنّه لما ورد الإمام الصادق عليه السّلام إلى العراق، اجتمع إليه الناس فقالوا: يا مولانا! تُربة قبر مولانا الحسين شفاء من كلِّ داء، وهل هي أمان من كلِّ خوف ؟ فقال عليه السّلام: « نعم، إذا أراد أحدكم أن تكون أماناً من كلِّ خوفٍ، فليأخذ السبحة من تربته، ويدعو دعاء ليلة المبيت على الفراش ثلاث مرات. وهو « أمسيتُ اللهمَّ معتصماً بذِمامك المنيع الذي لا يُطاوَل ولا يُحاول، من شرِّ كلِّ غاشم وطارق، ومن سائر مَن خلقتَ وما خلقتَ مِن خلقِك الصامت والناطق، من كلِّ مخوف، بلباس سابغة حصينة: ولاء أهل بيت نبيك عليهم السّلام، مُحتجباً من كلِّ قاصد لي إلى أذيّة بجدارٍ حصين: الاخلاص في الاعتراف بحقّهم والتمسّك بحبلهم، موقناً أنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم وبهم، أُوالي من والَوا، وأُجانب من جانبوا.

فصلِّ على محمّد وآل محمّد وأعِذني اللهمَّ بهم من شرِّ كلّ ما أتّقيه، يا عظيم حجزت الأعادي عنّي ببديع السماوات والأرض « وجَعَلْنا مِن بين أيديهم سَدّاً ومِن خَلْفِهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يُبصِرون ».

ثمّ يقبّل السبحة ويضعها على عينيه، ويقول: اللهمَّ إنّي أسألك بحقّ هذه التربة، وبحقّ صاحبها، وبحقّ جدِّه وأبيه، وبحقّ أُمّه وأخيه، وبحقِّ ولده الطاهرين، اجعلْها شفاءً من كلِّ داء، وأماناً من كلِّ خَوف، وحِفظاً من كلِّ سُوء. ثمّ يضعها في جيبه.

فإن فَعَل ذلك في الغدوة فلا يزال في أمان حتّى العشاء، وإن فعل ذلك في العشاء فلا يزال في أمان الله حتّى الغدوة »(58).

وروي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه ما كان يبعث إلى أحدٍ شيئاً من الثياب أو غيره إلاّ ويجعل فيه الطين ـ يعني طين قبر الحسين عليه السّلام ـ وكان يقول عليه السّلام: « هو أمانٌ بإذن الله »(59).

 

2 ـ اتّخاذها مِسبَحة:

والملاحظ أنّ أهل البيت عليهم السّلام كانوا يُوصون شيعتهم بضرورة الاحتفاظ بمسحبة من طين قبر الإمام الحسين عليه السّلام واعتبارها أحد الأشياء الأربعة التي لابدَّ وأن تُرافق المؤمن في حِلِّه وترحاله، قال الإمام الصادق عليه السّلام: « لا يستغني شيعتُنا عن أربع: خُمرةٍ يصلي عليها، وخاتمٍ يتختّم به، وسواكٍ يَستاك به، وسبحة من طين قبر الحسين عليه السّلام »(60).

وفي معرض بيان ثواب التسبيح بمسبحة مصنوعة من طين قبر الإمام الحسين عليه السّلام بالاستغفار والذِّكر ما لا ينبغي الغفلة عنه؛ لعظمة ما يترتب عليه من فوائد وآثار، رُوي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «مَن أدار سبحةً من تُربة الحسين عليه السّلام مرّة واحدة بالاستغفار أو غيره، كتب اللهُ له سبعين مرة...»(61).

وروي عنه عليه السّلام أنّه قال: « ومَن كان معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السّلام كُتِب مُسبِّحاً وإن لم يُسبّح بها... »(62).

 

3 ـ السجود عليها يخرق الحُجُب السبعة:

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: « إنّ السجود على تربة أبي عبدالله ـ الحسين ـ عليه السّلام يخرق الحُجُب السبعة »(63).

وقد علّق الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء على هذا الحديث بقوله: ولعلَّ المراد بالحُجُب السبعة هي الحاءات السبعة من الرذائل التي تحجب النفس عن الاستضاءة بأنوار الحق، وهي: ( الحِقد، الحَسَد، الحِرص، الحِدّة، الحَماقة، الحيلة، الحقارة ).

فالسجود على التربة من عظيم التواضع، والتوسّل بأصفياء الحقّ يمزّقها ويحرقها ويبدلها بالحاءات السبع من الفضائل، وهي: الحِكمة، الحَزم، الحِلم، الحَنان، الحَصانة، الحَياء، الحُبّ(64).

 

4 ـ السجود عليها ينوّر الأرضين السبع:

قال الإمام الصادق عليه السّلام: « السجود على طين قبر الحسين عليه السّلام ينوّر إلى الأرض السابعة »(65).

---------------------------

1 ـ لأن السجود هو وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه، ومع عدم التمكّن لا يصدق الوضع، بل يكون عن مجرد المسّ.

2 ـ أُنظر: صحيح البخاري 91:1 ـ باب التيمم، مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت. وصحيح مسلم 370:1 ـ 371 حديث 3 ـ 5. كتاب المساجد ومواضع الصلاة، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار الكتب العلمية ـ بيروت. وسنن أبي داود 132:1 ـ 133 حديث 492، باب في المواضع التي لا يجوز فيها الصلاة.

3 ـ الكافي، للكلينيّ 333:2 حديث 2، باب وضع الجبهة على الأرض. والاستبصار، للشيخ الطوسيّ 337:1 حديث 4، باب السجود على الجبهة. وصحيح البخاري 206:1، باب السجود على الأنف، كتاب الصلاة.

4 ـ أُنظر: سنن الدارقطني 273:2 ـ 274 حديث 1302 و 1305، الباب 42 وجوب وضع الجبهة على الأنف، كتاب الصلاة، دار الفكر ـ بيروت 1414 هـ.

5 ـ الطبقات الكبرى، لإبن سعد 141:6 حديث 1977 في ترجمة مسروق بن الأجدع، تحقيق محمد عبدالقادر عطاء، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1410 هـ ط 1.

6 ـ راجع: صحيح مسلم 433:1 حديث 189 و 190 و 191، الباب 33 استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.

7 ـ السنن الكبرى، للنسائيّ 227:1 حديث 668، الباب 6 تبريد الحصى للسجود عليه، كتاب التطبيق. والسنن الكبرى، للبيهقي 441:2 حديث 2723، باب من بسط ثوباً فسجد عليه، كتاب الصلاة.

8 ـ صحيح البخاري 90:1 آخر كتاب الحيض، و 106:1 باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد، و 106 ـ 107 باب الصلاة على الحصير، و 107 باب الصلاة على الخُمرة. والخُمرة: هي حصير صغير قدر ما يَسجَد عليه، يُعمَل من سعف النخل ويُزمّل بالخيوط.

9 ـ الكافي، للكلينيّ 330:3 حديث 1، باب ما يسجد عليه وما يكره.

10 ـ من لا يحضره الفقيه، للصدوق 174:1 حديث 3، الباب 40.

11 ـ اُنظر: الاستبصار، للشيخ الطوسي 332:1 حديث 8 ـ 12، الباب 188، دار الأضواء ـ بيروت 1406 هـ ط 3. وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 414:1.

12 ـ من لا يحضره الفقيه 177:1 حديث 1، الباب 41. وعلل الشرائع، للصدوق 341 حديث 1، الباب 42.

13 ـ الكافي 331:3 حديث 8، باب ما يسجد عليه وما يكره.

14 ـ الكافي 334:3 حديث 9، باب وضع الجبهة على الأرض. ومن لا يحضره الفقيه 176:1 حديث 10، الباب 40، ما يُسجَد عليه وما لا يسجد عليه.

15 ـ الكافي 330:3 حديث 2، باب ما يسجد عليه وما يكره.

16 ـ الكافي 331:3 حديث 6، باب ما يسجد عليه وما يكره.

17 ـ الكافي 332:3 حديث 9، باب ما يسجد عليه وما يكره.

18 ـ الكافي 332:3 حديث 14، باب ما يسجد عليه وما يكره. وعلل الشرائع،للشيخ الصدوق 342 حديث 5، الباب 42.

19 ـ الاستبصار 335:1 ـ 336 حديث 1، الباب 192 السجود على الثلج، وهناك جملة من الروايات تجوّز السجود على الثلج عند الضرورة القصوى كما لو كانت الأرض مغطاة بالثلج.

20 ـ سورة الإسراء: 107 ـ 109.

21 ـ من لا يحضره الفقيه 174:1 ـ 175 حديث 827، الباب 40. ويتخوى الرجل: يُجافي بطنَه الأرض في سجوده، بأن يجنح بمرفقيه ويرفعهما عن الأرض ولا يفترشهما افتراش الأسد.

22 ـ الكافي في الفقه، للحلبي، سلسلة الينابيع الفقهية 272:3، كتاب الصلاة.

23 ـ الجمل والعقود، للشيخ الطوسي، سلسلة الينابيع الفقهية 352:3، فصل في ذكر ما يسجد عليه، كتاب الصلاة.

24 ـ العروة الوثقى، للسيد كاظم اليزدي 425:1 ـ 426، فصل في مسجد الجبهة من مكان المصلي، كتاب الصلاة، تحقيق ونشر مدينة العلم قم 1414 هـ ط 1.

25 ـ الاستبصار 335:1 حديث 2، الباب 119 السجود على شيء ليس عليه سائر البدن، كتاب الصلاة.

26 ـ اُنظر: المدوَّنة الكبرى 75:1. ومصنَّف عبدالرزاق 392:1 حديث 1529، باب الصلاة على الصفا والتراب. وفتح الباري 413:1.

27 ـ تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي 273:1.

28 ـ راجع: السجود علي التربة الحسينية عند الشيعة الإمامية، للشيخ عبدالحسين الأميني 55 ـ 56.

29 ـ المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري 194:3 حديث 4818، وفي طبعة 176:3 ـ 177 فضائل أبي عبدالله الحسين بن عليّ الشهيد عليه السّلام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه، و 439:4 ـ 440 حديث 8201، كتاب تعبير الرؤيا.

30 ـ مسند أحمد 242:4. ومقتل الحسين، للخوارزمي 231:1 حديث 1 و 234 حديث 6.

31 ـ وسائل الشيعة، للحر العاملي 455:6 حديث 8427، الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه. ومستدرك وسائل الشيعة، للميرزا النوري 12:4 حديث 4056، الباب 9 من أبواب ما يسجد عليه.

32 ـ تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسيّ 72:6 ـ 73 حديث 138، الباب 22. وكامل الزيارات، لابن قولويه 452 ـ 454 حديث 686، الباب 88.

33 ـ أبو الشهداء، للعقّاد 145.

34 ـ أُنظر: شبهات حول الشيعة، للسيّد عباس الموسوي 61 ـ 62، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت 1400 هـ.

35 ـ أُنظر: الأرض والتربة الحسينية، للشيخ كاشف الغطاء 29.

36 ـ مستدرك الوسائل 12:4 حديث 4056، الباب 9 من أبواب ما يسجد عليه. وانظر: وسائل الشيعة 55:6 حديث 8427، الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

37 ـ كتاب الإمام زين العابدين، لعبدالرزّاق المقرّم: 225. وانظر مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 251:2.

38 ـ بحار الأنوار، للمجلسي 136:101 حديث 78 عن دعوات الراوندي.

39 ـ الأرض والتربة الحسينية، للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 31 ـ 32.

40 ـ الأرض والتربة الحسينية 32.

41 ـ بحار الأنوار 135:101 حديث 74. ووسائل الشيعة، للحرّ العامليّ 608:3.

42 ـ المعجم الكبير، للطبراني 108:3 ـ 110 حديث 2817 و 2818 و 2819 و 2820 و 2821. والمستدرك على الصحيحين 440:4 حديث 8202 كتاب، تعبير الرؤيا، وفي طبعة 498:4 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

43 ـ المعجم الكبير، للطبراني 124:1 حديث 51 ـ 54. ومقتل الحسين، للخوارزمي 231:1 حديث 1 و 6.

44 ـ سورة الأحزاب: 20.

45 ـ تهذيب الأحكام 72:6 ـ 73 حديث 138، الباب 22. وكامل الزيارات 453 ـ 454 حديث 686، الباب 88. وبحار الأنوار 253:44 و 255 و 258. ومجمع الزوائد 146:9 و 148 و 157.

46 ـ السجود على التربة الحسينية عند الشيعة الإمامية، للشيخ عبدالحسين الاميني 67.

47 ـ الكَثْر والكَثَر: جُمّار النخل، وهو شحمه الذي في وسطه النخلة، وقيل: هو طلع النخل.

48 ـ المراسم، لسلار، سلسلة الينابيع الفقهية 368:3، باب أحكام ما يصلّى عليه، كتاب الصلاة.

49 ـ الوسيلة إلى نيل الفضيلة، لابن حمزة الطوسي، سلسلة الينابيع الفقهية 582:4، فصل في بيان ما يجوز السجود عليه، كتاب الصلاة.

50 ـ الجامع للشرائع، للشيخ ابن زكريا الهذلي، سلسلة الينابيع الفقهية 865:4، ما يسجد عليه من كتاب الصلاة.

51 ـ منهاج النجاة، للفيض الكاشاني: 68 ـ مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامية ـ طهران 1407 هـ ط 1.

52 ـ العروة الوثقى، للسيّد كاظم اليزدي 429:1 حديث 1374، المسألة 26، في مسجد الجبهة من مكان المصلي.

53 ـ زبدة الأحكام، للإمام الخميني 50 ـ 51، المسألة 9، مكان المصلي، كتاب الصلاة، منظمة الإعلام الإسلامي ـ طهران 1404 هـ.

54 ـ المسائل المنتخبة، للسيد عليّ السيستاني 131 ـ 132، الثالث من باب السجود كتاب الصلاة ، قم ط 5.

55 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى، للطبرسي 431:1.

56 ـ من لا يحضره الفقيه 362:2 حديث 1619، الباب 221، فضل تربة الحسين عليه السّلام. وتهذيب الأحكام 26:2.

57 ـ راجع: من لا يحضره الفقيه 362:2 حديث 1620، الباب السابق.

58 ـ فلاح السائل، للسيّد ابن طاووس 223 ـ 224.

59 ـ كامل الزيارات 278.

60 ـ وسائل الشيعة 603:3 و 421:10. وبحار الأنوار 132:101.

61 ـ مكارم الأخلاق، للطبرسي 302. وسائل الشيعة 456:6 حديث 8430، الباب 4.

62 ـ من لا يحضره الفقيه 174:1 حديث 725، الباب 40.

63 ـ وسائل الشيعة 608:3. وبحار الأنوار 135:101 و 153:85.

64 ـ الأرض والتربة الحسينية 32.

65 ـ من لا يحضره الفقيه 174:1 حديث 725، الباب 40، ما يسجد عليه وما لا يسجد عليه.

نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية