شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

المرأة القرآنية

0 المشاركات 00.0 / 5

المرأة القرآنية (3)

اختلاف الطاقات واختلاف الساحات

السيد مالك السماوي

كثيرا ما يثار سؤال يقول : إذا كان القرآن الكريم قد أزال الشبهتين السابقتين:

الأولى : القائلة إن حواء أصل الإغواء , فالمرأة بذلك هي مصدر الشرور والمصائب في المجتمع .

الثانية : القائلة بأن المرأة خلقت من ضلع آدم , وهي لذلك لا تملك الأصالة في التكوين.

وإذا كان القرآن قد أعلن أصالة المرأة والرجل وإنهما من نفسٍ واحدة, ومن طينةٍ واحدة, وقرر أن المرأة هي سكن ولباس للرجل كما هو سكن ولباس لها ( هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ ) , إذا كان كل ذلك قد أبدعه القرآن الكريم في النظرة الرائعة إلى المرأة . فلماذا لم يساو من خلال آياته المباركة بين الحقوق , ليعيد للمرأة حقوقها المغتصبة في عصور الجاهلية والتخلف والانحطاط , وخصوصا أن أحد الأمور التي جعلت من المشركين آنذاك يعترضون على الرسالة الإسلامية هو أنها تساوي بين الرجال والنساء, والسادة والعبيد, والبيض والسود ؟!

ولربما يثار السؤال على شكل أسئلةٍ متعددة :

 لماذا جعل القرآن ( لِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ) في الميراث ؟!

ولماذا كانت شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد ( فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجِلٌ وَامْرَأَتَانِ ) ؟!

ولماذا جعلت القوّامية للرجال دون النساء ( الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى‏ النّسَاء ... ) ؟!

ولماذا كان للرجال درجة عليهن ( وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ ) ؟!

ولماذا دعا القرآن إلى أن يكون البيت مثابة للمرأة وقرار لها دون الرجل ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ) ؟!

ولربما تنطلق الأسئلة إلى كثير من ذلك لتقول : لماذا فرض القرآن الحجاب على المرأة وأمرها بأن ْتلبس الجلباب وتغطي شعرها بالخمار, ولم يفرض ذلك على الرجال ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَى‏ جُيُوبِهِنّ ) ؟!

بل ولماذا أعطى القرآن الحق للرجل بأن يتزوج ( مّثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) ولم يمنح ذلك الحق للمرأة ؟!

ولست أدري لو سمحت الفرصة لهؤلاء لانطلقوا في إثارة الأسئلة وعلامات التعجب أكثر فأكثر ليقولوا:

لماذا كتب الله على المرأة أن تلد وتعيش آلام المخاض والولادة بينما الرجل في منأى عن ذلك كله ؟!!

لماذا لم يتبادل كل من المرأة والرجل دور الحمل والولادة ليكون الولد الأول للمرأة والثاني للرجل وهكذا ؟!!

لماذا. . ولماذا. . ولماذا ؟

إنّ هذه الأسئلة وعلامات الاستفهام قد تراود كل واحد منا سواء كان امرأة أم رجلاً . . وهي كثيراً ما تسأل تفقهاً من السائل وليس تعنتاً. . وإن من حق كل إنسان أن يسأل عن هذه الأمور إذا كانت غير واضحة لديه . . فإن السؤال من الظواهر الإيجابية في الشخصية , وهو دليل على مدى الفاعلية والتطلع إلى المعرفة , كما أنه مصدر للنمو والنضج والانفتاح . . باعتبار أن السؤال نافذة رائعة يطل من خلالها الإنسان ليتعرف على ما يجهله , ويستوضح ما خفي عنه من الأحكام والأسرار.

ولهذا فقد حرص القرآن الكريم على الاهتمام بهذه الظاهرة وأولاها أهمية بالغة , ودعا المسلمين إلى ممارستها بقوله تعالى: ( فَسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ ) وإن كان في الوقت نفسه قد دعا إلى أن نراعي دور السؤال الإيجابي النافع من خلال حسن المسألة , ولهذا نهى عن تلك الأسئلة التي لا تزيد علماً , ولا تزيل جهلاً بقوله تعالى: (.. لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ).

 الأسئلة قديمة جديدة:

ليست تلك التساؤلات جديدة في وقتنا المعاصر وإنما هي علامات استفهام انطلقت منذ صدر الإسلام الأول , وكان مصدر بعضها نساءً مؤمناتٍ مجاهدات لعبن دوراً كبيراً في نصرة الإسلام فهاجرنَ وجاهدنَ ومارسنَ الدعوة جنباً إلى جنب مع الرجال المسلمين الأوائل.

فهذه المرأة المجاهدة أسماء بنت عميس كانت من النساء القلائل اللاتي هاجرنَ إلى الحبشة بعد أن وصلت المحنة في مكة أقصى درجاتها.. ولما رجعت تلك المرأة الصابرة من الحبشة مع زوجها جعفر ابن أبي طالب (الطيار) (رضوان الله عليه) , دخلت على نساء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  فقالت بلهفةٍ: هل نزل فينا شيء من القرآن ؟!

قلن: لا. فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبةٍ وخسارة ! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( ومم ذلك ؟ )) قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال , فأنزل الله سبحانه: ( إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ وَالصّائِمِينَ وَالصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) الأحزاب /  35.

وهذه امرأة مجاهدة أخرى , أسماء بنت يزيد الأنصارية, يروى أنها جاءت إلى النبي القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بين أصحابه, فقالت: (بأبي أنت وأمي, إني وافدة النساء إليك , واعلم ـ نفسي لك الفداء ـ أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي ) .

وما أن سمع الصحابة ذلك حتى ساد الهدوء بينهم . . وكلهم آذان صاغية إلى ما تقوله هذه المرأة المؤمنة , وانطلقت أسماء في كلامها قائلة: ( إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء , فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك , وإنا معاشر النساء محصورات مقصورات , قواعد بيوتكم , ومقضى شهواتكم , وحاملات أولادكم , وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات , وعيادة المرضى , وشهود الجنائز والحج بعد الحج , وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله , وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمراً أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم , وغزلنا لكم أثوابكم , وربينا لكم ( أولادكم ) فما نشارككم من الأجر يا رسول الله ؟

وبعد أن أتمت هذه المرأة المؤمنة كلامها, التفت الرسول القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه بوجهه كله , ثم قال: (( هل سمعتم مقاله قط أحسن من مساءلتها من أمر دينها من هذه؟ )) فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا !

من هذين الموقفين من ( الاسماءَين) يتبدى لنا جيداً الأسباب التي جعلت تلك الأسئلة تنطلق قديماً وحديثاً من قبل النساء , بل وحتى الرجال, عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة التي أقرها الإسلام, بعد أن شن حربه الشرسة على كل التصورات والمفاهيم الجاهلية التي كانت سائدة حول المرأة سواء كانت حول أصلها أم دورها في المجتمع.

 بين المساواة والتشابه:

إن كل تلك الأسئلة التي راودت وتراود النساء المسلمات المؤمنات . . يكمن جوابها في أمر أساسي واحد , يعتبر بمثابة المفتاح والمدخل السليم للإجابة الصحيحة على ضوء القرآن الكريم:

أننا يجب أن نفرق بين (المساواة) وبين (التشابه) فالتشابه هوعملية المشابهة بين الحقوق والواجبات . . والمشابهة بين الوظائف والساحات . . بينما ( المساواة) هي عملية إعطاء كل ذي حق حقه , ووضع كل طاقة في مكانها الصحيح والمناسب الذي تبدع فيه.

ومن هنا نقول : إذا كانت الطاقات مختلفة , والقابليات متباينة , فحتى نحقق المساواة ينبغي أن تكون الأدوار مختلفة, والوظائف متباينة ..

من هذا المنطلق نعرف أن شعار(المساواة في الحقوق) الذي طرحته أوروبا, تحت شعار تحرير المرأة , والذي يرفعه بعض النساء المسلمات.. إنما يدعو إلى وضع متشابه للرجل والمرأة من ناحية الحقوق والمسؤوليات والوظائف والأدوار بغض النظر عن الاختلافات الغريزية والتكوينية والطبيعية بين الجنسين.

وهنا يكمن التفاوت الواسع بين النظرية القرآنية , والنظرية الغربية التي رفعت شعار (المساواة) الذي يرجع في الواقع إلى (التشابه), ذلك لأن القرآن الكريم ينطلق من حقيقة تكوينية طبيعية فطرية . . وهي أن ما تملكه المرأة من طاقات وقوى وقابليات يختلف عما يملكه الرجل , ولهذا فإنه : إذا اختلفت الطاقات اختلفت الساحات ( وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ ) . . ذلك لأنها جنسان وليسا جنسا واحدا . . إنهما جنسان مختلفان في طاقاتهما وقابلياتهما وإن كانا من نفس واحدة, ومن أصلٍ واحد, ومن طينةٍ واحدة.

ولهذا يؤكد القرآن أن للنساء نصيباً مما اكتسبن من الطاقات والإمكانيات أولاً, ومن الحقوق التشريعية ثانياً, وكذلك للرجال نصيب مما اكتسبوا. . فلكل منهما كسبه الخاص به تكوينياً وتشريعياً. ولا يجوز أن يتمنى الرجل طاقات المرأة وساحتها ووظيفتها, ولا يجوز للمرأة أن تتمنى طاقات الرجل وساحته ووظيفته:

( وَلاَ تَتَمَنّوْا مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ ).

هذه هي النظرة القرآنية الأساسية التي تشكل الأساس في توزيع الحقوق والواجبات.

المرأة القرآنية (2)

شبهتان حول المرأة

السيد مالك السماوي

إذا كانت الشبهة الأولى التي بحثناها سابقاً (في الحلقة الاولى) هي شبهة في السلوك، من أنَّ حواء أصلُ الإغواء ، فإنَّ الشبهة الثانية في الأصالة والتكوين ، القائلة إنَّ حواء مخلوقٌ من ضِلْع ، ولهذا فإنَّ المرأة لا تملك الأصالة كما يملكها الرجل، فهي قد استلت من ضلع من أضلاعه بل ومن الضلع الأيسر الأسفل منها .. ولهذا فإنَّ المرأة مهما بلغت من مستوى في العلم والفهم والثقافة ، تبقى مجرّدَ تابعٍ للرجل لا تملك الاستقلال في شيءٍ من أمورها ، وتبقى مجرّدَ (أداة) يوجهها الرجل حيثما يُريد ، وإنّها مجرّد وعاءٍ لنطف الرجل ، فهي لذلك لا حصّة لها من أبنائها. ولهذا قال شاعرهم:

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا           بنوهنَّ أبناءُ الرجال الأباعد

  وأكبر الظن إنَّ هذه الأفكار الظالمة والنابعة من قصّة الضلع، قد دخلت إلى المسلمين وامتلأت بها كتب التفسير القرآنيّة، عن طريق الإسرائيليات التي لعبت دوراً كبيراً في تحريف الكثير من المفاهيم الإسلاميّة الأصيلة، حتى أصبحت تلك الخرافات مِن الحقائق التي لا ريب فيها !! تماماً كما استعرضنا في الحلقة السابقة قصّة التفاحة التي اتُهمت حواء ظلماً وعدواناً بأنّها أوّل من قطفتها، وقدمتها للرجل على طبقٍ من ذهب !!

  التوراة وقصّة الضلع:

جاءَ في التوراة في الفصل الثاني من السفر الأوّل:

( إنَّ الله خلق آدم تراباً من الأرض .. ولم يجد آدم عوناً حذاه ، فأوقع سباتاً على آدم لئلا يحسَّ فنام ، فاستلَ إحدى أضلاعه وسدَّ مكانها اللحم ، وبنى الله الضلع التي أخذ امرأة ، فأتى بها إلى آدم ، وقال آدم هذه المرّة شاهدتُ عظماً من عظامي، ولحماً من لحمي، وينبغي أنْ تُسَمّى امرأة لأنّها من أَمري أُخذت ).

من هذا النص التوراتي يتبيّن أنَّ قصة الضلع لم تكن قصّةً قرآنية كما يعتقد البعض، حتى راحَ يعتبرها من المُسلَّمات التي تبنى عليها الكثير من الأفكار والمفاهيم والنظرات حول المرأة . ومما عزز تلك النظرة الخاطئة في صفوف المسلمين هو وجود بعض الروايات ضعيفة السند التي تنسبُ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ قال: (( وإنَّ المرأة خلقت من ضلع )) بل ولم تكتفِ بذلك حتى قالت : (( إنَّ اعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه ، لن يستقيم لك على طريقة واحدة، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عِوَج، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقُها ))!!

بَيْدَ أنَّ هذه الفكرة قد سيطرت على الفكر الأوروبي في نظرتِهِ إلى أصالة الرجل دون المرأة ، ولا تزال تفقد اسمها بمجرد زواجها لتأخذ أسم زوجها! ومن الغريب أن هذه الظاهرة تعتبر من قبل البعض مَظْهراً من مظاهر تحرير المرأة وتقدمها!!

القرآن الكريم: ( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ) لابُدَّ للقرآن الكريم من أن يقول كَلمته في أمر حساس وخطير كهذا، ليعطي النظرة السليمة لأصالة المرأة والرجل على حدٍ سواء ، ذلك أنّ القرآن الكريم قد صرّح وبأكثر من موقع على أنَّ الأصالة للإنسان رجلاً كان أم امرأة ، فهما من نفسٍ واحدة ، ومن طينةٍ واحدة، ولا فرق بينهما من هذه الناحية على الإطلاق:

الآية الأولى: (  يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) النساء / 1.

الآية الثانية: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدّةً وَرَحْمَةً ) الروم / 21.

الآية الثالثة: ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ) النحل / 72 .

الآية الرابعة: ( فَاطِرُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ) الشورى / 11.

الآية الخامسة: ( خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) الأعراف / 189.

الآية السادسة: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏ ) آل عمران / 195 .

ولا يخفى عليك ـ أخي القارئ ـ أنَّ في قوله: ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) وغيرها، نشوئيّة وليست بعيضيّة كما ذهب البعض ، متخذاً روايات الضلع شاهداً ومرجحاً! فإنّ الآيات المباركة تؤكد على أنَّ الخلق من نفس واحدة، وهذه النفس الواحدة جعل الله سبحانه منها زوجها .. وكلمة الزوج تشمل الرجل والمرأة .. فالرجل زوج والمرأة زوج ..

في تفسيره لقوله تعالى: ( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ) يقول صاحب تفسير الميزان العلامة الطباطبائي: ( إنَّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد مِنْ غير فَرْق في الأصل والسِّنخ ) .. وبهذا يتَّضح جيداً أصالة المرأة التي لا تختلف عن أصالة الرجل، فكلاهما سيّان في الأصلِ والتكوين ( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ) على حدِّ تعبير القرآن الكريم.

ويرسمُ صاحب تفسير(في ظلال القرآن) سيد قطب، ظلال قوله تعالى: (  يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) فيقول: (هذه الحقيقة كانت كفيلة ـ لو أدركتها البشريّة ـ أنْ توفّر عليها تلك الأخطاء الأليمة التي تردّت فيها، وهي تتصوَّرُ في المرأة شتّى التصورات السَّخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشّرِّ والبلاء.. وهي من النفس الأولى فطرةً وطبعاً، خلقها الله لتكون لها زوجاً، وليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، فلا فارق في الأصل والفطرة ، إنّما الفارق في الاستعداد والوظيفة).

إنَّ قوله تعالى:( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ) و ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏) يدلُّ دلالة واضحة على أن الرجل والمرأة سواءٌ في الأصل والتكوين، وليس هناك فضلٌ لأحدهما على الآخر من هذه الناحية.

ولهذا فإنَّ الأفضلية تنبعُ من العمل والتضحية والعطاء:( فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفّرَنّ عَنْهُم سَيّآتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ )  آل عمران / 195 .

( إنَّ المشاهدة والتجربة تقضيان أنَّ الرجل والمرأة فردان من نوعٍ جوهري واحد ، وهُوَ الإنسان .. فما في بعض التفاسير : أنَّ المراد بالآية

( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقاً لما في الأخبار ، أنَّ الله خلق زوج آدم من ضلعٍ من أضلاعه، مما لا دليل عليه في الآية).

سُئِل الإمام الباقر (عليه السلام): من أيِّ شيءٍ خلق الله حواء؟

فقال (عليه السلام): (( أيّ شيء يقولون؟ )) , قلت: يقولون: إنَّ الله خلقها من ضلعٍ من أضلاع آدم.

فقال (عليه السلام): (( كذبوا، أَكان الله يعجزهُ أن يخلقها من غير ضلعه؟! )).

  المرأة هي الأصل:

وكما قيل فإنَّ خير وسيلة للدفاع الهجوم ، لذا طُرحت نظريّة معاكسة تقول: إنَّ الرجل هو الفرع، وإنَّ المرأة هي الأصل، وانَّ الأمومة هي السائدة على الأبوة، حتى كتبت إحداهنَّ كتاباً تحت عنوان: (المرأة هي الأصل) حاولت أَنْ تثبت فيه أصالة المرأة والأمومة، ولهذا فهي الجنس الأسمى والأرقى بسبب حقائق (بيولوجيّة) و(فسيولوجيّة) إضافة إلى الحقائق التاريخيّة منذُ قديم الأزل، والسبق التطوري الذي أحرزته الأمومة على الأبوة (بيولوجياً) ونفسيّاً وإنسانياً!

وهذه الدعوى لا أساس لها من الصّحة، إنها مجرّد ردّ فعْل من قبل المرأة في وسطِ الأجواءِ الخانقة الظالمة التي تعتبر المرأة مجرّدَ تابعٍ للرجل، لا حَوْل لهُ ولا طول، لأنها استلت من أسفَلِ أضلاعه، وقد كُتبَ عليها أنْ تكون عوجاء لا تستقيم .. وإن اردتَ أنْ انكسرت بينَ يديك!!

يقول جان جاك روسو: ( إنَّ الرجال يعيشونَ حياةً أفضل بدون النساء، أمّا النساء فلا يُمكن أنْ يعشنَ حياة أفضل من دونِ الرجال )!!

ويقول فرويد: (إنَّ المرأة ماسوشيّة بطبيعتها وتحبُّ الإيلام والإيذاء).

أمّا تولستوي فيقول: (المرأةُ أداة الشيطان، إنّها غبيّة في جُملة حالاتها، ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته).

  وحدة الأصل وتعدد الجنس:

في الوقت الذي يقرر فيه المنهج القرآني أصالة الإنسان، امرأة كان أم رجلاً، وأنهما من نفسٍ واحدة: ( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ )، يقرر حقيقة تكوينيةً أخرى ، وهي ثنائية الجنس البشري .. الذكر والأنثى ( إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ ) ويعلن أنّ بينهما اختلافاً وتبايناً ( وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ ) .. فإنَّ لكلٍّ منهما طاقاتِهِ وإمكانيته .. وبدون هذا الاختلاف والتباين بين الجنسين لا ولن يمكن أنْ تستمر الحياة.

ولا يعني هذا الاختلاف والتباين إنَّ هناكَ صراعاً وتنافساً بين الجنسين ، بل على العكس من ذلك تماماً، إنما هو التكامل في الحياة ، وتوزيع الأدوار والساحات .. فإنَّ للرجل ساحته ودوره، وإنَّ للمرأة ساحتها ودورها.

ولهذا فقد نهى القرآن الكريم عن النظرة الخاطئة المتبادلة بينَ المرأة والرجل ، والتي كثيراً ما تحرف الجنسين عن مسارهما الصحيح، وتبعدهما عن دورهما السليم، وساحتهما الحقيقية: ( وَلاَ تَتَمَنّوْا مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ )النساء /32 .

فهذه الآية المباركة تنهى عن أنْ تتمنى المرأة أنْ تأخذ دور الرجل وساحته، وتتمتع بطاقاته وإمكانياته، كما تنهى الرجل عن أنْ يتمنى طاقات المرأة وإمكانياتها. فإنَّ لكلِّ منهما طاقاته المنسجمة مَعَ دوره في الحياة .. والملائمة لساحته.

إنَّ الآية المباركة صريحة في أنَّ هناك طاقات تكون المرأة مفضلة فيها على الرجل، وأنَّ هناك طاقات يكون فيها الرجل مفضلاً على المرأة .. فلكلٍّ ما فُضَّلَ بهِ من إمكانيات وطاقات .. ( وَلاَ تَتَمَنّوْا مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ ) وهذا التفضيل ليس مختصاً بالرجال، كما يفهم البعض خطأ، بل إنَّ التفضيل متبادل بين الجنسين .. وإن اختلف نوعه .. ليأخذ كلٌّ من الرجل والمرأة دورهُ في ساحة العمل والمسؤوليّة، وليقوم كل منهما بمهمته ودوره.

إنَّ القرآن الكريم لا يرِى في هذا الاختلاف ما يستوجب الصراع المرير  بين الرجل والمرأة، بل على العكس من ذلك تماماً.. إنّهُ التكامل والتعاون المتبادل الذي يقوم بالحياة خير قيام ، لينطلق كُلُّ إنسان من موقعه في بناء الحياة بناءً سليماً قائماً على أساس توزيع الوظائف والأدوار.

ولهذا فإنَّ من الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها المناهج الأرضيّة في ما يُسمّى بـ (تحرير المرأة) والتي وصلت إلى الطريق المسدود الذي افقدَ المرأة كُلّ ما تتمتع بهِ من طاقات وإمكانيات، ما تصوروه من أنَّ فكرة المساواة تتحقق بنزول المرأة إلى ساحة الرجل، والقيام بالدور والوظيفة نفسَيهما.

يقول غورباتشوف في كتابه (بيروسترويكا):

(في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المميزة المتعلقة بدورها، اُمّاً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنه مربيّةً للأطفال . فلم يَعُد لدى المرأة العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات .. ما يكفي من الوقت للاهتمام بالشؤون الحياتيّة اليوميّة ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتّى مجرّد الراحة المنزلية)!!

ويرى غورباتشوف: (أنَّ الكثير من المشكلات في سلوكيّة الفتيان والشباب ، وفي قضايا خلقيّة اجتماعية وتربوية وحتى إنتاجية، إنّما يتعلّق بضعف الروابط الأُسريّة والتهاون بالواجبات العائلية)!!

ويقول: (تلك هي المفارقة التي حصلت، على الرغم من رغبتنا الصادقة والمشروعة سياسياً بمساواة تامة للمرأة مَعَ الرجل)! ولذلك يدعو إلى: (استعادة المرأة لدورها الأنثوي الحقيقي بالكامل)!!

من هدى القرآن

المرأة القرآنية (6)

زينة المرأة المسموح والممنوع

السيد مالك السماوي

لقد كثرت أدوات الزينة والتجميل في عصرنا، حتى غدا (المكياج) فناً من الفنون، وعلماً من العلوم، يدرّس في المدارس والمعاهد والجامعات . وأصبحت صالونات التجميل أكثر عدداً من الصيدليات ، وصارت أسواقُنا غارقة بالمساحيق والدهون وأدوات التجميل الغربية ، بألوانها المختلفة الزاهية.. وتحوّلت المرأة في العالم العربي والإسلامي إلى أعظم مستهلكٍ لبضائع المعامل الأوروبيّة، والشركات الأجنبية ... وإننا لو أحصينا مقدار الاستهلاك السنوي للمواد التجميلية لأي قطرٍ من أقطارنا الإسلاميّة لذُهلنا من الأرقام التي تسجّلها التقارير الصادرة من الدوائر العامة المشرفة على المواد الاستهلاكيّة.

وفي خضم أجواء التسابق المحموم في إبداء زينة المرأة ، وإظهار معالم أنوثتها، ومفاتن الجمال في جسدها، أصبح الشغل الشاغل للكثير من النساء في عالمنا الإسلامي هو الاهتمام بزينتهنَّ ، والإمعان في أن تظهر إحداهنّ جميلةً فاتنة تبزُّ زميلاتها، وتجذبُ أكبر عددٍ من عيون الرجال إليها.

حتى راحَ البعض يفلسفون تلك المظاهر ويضعونها تحت شعار الحرية والانطلاق الذي يؤدي إلى التعبير الصادق الذي يخلّص المرأة من الكثير من العقد النفسيّة التي عاشتها النساء جرّاء عمليات الكبت لحاجات الغريزة الأنثويّة، ولما طُبعت عليه المرأة من حبِّ للزينة والجمال!

وإذا كانت تلك المقولات قد استغفلت الكثير من النساء في عالمنا الإسلامي ، إلاّ أنَّ المرأة المسلمة الملتزمة اليوم ، لم تعد تنخدع بها على الإطلاق ... بعد أنَّ وعت إسلامها العزيز ، وأدركت مدى الحكمة البالغة في منهجه الذي يرسمُه القرآن الكريم ... ذلك الكتاب القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وإننا نقرأ ونسمع كلَّ يوم أنباءً عن تلكم النسوة اللاتي كُنَّ بالأمس القريب يعرضنَ زينتهنّ ومفاتنهنّ في عالم السينما والمسرح تحت شعار (الفن) و(الرقيّ)، حيث نراهنَّ اليوم وقد هجرنَ كلَّ الأضواء الساطعة، والألقاب الكبيرة، والصفقات المليونيّة، وعدنَ إلى وعيهنَّ ورشدهنَّ وأصالتهنَّ. تقول إحداهنَّ (السيدة شمس البارودي) وهي رائدتهنَّ في هذا المضمار: ( لقد كنّا نصلي وندعو الله كي ينجح الفيلم مثلاً، ونصوم ونضع المساحيق على وجوهنا ونقول: ( إحنا ما بنعملش حاجة غلط ) !! إن هذا هو أساس الغلط ، وكل الغلط : إمرأة جميلة يري جمالها المصوّر والمخرج والفنيون، وهي في ملابس (باريس)، وآخر صيحات الموضة ، تتحدث معَ ممثل مثلها لتقول كلمات حبّ ، أو من خلال قصة حبّ ليرى الناس بعد ذلك كلّ هذا، وتقول: ( إنه الفن ما فيهوش حاجة غلط ))!!

وتحوّلت السيدة شمس البارودي من المرأة التي كان همها زينتها ومفاتنها، إلى تلك المرأة المحجبة التي راحت تحمل همَّ دعوة النساء اللواتي خدعتهنَّ صرخات (الفن) و(الموضة) إلى العودة إلى وعيهنّ وقرآنهنَّ: ( إن القرآن الكريم أمَرَ المرأة بغض البصر، وأمَرَ الرجال بغض البصر عنها، فكيف نضعها لتكون (فرجة) يستمتعُ بالنظر إليها أيّ من الرجال )!! .

وقد استجابت لتلك النداءات الواعية الكثيرات من (الفنانات) و(نجمات السينما) المصريّة، وكانت أخيرتهنَّ وليست آخرتهن السيدة (سهير البابلي) التي أحدث إعلانها عن التزامها وارتدائها الحجاب ، وعودتها إلى الإسلام ورفضها المظاهر الزينة المحرّمة ضجّة إعلامية هائلة في مصر في شهر حزيران من العام الماضي .

مما دفع الصحافي المشهور الأستاذ فهمي هويدي لأن يتصدّى لتلك الحملات الإعلامية التي يغضبها كلّ مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية والعودة إلى الذات ، فكتب مقالاً رائعاً بعنوان : (خطيئة الفنانات المحجّبات) حَمَلَ فيه على تلك الصحف المأجورة، والأقلام الموتورة التي شنّت حملتها على (الحجاب) وليس على (الاحتجاب)!!

 الزينة الظاهرة والزينة الباطنة:

لم يمنع القرآن الكريم المرأة من إظهار زينتها ، واستعمال ما تحبّ من أدوات الزينة والتجميل ، لأنّ ذلك من طبيعتها وفطرتها التي فطر الله النساء عليها ، باعتبارها الإنسان الذي يمتلك المشاعر المرهفة ، والعواطف الجيّاشة ، ويرنو إلى الزينة والجمال .. بل اعتبر القرآن ذلك حقاً طبيعياً للمرأة : ( َوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ )  الزخرف /  18.

وقد رسمَ القرآن منهاجاً رائعاً في تنظيم تلك الرغبة الفطرية، وأعطى الضوابط والحدود التي تجعل المرأة على بيّنةٍ من أمرها في تعاملها معَ الزينة والتزيّن واستعمال أدوات التجميل: ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا )  النور / 31 .

من خلال هذا النص القرآني يتبيّن لنا جيداً أنّ هناك نوعين من الزينة للمرأة :

النوع الأول: الزينة الظاهرة:

وهي التي يُسمَحُ للمرأة إبداؤها ، ويجوزُ لها إظهارها أمام الناس جميعاً، مهما كان بعدهم عنها.

النوع الثاني: الزينة الباطنة:

وهي التي لا يُسمَحُ للمرأة إبداؤها، ولا يجوز لها إظهارها إلاّ لأناس معيّنين قد حدّدتهم الآية المباركة ذاتها: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَى‏ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَائِهِنّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَائِهِنّ ...)  النور /  31.

 معنى الزينة:

هناك اتجاهان في تفسير معنى الزينة في قوله تعالى:  ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).

الاتجاه الأول: جسد المرأة وملامحها الطبيعية:

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه في التفسير إلى أنَّ المقصود من الزينة هو مواضع الزينة من جسم المرأة، وليس الزينة نفسها.

 وبذلك تكون الزينة وفق هذا الاتجاه تشمل أعضاء جسم المرأة وملامحها الطبيعيّة.

يقول صاحب تفسير الميزان العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه):( المرادُ بزينتهنَّ مواضعُ الزينة، لأن نفس ما يُتزيّن به كالقرط والسوار لا يحرم إبداؤه، فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن ).

وهذا الرأي الذي يفسّر الآية تفسيراً كنائياً ذهب إليه صاحب تفسير مجمع البيان العلاّمة الطبرسي(رضي الله عنه) في القرن السادس الهجري، حيث يقول: (ويُظهِرْنَ مواضع الزينة لغير محْرَم ومن هو في حُكمه، ولم يُرد نفس الزينة، لأنّ ذلك مما يجوز النظر إليه ، بل المراد مواضع الزينة).

ويذكر الزمخشري صاحب تفسير الكشاف، في القرن السادس الهجري ، السرّ في هذا التعبير الكنائي في ذكر الزينة وعدم ذكر مواضعها، فيقول: (وذكر الزينة دون مواضعها للمبالغة في الأمر بالتصوُّن والتستر، لأنّ هذه الزينة واقعة على مواضع مِنَ الجسد لا يحلُّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن...).

الاتجاه الثاني: أدوات التجميل والمجوهرات والثياب:

يذهب أصحاب هذا الاتجاه في التفسير، وهو الظاهر، إلى أنَّ المقصود من الزينة في قوله تعالى: ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) هو الزينة نفسها، وهي في مواضعها من جسد المرأة باعتبار أنَّ الظاهر من كلمة (الزينة) هو الأمور والأشياء الخارجية التي تُضاف على الخلقة والطبيعة التكوينية.

ويستشهد أصحاب هذا الاتجاه في التفسير بقوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأََرْضِ زِينَةً لَّهَا )، لاستجلاء معنى الزينة ، باعتبار أنَّ الذي على الأرض من نبات وعمران وغيرهما يُعتبرُ زينةً للأرض ، وبذلك يكون معنى زينة المرأة هو كُلُّ ما تزيّنت به من حُليّ وثياب وأدوات تجميل . .

يقول العلامة الشهيد مرتضى المطهري في كتابه القيّم (مسألة الحجاب): (إنّ كلمة (زينة) في لغة العرب شاملة لألوان التجمّل التي تلتصق بالبدن كالخضاب والكُحل ، والتي تنفصل عنه كالمجوهرات والذهب).

ولهذا نستطيع أن نقول إنّ الزينة ـ على هذا الاتجاه ـ تكون على نوعين:

النوع الأول: الزينة الملتصقة: وهي ما تتزيّنُ به المرأة من أدوات تجميل كالحُمرة والكحل وما شابههما من المساحيق التجميليّة التي تستعملها النساء عادةً .

النوع الثاني: الزينة المنفصلة: وهي ما تتزينُ به من أشياء تنفصل عن بدنها، وتشمل كلّ ما تلبسه من حليّ ومجوهرات ، وقد أضاف بعضهم ما تلبسهُ المرأة من ملابس وثياب.

يقول صاحب تفسير (من وحي القرآن) العلاّمة فضل الله (حفظه الله): (ولعلّ هذا الاحتمال هو الذي يظهر من طبيعة الكلمة في مدلولها اللغوي، الذي يعني ما تتزيّنُ به المرأة من الأشياء الخارجية . . . ولا يُنافي ذلك أنَّ الزينة مما يجوز إظهاره في نفسه، لأنَّ المقصود به هو الزينة في مكانها من الجسد ، لا في مكان آخر .

  ولكنّ هناك حديثاً عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فيما رواه في الكافي باسناده عن الفضيل ، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذراعَين من المرأة ، هما من الزينة التي قال الله ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ ) ، قال (عليه السلام): (( نعم وما دونَ الخمار من الزينة ، وما دون السوارين )) مما يؤكد أنّ المراد بها مواضع الزينة .

 الزينة الظاهرة حدودها ومواصفاتها:

من خلال الاتجاهَين السابقَين في تفسير معنى الزينة ، يتبين لنا المقصود من الزينة الظاهرة في قوله تعالى: ( إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).

فعلى الاتجاه الأول يكون معنى الزينة الظاهرة هو بعض الأعضاء التي سمحت الشريعة الإسلامية للمرأة إظهارها وابدءاها في المجتمع ، وهما الوجه والكفّان , وهو ما يظهر من بعض الروايات.

وعلى الاتجاه الثاني يكون معنى الزينة الظاهرة هو بعض الأشياء التي تتزين بها المرأة من أدوات الزينة ، وإن اختلفت الروايات في تحديدها.

ففي رواية زرارة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال (عليه السلام): (( الزينة الظاهرة الكحل والخاتم )) .

وفي رواية علي بن إبراهيم القُمّي، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الآية ، قال (عليه السلام): (( هي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسّوار , والزينة ثلاث: زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها، وأمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوق، والدّملج (سوار العضد) وما دونه، والخلخال وما أسفل منه، وأمّا زينة الزوج فالجسد كلّه )).

يقول العلامة المطهري بعد استعراضه للروايات التي تتحدث عن الزينة: (على أيّ حال ، فهذه الروايات تُفهم أن ستر الوجه والكفين حتى المعصم غير واجب على المرأة ، ولا مانع أيضاً حتى من إظهار الزينة الاعتيادية المتعارف عليها التي توجد في هذين القسمَين (الوجه والكفين) كالخضاب والكحل ، حيث لا تخلو المرأة منها ، وحيث أنّ إزالتها عَمَل خارج عن الحدود العاديّة).

ويبقى الحكم الشرعي ليس من اختصاص هذا البحث التفسيري ، ولهذا فإن على الإنسان أنْ يرجع في ذلك إلى المجتهد الذي يقلّده.

من هدى القرآن

المرأة القرآنية (5)

المشي على استحياء!

السيد مالك السماوي

( فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) القصص / 25.

إنّه تعبيرٌ قرآني له دلالاتُهُ وإيحاءاته ... يصوّر لنا طبيعة مشي تلك الفتاة الطيـبة، التي نشأت في بيت النبوة، وترعرعت في أحضان العفة والطهر والفضيلة , فلم يقل (تمشي بحياء) ولا (تمشي باستحياء) بل ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) !.

إنه تعبيرٌ يصوّرُ لنا مدى روعة المشية المفعمة بالعفّة والحياء ، لتلك الفتاة الحيّـية حين تلقى الرجال، وكأنّها تمشي على أرضٍ مفروشة بالحياء.

والحياء خُلُقٌ رفيع، وملكةٌ نفسية عاصمة عن كلّ قبيح ، قبل أن يكون حركة على الأرض تظهرُ من خلال المشي والكلام،  والقعود والقيام، حيث يطبعُ الحياء كلّ تصرفٍ وسلوك بسمةِ الخيريّة والجمال:

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( الحياء لا يأتي إلاّ بخير )). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (( الحياء سببٌ إلى كلّ جميل ))، (( الحياء مفتاحُ كلّ خير )) ، (( أعقل الناس أحياهم )) ، (( سببُ العفة الحياء )) ، (( أصل المروّة الحياء وثمرته العفّة )) ، (( على قدر الحياء تكون العفّة )).

وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوّر لنا ثمرات الحياء وما يتفرع منه، بقوله: (( أما الحياء فيتشعب منه اللّين ، والرأفة ، والمراقبة لله في السر والعلانية ، والسلامة ، واجتناب الشر ، والبشاشة ، والسماحة ، والظفر ، وحسن الثناء على المرء في الناس . فهذا ما أصاب العاقل بالحياء ، فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته )).

ولهذا فإنّ وصف مجيء تلك الفتاة ، بأنها ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) يعبّر عن مدى الخلق الرفيع ، والأدب العالي ، والعفة السامية التي كانت عليها... ولا يعني الحياء أن تنعزل المرأة عن المجتمع ، ولا تتعامل مع الرجال، ولا تتحدث معهم بكلام ، ولا تخاطبهم بحوار... بل يعني أن تعمل كلّ ذلك بكلِّ عفّةٍ وطهارةٍ ونزاهةٍ وصفاء ... ذلك لأن قيمة الحياء تظهر عند التعامل مع الآخرين.

وليس من الحياء أن تعيش المرأة الخجل الذي يحجبها عن أن تؤدي دورها في المجتمع ، ويعرقل حركتها في إنجاز ما عليها من واجبات ومسؤوليات ... فهذا النوع من الحياء مذموم في الإسلام كما جاء في الروايات:

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (( قُرنت الحييةُ بالخيبة والحياء بالحرمان )).  وعنه (عليه السلام): (( الحياء يمنعُ الرزق )).

من هذا المنطلق يقسّم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فيما يروى عنه ـ الحياء إلى نوعين: حياء ضعف وحياء قوّة، بقوله: (( الحياءُ على وجهين فمنهُ ضعف ومنه قوة )) وفي رواية أخرى إلى قسمين (( الحياء حياءان حياء عقل وحياء حمق فحياء العقل العلم وحياءُ الحمق الجهل )).

ولهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( من استحيا من قول الحق فهو الأحمق )).

وهكذا نرى أنّ حياء تلك الفتاة لم يمنعها من المجيء إلى ذلك الرجل الغريب الذي ساعدها في السقي لتقول لهُ بكل ثقة وحياء:

(  إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) فها هي تقدّم دعوة أبيها بكل إيجاز واختصار! كما لم يمنعها الحياء من أن تخاطب أباها بقولها:

( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الْأَمِينُ ) ولا عيب أن ترغب المرأة الحيّية بالرجل القوي الأمين.

ولقد قرأ ذلك الأب العظيم شعيب (عليه السلام) رسالتها ورغبتها، فبادرهُ قائلاً:

( إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى‏ ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ )!

نعم ، لم يمنع الحياء تلك المرأة المؤمنة العفيفة من إعلان رغبتها في القوّة والأمانة ، كما لم يمنع الحياء أباها من أن يُعلنَ رغبته هو الآخر في تزويجه إحدى ابنتيه! وهذا ما نعتبره اليوم عيباً ما بعده عيب ، بعد أن انقلبت المقاييس ، وتعقّدت النفوس ، فأصبحنا نستحي من بعضنا البعض ، أكثر مما نستحي من الله!

ولذلك جاء في الحديث عن الكاظم (عليه السلام): (( استحيوا من الله في سرائركم كما تستحون من الناس في علانيتكم )).

ولهذا اعتبر أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّ: (( أفضل الحياء استحياؤك من الله )).

ولقد أعطى القرآن الكريم للمرأة المسلمة التوصيات من أجل صناعة الشخصيّة المؤمنة الفاعلة التي تتحرك في المجتمع جنباً إلى جنب مع الرجال، وهي تمتلك شخصيتها كإنسانة ، لها مسؤوليتها ودورها في الحياة ، لتحقق المشي على استحياء ، والسلوك المفعم بالعفاف والطهر والنقاء. ومن أبرز مواصفات المشي على استحياء أمور:

أولها: غض البصر. حتى ورد في الحديث عن علي (عليه السلام) قوله: (( الحياء غضُّ الطرف )).

لا للغمض.. نعم للغض:

( َقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ )  النور / 31.

لم تأمر الآية المباركة بـ (الغمض) الذي هو إطباق الجفن على الجفن ، فلم تقل ( يغمضن عيونهنّ )، كما لم تقل ( يغضضن أبصارهنّ )، بل قالت ( يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ )، وذلك لأنّ التشريعات القرآنية تشريعات واقعيّة، هدفها صنع المرأة المؤمنة العاملة المجاهدة التي تقوم بدورها في المجتمع خير قيام، وتؤدي مسؤولياتها على أحسن ما يُرام.

ولهذا فإنّ التعبير بـ (الغض من) تعبيرٌ واقعي غير متكلّف ، لا يحجّمُ دور المرأة على الإطلاق، ولا يُقيّد من حركتها في القيام بدورها وواجباتها ... بل على العكس من ذلك ، يجعلها تعيش الحياة الاجتماعية من دون أيّ عقبات ومنغصات، لما في (الغض من البصر) من إيجابيات كبيرة تعود على المرأة بالخير والبركة .. فيما يمثله من تخفيف النظر، وكسر حدّته، واجتناب متابعة النظرة النظرة... لتكون العلاقة الاجتماعية بين المرأة والرجل بعيدةً عن أجواء الجنس ، وفي صميم العلاقة الإنسانيّة التي تفرض في توزيع الأدوار بين قبيل الرجال والنساء .. فليس من حقّ الرجل على الإطلاق أن يمدّ عينيه إلى المرأة بقصد إشباع الشهوة وكذلك المرأة، لأنّ ساحة الحياة الاجتماعيّة تتحول عندها إلى شك متبادل ، ونظرات خائنة ، وشهوات مثارة ، وتطلعات محمومة حيث تضيع في أجوائها النظرة الإنسانيّة ، والثقة المتبادلة.

إنّ غض البصر لا يعني ترك النظر... فهذا أمرٌ لا يمكن أن يتحقق أولاً، ويعطل دور الرجل والمرأة على السواء ثانياُ، لا سيّما وأنّ الإسلام ينظر إلى المرأة بأن لها دوراً كبيراً في أداء رسالتها الاجتماعيّة، لما يربط المؤمنين والمؤمنات من ولاء في القيام برسالة التغيير والدعوة إلى الله:

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

إنّ أولّ مسؤوليّة يجب أن يضطلع بها الرجال والنساء على حدّ سواء ، هي مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليعيش المجتمع الإسلامي بعيداًً عن السلبيات والأخطاء في مسيرته الصاعدة.

إنّ مجتمعاً تكون العلاقة بين نسائه ورجاله بهذا المستوى الكبير من الولاء في الدعوة إلى الله ، ومحاربة أسباب الظلم والجهل ، وعوامل التمييع والانحلال، لهو مجتمعٌ أبعد ما يكون عن النظرات الجائعة المتلصصة بين أعضائه، وأبعد ما يكون من التعامل القائم على أساس الشهوات والغرائز ، ولا سيّما في وقتنا المعاصر ، حيث نرى أنّ أعداء الإسلام قد حشدوا ما لديهم من الرجال والنساء في سبيل تضليل المجتمع ، وجعله يعيش حالة الميوعة والخلاعة بدلا من الجدّية والصلابة.

النظرة الآلية والنظرة الاستقلالية:

قد تكون نظرة الرجل إلى المرأة ، وبالعكس، من أجل الاطلاع على ملامح الفتنة ومظاهر الإغراء ، وبالتالي تكون النظرة من أجل النظرة.

وقد تكون النظرة من أجل أمور أخرى يفرضها التعامل الاجتماعي ، وأداء الواجب، والقيام بالمسؤوليّة , وفرق كبير بين طبيعة النظرتين.

ويسمي العلامة الشهيد مرتضى مطهري النظرة الأولى بالنظرة الاستقلالية، والثانية بالنظرة الآلية.

وعلى هذا يكون للغض من البصر شرطان أساسيان:

الأول: عدم التركيز والملاحقة في النظر، وإتباع النظرة، وهذا هو معنى (الغض) الذي هو بعنى الخفض، وقد استعمل للصوت أيضاً في قوله تعالى: ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ).

الثاني: أن يكون النظر مما تتطلبُهُ وتقتضيه ضرورة التعامل ليكون النظر مقدمةً وليس غاية.

ومن نماذج النظرة الآلية التي سمح بها الإسلام ، بل وحث عليها، واعتبرها من الأمور المستحبة، هو النظر إلى المرأة المخطوبة (أي المنوي تزويجها)، لما في ذلك من دورٍ كبير في إقامة العلاقة الزوجيّة.

فقد اعتبر الحديث المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّ النظر إلى المرأة في هذه الحالة أجدر بأن يكون داعياً وسبباً مفضياً إلى الوفاق والألفة والوئام ، لتبنى العلاقة الزوجية على أساس من الحب والودّ والانسجام.

وهذا هو معنى ( الأدم ) في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( لو نظرت إليها فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما )) أي يؤلّف ويطيب، كما يقول الراغب في مفرداته.

إنّ السبيل الأفضل للتعرّف إلى المرأة المخطوبة، مواصفاتها وطبيعة ملامحها، هو الرؤية المباشرة ، لأنّ الوصف مهما كان بليغاً وصادقاً فإنّهُ لا يقوم مقامها.

ولنقرأ نصّاً من الرسالة العمليّة في (تحرير الوسيلة) وهو يوضّح طبيعة وشروط النظر للمرأة المخطوبة:

( يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها ... والأحوط الاقتصار على وجهها وكفيها وشعرها ومحاسنها ، وإن كان الأقوى جواز التعدي إلى المعاصم ، بل وسائر الجسد ما عدا العورة . والأحوط أن يكون من وراء الثوب الرقيق ... ويجوز تكرار النظر إذا لم يحصل الاطلاع عليها بالنظرة الأولى ).

ويذكر الإمام الخميني (قدس سره) أربعة شروط في ذلك:

أولاً: أن لا يكون بقصد التلذذ...

ثانياً: أن يحتمل حصول زيادة بصيرة بها...

ثالثاً: أن يريد تزويجها فعلاً...

رابعاً: أن يحتمل حصول التوافق على التزويج...

كل ذلك حتى لا يستغلّ هذا السماح من قبل مرضى القلوب ، فينظرون إلى محاسن النساء تحت غطاء الخطوبة ...

وفي الوقت الذي نرى التشريع الإسلامي يسمح للرجل بالاطلاع إلى (سائر الجسد ما عدا العورة) نجد في المقابل التحريم وعدم الجواز للنظرة الاستقلالية التي هدفها إشباع الغريزة الشهوية، والنظر إلى المرأة كأنثى وجسد ... حيث نرى العلماء يحرّمون ذلك حتى ولو كان النظر إلى ما يجوز للمرأة أن تظهره من الوجه والكفين:

(لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه والكفين من المرأة الأجنبية من شعرها وسائر جسدها ، سواء كان فيه تلذذ وريبة أم لا، وكذا الوجه والكفّان إذا كان بتلذذ وريبة) الإمام الخميني (قدس سره) / تحرير الوسيلة.

بين الغض والحفظ:

هناك اتجاهان في التفسير في الربط بين (الغض) و (الحفظ) في قوله تعالى: ( قُل لّلْمُؤْمِنِينَ يُغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... قُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ ) النور / 31 .

الاتجاه الأول: علاقة المقدمة بالنتيجة والسبب بالمسبب: وهذا الاتجاه يعتبر أنّ غض البصر مقدّمة لحفظ الفرج ، فيما تمثّلهُ النظرة من خطوةٍ أولى في اللقاء المحرم، على طريقة (نظرة فابتسامة فسلام...) وقد جاء في الحديث: (( النظرة سهم من سهام إبليس )).

ولهذا فإنّ غض البصر من جانب الرجال أدبُ نفس ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية ، ومحاولة عمليّة للحيلولة دون وصول السهم المسموم...

وحفظُ الفرج هو الثمرة الأولى الطبيعيّة لغض البصر أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة ، ويقظة الرقابة ، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى على حدّ تعبير صاحب (تفسيرفي ظلال القرآن).

ولهذا ـ كما يقول أصحاب هذا الاتجاه ـ جاء الجمع (بينهما في آية واحدة بوصفهما سبباً ونتيجة أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع , كلتاهما قريبٌ من قريب)، (في ظلال القرآن / سيد قطب / ج4 / ص 2512).

وعلى هذا الاتجاه في الربط بين (الغض) و (الخفض) يكون معنى (حفظ الفرج) كناية عن حفظه من الزنا والفحشاء.

الاتجاه الثاني: يذهب إلى أنَّ العلاقة ليست علاقة مقدمة بنتيجة، كما هو ظاهر، لأنّ معنى الحفظ ـ هنا ـ ليس كناية عن عدم الزنا، وإنما يعني السّتر والاستتار عن الأنظار ... فتكون الآية نهياً عن التركيز في النظر ، وأمراً بالستر ...  فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (( كل آية في القرآن في حفظ الفرج فهي من الزنا إلاّ هذه الآية، فهي من النظر )).

وهكذا في أمر النساء ... فلا يجوز لهنَّ النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، ويجب عليهنّ الستر.

ذلك أزكى لهم:

لم تكتف الآية المباركة بذكر الحكم الشرعي ، وإنما أشارت إلى المصلحة المترتبة عليه..

في قوله تعالى: ( ذلِكَ أَزْكَى‏ لَهُمْ ) بعد قوله: ( قُل لّلْمُؤْمِنِينَ يُغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) بينما عقبت الآية التي تأمر النساء بالغض والحفظ بقوله تعالى: ( لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

فكيف نفهم الزكاة والفلاح في هذين التشريعين ؟ إنّ ذكر التعليل للحكم الشرعي له دلالاتُهُ الكبيرة، لما فيه من كشف لأهدافه وغاياته.

 فإنّ هذه الأوامر والضوابط التي جاءت لتحكم النظرة المتبادلة بين الرجل والمرأة في المجتمع الإسلامي ، لم تأت من أجل تحجيم حركتهما، وكبت غرائزهما ، ووضع العراقيل في حمل مسؤوليتهما... بل على العكس من ذلك تماماً، ما جاءت إلاّ لكي تصنع المجتمع الطاهر النظيف في مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته ، وإلاّ من أجل أن تنشأ علاقات اجتماعية نامية زاكية بين الرجال والنساء ، تصان في أجوائها الحرمات ، وتحفظ الأعراض والكرامات.

وهذا ما تعطيه كلمة (الزكاة) في قوله: ( ذلِكَ أَزْكَى‏ لَهُمْ ) فيما يمثله تعبير  ( أَزْكَى ) من الطهارة أولاً، والنمو الصالح ثانياً، فيما يحققهُ خفض البصر من طهارة المشاعر والأحاسيس، لإقامة علاقات اجتماعية ، على أساس الثقة المتبادلة ، والأخوة المتعاضدة في تحمل المسؤولية بين رجاله ونسائه ، بعيداً عن الشهوات المثارة ، والنظرات الخائنة ، والسّعار الحيواني المجنون.

ظاهرة (العنف ضد النساء):

ولهذا فإنّك ترى المشكلة القائمة اليوم في المجتمعات الأوروبية فيما يسمّى بظاهرة (العنف ضد النساء) قد وصلت إلى مرحلة خطيرة للغاية ، حيث تتعرض المرأة في تلك المجتمعات إلى عمليات عنف منظمة ودائمة, وتتعدد مظاهر العنف وتتنوع ، إلاّ أنّ أبرز مظهر من مظاهره هو اغتصاب النساء والفتيات!! على الرغم من أنّ الجنس مباح عندهم ، والزنا مسموح به على أوسع نطاق!!

فإنّ معنى (الاغتصاب) عندهم لا يعني الزنا، فهذا في عرفهم ليس باغتصاب، وهو ظاهرة طبيعيّة لا يسلم منها كثير من الرجال والنساء! ولكن معنى الاغتصاب في عرفهم هو ممارسة الجنس إكراها ورغم إرادتهن!

ومن حسن الاتفاق أنني وبينما كنت أكتب هذه الوريقات ، كنت أستمع إلى (راديو كندا الدولي) في يوم 5 آب 1993، وإذا به يذيع الخبر التالي حول ظاهرة العنف ضد النساء:

أعلنت (اللجنة الفيدرالية لحقوق المرأة في كندا) في تقرير لها أجري مؤخراً في مدينة تورينتو أنّ 40% من النساء في كندا قد اغتصبن أو تعرضن للاغتصاب مرّة واحدة ، وأن 50% منهنّ كنّ قبيل سن 16 عاماً)!! وقد أثارت نتائج هذا التقرير الرعب الكبير في أوساط المجتمع الكندي.

علماً أنّ هذا التقرير متكوّن من (500) صفحة، ويحوي على (400) توصيّة!

ومن العجيب أنّ (راديو كندا) أذاع بعد هذا التقرير مباشرة، خبراً (وقحاً) مفاده (أنّ اللجنة الكندية لمتابعة حقوق اللواطيين طالبت الحكومة الجزائرية باحترام حقوق اللواطيين في الجزائر، وإدراج حقوقهم في الدستور)!!

وأضاف الراديو: (والمعروف أنّ اللواطيين في الجزائر يتعرضون للتضييق مع تنامي الصحوة الإسلامية)!!

وما عشت أراك الدهر عجباً! فها هم قوم لوط قد عادوا من جديد، و (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) كما قال الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)... وقد عاد سنن التاريخ لتجعل عاليها سافلها وما فيروس الايدز عن هؤلاء القوم ببعيد...

وقد حدّثني أحد الدكاترة المسيحيين في بيروت، وهو من الأخصائيين بأمراض الدم، أن فيروس الإيدز يسمّى في أوروبا، بفيروس (قوم لوط)!

من هنا ندرك أهداف التشريعات القرآنية في تحقيق المجتمع الطاهر النظيف، والزاكي العفيف ( ذلِكَ أَزْكَى‏ لَهُمْ ) ، الذي يعيش العزّة والقوّة والمنعة والفلاح ( لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، بعيداً عن فيروس ضعف المناعة المكتسب ، الذي بدأ يكتسح الملايين من الرجال والنساء في دول الغرب... والذي تسعى الصهيونية والصليبية لنقله إلى ديارنا الإسلامية بمختلف الطرق ، وشتى الأساليب:

( مَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) البقرة / 105 .

المرأة القرآنية (4)

قول المرأة : الكيفية والمضمون

السيد مالك السماوي

إنَّ القرآن الكريم أرادَ للمرآة أنْ تقوم بدورها وبوظيفتها في المجتمع، بكلِّ فاعليّة وحركيّة وإبداع، وهو لا يسمح لأحد أن يقف حجر عثرةٍ في طريق سيرها وحركتها.. أو أنْ يمنعها من أداء رسالتها في الحياة.

وحتى تعيش المرأة في المجتمع الجديّة في الحركة، والحرية في القيام بواجباتها ومسؤولياتها.. لا بُدَّ للقرآن من أنْ يضع الضوابط التي من شأنها أنْ تحافظ على شخصيتها وفاعليتها وجديتها.. باعتبار أنَّ الساحة الاجتماعية كثيراً ما تفرضُ على المرأة أنْ تتحرك في وسط الرجال .. في الشارع والسوق والمدرسة والجامعة .. الخ.

فلا بُدَّ من أن تتحرك المرأة ـ والحالة هذه ـ بإنسانيتها لا بأنوثتها، حتى لا ينظر إليها من منظار إرواء الغرائز، وإشباع الشهوات، مما يسبب لها الكثير من المضايقات.. ولا ترضى المرأة السوية أنْ تتحرك في المجتمع كأداة  للإثارة.. لينظر إليها كأنثى لا كإنسان.

ويخطئ مَن يظن أنَّ هذه الضوابط هي من أجل تحجيم دور المرأة في المجتمع، وشلِّ حركتها في الحياة، وتكبيل طاقاتها من الانطلاق..

إننا نَسمع كثيراً بحوادث الاختطاف والاعتداء على النساء في الغرب، حتى غدت هذه الحوادث ظاهرة بارزة في تلك المجتمعات، رغم أنها تعيش الإباحية علاقة الرجل بالمرأة ، وقد صدرت قوانين وعقوبات للحد من ظاهرة الاغتصاب والتحرشات التي تتعرض لها الفتيات!

ولهذا ينبغي أنْ نفرق بين الضوابط والقوانين لتنظيم الحياة وبين المعوقات.

وسنستعرض في هذه الحلقة الضوابط التي وضعها القرآن الكريم في حديث المرأة وخطابها مع الرجال الأجانب.

  ضابطان أساسيان:

لقد حدد القرآن الكريم ضابطين أساسيين ينبغي أنْ توفّرهما المرأة في خطابها: ( يَا نِسَاءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) الأحزاب / 32.

الضابط الأول:عدم الخضوع بالقول (ضابط كيفي).

ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الآية وإن كانت خطاباً لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّها تشكّل خطاباً عاماً للنساء المسلمات جميعاً، وأنّ نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينبغي أنْ يكنّ الأكثر التزاماً من غيرهنَّ من النساء باعتبار مكانتهنَّ من القيادة الإسلامية، وما يستتبع ذلك من دور خطير وكبير, فيجب عليهنّ أن يكنَّ بمستوى المسؤولية في سلوكهنّ:

( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) هذه هي طبيعة القيادة في الإسلام، فإنها لا تعني الامتيازات.. بل تعني مضاعفة التكليف والقيام بأعباء الأسوة والقدوة..

ولهذا فأنَّ الخطاب القرآني يمثل تشريعاًً عاماً للنساء المسلمات: ( فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ).

وبجدر بنا هنا أنْ نقف على تفاصيل هذين الضابطين لمعرفة أبعادهما: فما معنى الخضوع بالقول في الآية المباركة؟

يقول صاحب تفسير الميزان: (هو ترقيق الكلام وتليينه مع الرجال، بحيث يدعو إلى الريبة، ويثير الشهوة).

ويقول صاحب تفسير مجمع البيان: (لا ترقِقْن القول ولا وتلن الكلام للرجال، ولا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدي إلى طمعهم، كما تفعل المرأة التي تظهر الرغبة في الرجال).

 فالخضوع بالقول إذاً هو طريقة معينة، وكيفية خاصة، في حديث المرأة، فيها نوع من الترقيق والتليين، بحيث تبدو لضعفاء الإيمان من الرجال والذين في قلوبهم مرض، وكأنَّها تدعوهم إلى نفسها، فيحاولون أن يتعاملوا معها هذا الأساس.

أنّ كثيراً من النساء اللواتي لم يكنَّ ملتفتات إلى ضابط الكيفية والطريقة في الحديث والكلام، يتعرضن لإزعاجات مرضى القلوب الذين يتعاملون مع المرأة كأنثى ، وأداة لإثارة الغرائز، وليست كإنسانة لها دورها ومكانتها وشخصيتها في المجتمع.

فهؤلاء يوحون إلى نفوسهم المريضة بأن هذا الترقيق ما هو إلاّ إشارة خجولة، ودعوة حيّة، ولكنها ـ على أية حال ـ عملية وخفية! فيبدءون من خلال تأويلاتهم المريضة إثارة بعض الأمور التي تسيء إلى المرأة التي قد لا تكون منتبهةً إلى ما ذهب إليه هؤلاء من تأويلات وتفسيرات!

ولهذا لم تكتف الآية المباركة بالنهي عن الخضوع بالقول، وإنما أعطت السبب الذي من أجله جاء هذا الخطاب بالنهي، لتبيّن أنّه لم يأت رغبةً في تحجيم فاعلية المرأة، وتثبيط حركتها في المجتمع، وشل دورها، وإنّما جاء من أجل مصلحتها هي أولاً وقبل كل شئ، لتقوم بدورها ووظيفتها بصورةٍ أكثر فاعلية، بعيداً عن العوائق والمنغصات ( فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ).

وذكر التعليل لكثير من الأحكام ظاهرة قرآنية نجدها في الكثير من التشريعات، لأنّ ذلك يساهم في التبصر بأهداف ومقاصد التشريع، مما يهيئ النفوس في التعامل معه بحرصٍ وفاعلية.

ففي آية الجلابيب نجد أنّ الآية المباركة ذكرت التعليل بقوله ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جلابيبهن ذلِكَ أَدْنَى‏ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ )  الأحزاب / 59. فالحجاب لم يأت هو كذلك لكي يحجم المرأة ويعرقل حركتها ويمنعها من الانطلاق .. بل على العكس من ذلك ليجعلها تعمل وتتحرك وهي تتمتع باحترام الآخرين وتقديرهم ، لما يبدو من ظاهرها أنّها إنسانة صالحة ترفض أن يُتعامل معها كأداة للإثارة ، ومعرض للمفاتن والزينة.

إنَّ التصريح بالتعليل بعد ذكر النهي أو الأمر التشريعي ، يوضح وبجلاء أنَّ هذه التشريعات لم تأتِ بصورةٍ اعتباطية، وإنما تحملُ من المصالح والأهداف الكبيرة ما يعود نفعها وإيجابياتها لصالح المكلّف، وإن أحسّ بمسؤوليتها وثقلها وتكليفها…

وهكذا جاء التعليل في قوله تعالى: ( فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ليضعنا أمام النتيجة السيئة التي سنحصل عليها فيما إذا لم نلتزم بهذا الضابط القرآني .. الذي بدونه لا يمكن أن تعيش المرأة في المجتمع بكامل شخصيتها وكرامتها.. ولا يتحقق الاحترام المتبادل بين قبيل النساء وقبيل الرجال.. فما أكثر مرضى القلوب الذي يؤوّلون الإشارات وتثير غرائزهم الأصوات!

  الضابط الثاني: القول المعروف (ضابط مضموني).

أما الضابط الثاني الذي حددته الآية المباركة فيتعلق بالمحتوى والمضمون للحديث والقول: ( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

فما هي مواصفات القول بالمعروف وما هي أبعاده؟

يقول صاحب تفسير الميزان: في قوله تعالى: ( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (أي كلاماً مستقيماً يعرفه الشرع والعرف الإسلامي، وهو القول الذي لا يُشير بلحنهِ إلى أكثر من مدلوله، مُعرّىً عن الإيماء إلى فسادٍ وريبة). 

ويقول صاحب مجمع البحرين: ( مستقيماً جميلاً بريئاً من التهمة، بعيداً من الريبة، موافقاً للدين والإسلام).

 ويقول صاحب في ظلال القرآن: (نهاهنَّ من قبلُ عن النبرة اللينة، واللهجة الخاضعة، وأمرهُنَّ في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يُطمع فيه مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحنٌ ولا إيماء، ولا هذرٌ ولا هزل، ولا دُعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلاً إلى شيء آخر وراءه من قريب أم بعيد).

ويظهر من أقوال المفسرين وسياق الآية أنَّ القول المعروف الذي أمرت به الآية المباركة: ( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) يتعلق بمحتوى الكلام ومضمونه، بحيث يقتصر على أمور معروفة متداولة، بحسب طبيعة الأشياء، خالياً من أيِّ إضافات وتعبيرات موحية مثيرة.

 ولهذا فإن حديث المزاح والدعابة ليس من قول المعروف، وإنّ استعمال الكلمات الموحية والمثيرة ليس من القول المعروف، وإن الكلام الذي يدور حول موضوع مثير وحساس ليس من القول المعروف.

  وماذا يقول الفقهاء؟

كان حديثا يدور حول تفسير الآية المباركة، وما هي إيحاءات التعابير القرآنية فيها.. إلا أنّهُ من الجميل أن نقف على ما استفادهُ الفقهاء من هذه الآية المباركة وغيرها من الأحاديث والروايات.. بخصوص صوت المرأة وحديثها مع الرجال الأجانب عنها.

يقول صاحب العروة الوثقى:

(لا بأس بسماع صوت الأجنبية ما لم يكن تلذذ ولا ريبة، من غير فرق بين الأعمى والبصير، وإن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة، ويحرم عليها إسماع الصوت الذي فيه تهييج للسماع مع تحسينه وترقيقه. قال تعالى: ( فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )).

ويقول الشهيد مرتضى المطهري في كتابة مسألة الحجاب: (أن مسألة جواز استماع صوت المرأة من بديهيات الفقه، ودليلها السيرة القطعية بين المسلمين، وخصوصاً السيرة التي ثبتت تاريخياً أنّها كانت قائمة في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام). مضافاً إلى أن مفهوم الآية: ( فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ.ِ..) هو جواز التحدث دون خضوع وغُنج في القول, فتكون الآية نفسها دليلاً على جواز سُماع صوت الأجنبية).

ويضيف العلامة المطهري قائلاً:

(وتفرّد الشهيد الأول من بين الفقهاء بالقول في اللمعة الدمشقية: (يحرم سماع صوت الأجنبية) وقد احتمل بعض الفقهاء المعاصرين وقوع خطأ في النسخ، فلعله قال (ولا يحرم).

  نموذج تطبيقي:

إن أروع مصداق للقول المعروف للمرأة الصالحة، هو كلام الفتاتين المؤمنتين اللتين بادر موسى (عليه السلام) لمساعدتهما عندما رآهما تذودان عن أغنامهما حتى لا تختلط مع غنم القوم .. فبادرهما (عليه السلام) بالسؤال: ( مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّى‏ يُصْدِرَ الرّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) القصص / 23. كلامٌ مختصرٌ مفيد، متسمٌ بالجدِّ، متدفّقٌ بالحياء..

( لاَ نَسْقِي حَتّى‏ يُصْدِرَ الرّعَاءُ ) ولربما يقول قائل كان يكفي أن تقولا ذلك ..

فلماذا أطالتا الحديث مع ذلك الرجل الغريب ، بقولهما ( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ).

إنَّ قولهما هذا ليس من باب الزيادة وحبَّ الحديث .. وإنما جاءتا به لتبررا خروجهما إلى سقي الأغنام ، لتقولا بأنهما لم تأتيا إلى هذا المكان المزدحم بالرجال طوع إرادتهما، وحباً بالخروج، وإنما خرجتا اضطراراً، ذلك لأنَّ أباهما ليس شيخاً فحسب، بل هو شيخٌ كبيرٌ طاعن في السن بحيث لا يطيق الخروج ..

ولهذا فَهَم موسى (عليه السلام) قولهما جيداً ، وقرأ العفّة والحياء، فبادر فوراً بمساعدتهما ( فَسَقَى‏ لَهُمَا ثُمّ تَوَلّى إِلَى الظّلّ )  القصص /  24.

ونقرأ أيضا في قول إحداهما التي جاءته وهي ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قائلة له: (  إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا )  القصص /  25. نقرأ في قولها هذا العفاف والحياء بأروع صورهما .. كلامٌ مختصرٌ مفيد، خالٍ من أيِّ كلمةٍ مثيرة .. إنها تنقل دعوة أبيها فحسب ، ولهذا فإنَّها قدَّمت  ( إِنَّ أَبِي ) قبل أن تبدأ بالدعوة .. بقولها: (  إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) ثم سكتت ..

إنّها نموذجٌ رائع للمرأة الصالحة التي يصفها القرآن الكريم بأروع وصف وأبلغه:

( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) فهي لا تمشي بحياء فحسب بل ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) ! وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية