شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

السيرة النبوية حوادث وسنوات من الولادة حتى السنة الرابعة للهجرة الشريفة

0 المشاركات 00.0 / 5

سقوط دولة.. وقيام أخرى,
( قراءة في ظروف تأسيس دولة بني العبّاس )

حَكَم الأمويّون مدة من الزمان اقتربت من قَرنٍ كامل ( 41 ـ 132 هـ / 661 ـ 750 م ) مدّعين عنوان خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله، فخالفوا سنّته وسيرته، وخالفوا سيرة الخلفاء الأوائل، وتسلّطوا على مقدّرات الدولة الإسلاميّة بقوّة السيف والقهر، وانتزعوا الخلافة من أصحابها الشرعيّين: أمير المؤمنين عليّ وابنيه الحسنَين عليهم السّلام.
وقد بدأ مؤسّس الدولة الأمويّة: معاوية بن أبي سفيان حكمه والياً على الشام من قِبل عمر بن الخطّاب لمدّة عشرين سنة، ثمّ زمن حكم عثمان، ثمّ شقّ عصا الطاعة على حكم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بذريعة المطالبة بدم الخليفة القتيل عثمان، فدارت بين جيشيهما معركة صِفّين الطاحنة الشهيرة. ثمّ عمد معاوية ـ بعد واقعة التحكيم ـ إلى مهاجمة أطراف العراق، في حملات قادها جملة من أتباعه المشهورين: بُسر بن أرطاة، سُفيان بن عَوف الغامدي، الضحّاك بن قيس الفِهري، والنعمان بن بشير، فعاث باستقرار وطمأنينة المسلمين في المناطق التابعة للخليفة الشرعي أمير المؤمنين عليه السّلام الذي تسنّم سدة الخلافة ببيعة المهاجرين والأنصار قاطبة(1).
وبعد شهاده أمير المؤمنين عليه السّلام بضربة ابن مُلجَم المراديّ، حارب معاوية الإمامَ الحسن بن عليّ عليه السّلام الخليفة الشرعيّ الذي بايعه الناس، فأرسل إليه الإمام الحسن جيشاً كبيراً من اثني عشر ألف مُقاتل، وأمّر على الجيش ابن عمّه عُبيد الله بن عباس الذي قُتل ولداه بصورة مُفجعة في اليمن على يد أحد قوّاد معاوية ( بُسر بن أرطاة ) أيّام خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام، فتحرّك الجيش صوب الشام، فلجأ معاوية إلى تطميع قائد الجيش عبيدالله، وأرسل إليه سرّاً خمسمائة ألف درهم، فانحاز في احدى الليالي إلى معاوية ومعه طائفة من أتباعه، ممّا أفضى إلى إضعاف جيش الإمام الحسن عليه السّلام.
ثمّ عمد معاوية إلى تحريك عدد من أتباعه المندسّين في صفوف جيش الإمام الحسن عليه السّلام، فأثاروا جيشه عليه، وثار معهم الخوارج الذين التحقوا بهم في بادئ الأمر لمحاربة معاوية الباغي، وحمل أحدهم على الإمام الحسن عليه السّلام في موضع ساباط بالمدائن، فطعنه في فخذه طعنة بليغة، فحُمل عليه السّلام إلى دار والي المدائن لمعالجته.
ولم يجد الإمام الحسن عليه السّلام ـ وقد رأى غالبيّة جيشه متضعضعة الإيمان، في مقابل جيش الشام الذي دان لمعاوية بالطاعة ـ إلاّ أن يحرص على الثُّلّة المخلصة من أتباعه من الموت والاستئصال المحتّم، فلجأ إلى مُسالمة معاوية على شروطٍ اشترطها عليه، منها أن لا يتعرّض لأحد من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام بسوء، وأن لا يَعهَد بالخلافة لأحدٍ من بعده، وأن يكون الخليفة من بعده الإمام الحسن عليه السّلام(2).
ولمّا استتبّ الأمر لمعاوية، نبذ عَلَناً الشروط التي وعد بالالتزام بها، وقال: « ألا إنّ كلّ شرطٍ أعطيتُه الحسن بن عليّ تحت قَدمَيّ هاتين لا أفي به »(3).
وينبغي القول بأنّ وصول معاوية إلى الحكم كان بقوّة السيف والحيلة والغدر، وأنّه خالف سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسيرة الخلفاء الأوائل، وأنّ الناس سلّموا عليه بالمُلك والسلطنة، وأنّه أوّل من حوّل الخلافة الإسلاميّة إلى المَلكيّة والسلطنة(4).
وعلى الرغم من أنّ معاوية لقّب نفسه بـ « أمير المؤمنين »، إلاّ أنّه حوّل الخلافة الإسلاميّة إلى سلطنة موروثة، وعهد بالخلافة من بعده لابنه يزيد الذي اشتهر بالفسق والفجور، وبَذَل الأموال الطائلة لاستمالة قلوب كبار المسلمين ورغّبهم في قبول البيعة ليزيد ابنه من بعده.
واقتفى حكّام بني أميّة أثر معاوية في بذل أموال المسلمين من أجل تثبيت دعائم حُكمهم، وفي نهب ثروات المسلمين وغصبها، فشطّوا وابتعدوا عن سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسيرة الشيخَين، وسيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام(5).
لقد كان بنو أميّة إلى واقعة فتح مكّة على رأس أعداء النبيّ صلّى الله عليه وآله وأعداء الإسلام الألدّاء، ثمّ توصّلوا إلى الحُكم عن طريق نهب بيت المال من جهة، وبذل الأموال الطائلة لاستمالة الناس إليهم من جهة أخرى، ولمّا اتّضح لعامّة المسلمين مدى مخالفة بني أميّة أحكامَ الإسلام، أوغر ذلك صدور المسلمين عليهم، فكان بنو أميّة كلّما زادوا في ظُلمهم واستبدادهم من أجل تحكيم دعائم حكمهم، اتّضح للناس أكثر فأكثر مدى حقّانيّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله.
وقد أدّت القسوة والهمجيّة البالغتين اللتين تعامل بنو أميّة بهما مع أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في واقعة كربلاء إلى إثارة فِطرة النزعة إلى العدل لدى المسلمين، فزاد أتْباع أهل البيت عليهم السّلام بمرور الزمان. وقد أفاد عبدالله بن الزبير من هذه الفرصة، فثار على يزيد بن معاوية ( 61 ـ 64 هـ )، وعلى مروان بن الحكم ( 65 ـ 66 هـ )، وعلى ابنه عبدالملك بن مروان ( 65 ـ 86 هـ ) مدّة تسع سنوات، وسيطر على جزء كبير من البلاد الإسلاميّة إلى سنة 73 هـ، وكان يرسل ولاته إلى البلدان، ويلقّب نفسه « خليفة المسلمين »، وينصب أميراً للحجّ.
وكانت ثورة التوّابين سنة 64 هـ في الكوفة، ومحاربتهم لحكّام بني أميّة الجائرين، وعلى رأسهم عُبيد الله بن زياد، واستماتتهم في حربهم وجهادهم.. مؤشّراً آخَرَ على انتشار شيعة آل البيت وقوّتهم، وعلى التفاف غالبيّة الناس حول العلويين وال النبيّ صلّى الله عليه وآله مقابل الحكّام الأمويين الظالمين(6).
وبعد قمع ثورة التوّابين، ثار المختار بن أبي عُبيدة الثقفي سنة 65 هـ تُعاضده الثلّة الباقية من التوّابين وأنصار العلويين، والمَوالي خاصّة.. فسيطروا على الكوفة وعلى مناطق كبيرة أخرى من البلاد الإسلاميّة، وأرسل المختار رجلاً من قِبله أميراً للحاجّ في مكّة. وكان التفاف المسلمين وطائفة كبيرة من الموالي حول المختار في ثورته، مؤشراً جديداً على عُمق الجنايات والمظالم التي ارتكبها الحكّام الأمويّون، وعلى النفور الشديد الذي عمّ طبقات المسلمين من الحكم الأمويّ(7).
ومع أنّ عبدالملك بن مروان ( 65 ـ 86 هـ )، وابنه الوليد بن عبدالملك ( 86 ـ 96 هـ ) قد أضفيا على حكمهما قدراً من الثبات والاستقرار الظاهريّين جرّاء السياسة الدمويّة لواليهما على العراق الحجّاج بن يوسف الثقفيّ التي دامت عشرين سنة، لكنّ مظالم الحجّاج وجرائمه كانت متزامنة مع عدد كبير من الثورات والانتفاضات، ومنها ثورة عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث مدعوماً بعدد عظيم من عرب الجنوب المظلومين وبالخوارج الثائرين على ظلم الحكم الأمويّ.
ولمّا مات الحجّاج سنة 95 هـ، ومات الوليد بن عبدالملك سنة 96 هـ، خَلَفَه سُليمان بن عبدالملك ( 96 ـ 99 هـ )، ثمّ عمر بن عبدالعزيز ( 99 ـ 101 هـ ) خفّت وطأة ظلم الأمويين، لكن هذه الفترة كانت قصيرة جدّاً، فقد انعدم من جديد الأسلوب الماكر الهادئ في الحُكم بوفاة عمر بن عبدالعزيز، وتابع الأمويّون بعده أساليبهم التعسّفيّة الظالمة، وخاصّة بمجيء هشام بن عبدالملك ( 105 ـ 125 هـ ) الذي اختار ولاةً عُرفوا بقسوتهم وفظاظتهم ووحشيّتهم، من أمثال عبدالله بن خالد القَسْري، ويوسف بن عمر ( ابن اخت الحجّاج )، فطبّق الظلم والجور شرق البلاد الإسلاميّة.
وكان ازدياد الظلم الأمويّ مقترناً بازدياد نفوذ أهل البيت عليهم السّلام والعلويّين ومودّتهم، حتّى إنّ بعض عمّال بني أميّة في خراسان جرت مُلاحقتهم بتهمة الانحياز إلى العلويّين. ولمّا عُيّن عبدالجبّار بن عبدالرحمن الأزدي والياً على خراسان ألقى في السجن بعض عمّاله وقادته في خراسان بتهمة موالاة آل محمّد صلّى الله عليه وآله والعلويّين، وقَتَل بعضهم الآخر، ومن جملة الذين قتلهم: مُجاشع بن حُريث الأنصاري ( عامل بُخارا )، وخالد بن كثير ( مولى بني تميم وعامل قَهِسْتان )، وحريش بن محمّد الذُّهلي ( ابن عمّ أبي داود حاكم خراسان السابق )(8).
ثمّ حدثت ثورة زيد بن علي بن الحسين عليه السّلام سنة 122 هـ، فقُمعت ثورته بوحشيّة وقُتل على يد يوسف بن عمر حاكم الكوفة، وأُرسل رأسُه إلى هشام بن عبدالملك، وصُلب جسدُه في كُناسة الكوفة أربع سنوات، فأثار ذلك غضب المسلمين المحبّين لأهل البيت عليهم السّلام، وزاد في نقمتهم على الأمويّين.
وأعقب زيداً الشهيد ابنُه يحيى الذي ثار في إقليم خراسان مع طائفة من أتباعه، ثمّ قُضي على ثورته سنة 125 هـ وقُتل في منطقة الجَوْزَجان، وتفرّق أنصار أهل البيت عليهم السّلام مؤقّتاً. وتزامنت ثورة يحيى بن زيد مع إنزال جسد أبيه الشهيد من الخشبة التي صُلب عليها، وإحراق بدنه وإلقاء رماده في نهر الفرات.
ولمّا قُتل يحيى بن زيد، قُطع رأسه وأُرسل به إلى الوليد بن يزيد في الشام ( 125 ـ 126 هـ )، وصُلب جسده في الجوزجان(9).
ولم تنفع هذه الاجراءات القمعيّة الوحشيّة التي مارسها الأمويّين في إرساء دعائم حكمهم المتزلزل، بل أثارت حَنقَ المسلمين وغضبهم عليهم، وضاعفت في نفوذ العلويين وأهل البيت عليهم السّلام وقدرتهم المعنوية، وخاصّة في الكوفة وخراسان.
يقول المؤرّخ العبّاسي « اليعقوبي » حول آثار ثورة زيد في منطقة خراسان: « ولمّا قُتل زيد وكان من أمره ما كان، تحرّكت الشيعة بخراسان وظهر أمرهم، وكَثُر من يأتيهم ويميل معهم، وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أميّة وما نالوا من آل الرسول صلّى الله عليه وآله، حتّى لم يبقَ بلد إلاّ فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة، ورُئيت المنامات، وتُدورست كتب الملاحم »(10).
وفي مطلع القرن الثاني الهجري أقدم محمّد بن علي بن عبدالله بن عباس على التمهيد للقيام بثورة على الحكم الأموي، فأرسل دعاته إلى خراسان، وهي منطقة بعيدة عن « دمشق » مركز الحكم الأموي، ومحيط ملائم للدعوة إلى آل محمّد صلّى الله عليه وآله. وكان هؤلاء الدعاة ـ الذين عُرفوا فيما بعد بدُعاة بني العبّاس ـ يتحدّثون عن مفاسد الأمويين ومظالمهم ومعاملتهم السيّئة، وخاصّة قتلهم ريحانةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله الحسين بن عليّ عليه السّلام في كربلاء مع وُلده وأهل بيته وأنصاره، وسبيهم عيالاته، وقتلهم زيد بن علي وابنه يحيى، ويؤلّبون الناس في خراسان والكوفة ـ بعيداً عن أعين ولاة الأمويّين وعمّالهم ـ على الثورة في وجه الحكم الأموي.
وكانت غالبية المَوالي في خراسان من الناقمين على الأمويين، ومن المُوالين للعلويّين، والمتطلّعين إلى الثورة على الحكم الأمويّ الظالم. وكان الدعاة العبّاسيّون لا يَدْعون الناس إلى رجلٍ بعينه يسمّونه لهم، بل كانوا يدعون الناس إلى رجل من آل محمّد صلّى الله عليه وآله، ويعلّلون عدم ذِكرهم لاسمه بالخوف على حياته والخشية من فشل ثورته(11).
ويُعتقَد أنّ بني العبّاس ثاروا ـ في الظاهر ـ للانتقام من قتلة الحسين عليه السّلام وزيد ويحيى، وأنّهم استغلّوا إلى درجة كبيرة مخالفة الشيعة للحكم الأمويّ، فكانوا يقولون إنّهم إذا انتصروا في ثورتهم سيجتمعون على رجلٍ من وُلد رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وأنّ أصل الثورة وبدايتها كانت على يد ولد عليّ عليه السّلام، ولم يكن أحد يدعو لبني العبّاس، ولهذا السبب كان السفّاح ومَن جاء بعده من الحكّام يحرصون على منع حصول تكتّل للشيعة ولأتباع الإمام عليّ عليه السّلام في منطقة خراسان.
وقد أشار كثير من المؤرخّين ـ تصريحاً أو تلميحاً ـ إلى نفوذ العلويين في خراسان وباقي البلاد الإسلاميّة، وخاصّة إلى الآثار التي خلّفتها ثورة يحيى بن زيد وشهادته في منطقة خراسان، في تعاطف الناس مع آل محمّد صلّى الله عليه وآله والتفافهم حولهم.
وعمد أبو مسلم الخراساني الذي قاد ثورة العبّاسيين في خراسان في أوائل القرن الثاني الهجري إلى أسلوب ناجح، فجعل شعاره آية من آيات القرآن الكريم، هي قوله تعالى أُذِنَ للذينَ يُقاتَلونَ بأنّهم ظُلِموا وإنّ الله على نَصْرِهِم لَقدير ( الحجّ:20) من أجل استقطاب جميع الفئات المناهضة لظُلم الأمويّين وتعسّفهم(12)، فأعاد إلى أذهان المسلمين عداء أبي سفيان ـ رأس بني أميّة ـ للإسلام، ومحاربته للنبيّ صلّى الله عليه وآله، والأذى الذي ألحقه بالمسلمين في مكّة على مدى ثلاث عشرة سنة، ثمّ أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة، فأقام فيها دولة الإسلام، ثمّ أذن الله عزّوجلّ للمسلمين بجهاد المشركين ومحاربتهم، ووعدهم بالنصر على عدوّهم.
وقد نجح هذا الشعار المذكور بشكل عام في استقطاب أنصار العلويين والشيعة، وأتباع الحارث بن سريج، والمَوالي خاصّة، بل استقطب حتّى الخوارج وأهل الذمّة، فاجتمعوا على مناهضة الأمويّين.
ونجح أبو مسلم الخراساني ـ الذي استقطب مختلف فرق الشيعة وأتباعهم ـ في الثأر لآل محمّد صلّى الله عليه وآله بعد تسلّطه على خراسان، وحقّق للشيعة بعض مطالبهم، فقد بادر فور تسلّطه على خراسان إلى اعتقال سلم بن أحوَز المازني قاتِلِ يحيى بن زيد ـ وكان رئيساً لشرطة نصر بن سيّار حاكم خراسان ـ ومن اشترك معه في قتل يحيى، فقتلهم به(13)، ثمّ أمر بإنزال جسد يحيى بن زيد الذي كان مصلوباً منذ زمن الوليد بن يزيد ( 125 ـ 126 هـ )، فصلّى عليه ودَفَنه وبالغ في تكريمه. وأقام أهل خراسان ـ وقد تخلّصوا من ظُلم الأمويّين ـ العزاءَ على يحيى سبعة أيّام، وظلّوا إلى سنة كاملة كلّما وُلد لهم ولد في خراسان سمّوه يحيى أو زيداً(14)، وهو شاهد على ما دخل أهل خراسان من الجزع والحزن على الثائرين العلويّين.
 

السواد شعار العبّاسيّين
يطول المقام في الحديث عن سبب اتّخاذ العبّاسيين للسواد شعاراً لهم، ويعتقد البعض أنّ محمّد بن عليّ بن العبّاس ـ مؤسس الدعوة العبّاسيّة ـ لمّا توفّي حزن عليه دعاة العبّاسيين وأنصارهم، فارتَدَوا السوادَ حزناً عليه(15)، لكنّ هذا الرأي يبدو غير مُستساغ، لأنّ ذلك كان سيُشخّص قائد الحركة ويُفقِدها ـ تبعاً لذلك ـ مُناصرة أتباع العلويّين وشيعتهم، خاصّة وأنّ الطريق كان ما يزال آنذاك طويلاً أمام العبّاسيّين.
والرأي الآخر أنّ أبا مسلم والدعاة العبّاسيين لبسوا السواد بعد قتل إبراهيم الإمام ـ ابن محمّد بن عليّ ـ على يد مروان بن محمّد ( 127 ـ 132 هـ ) في « حميمة » من بلاد الشام(16)، بَيْد أنّ المصادر التاريخيّة تشير إلى أنّ ارتداء السواد في خراسان قد سبق هذا التاريخ، فقد ثار الحارث بن سريج في بلاد خراسان وما وراء النهر سنة 116 هـ وكانت رايته سوداء. يقول ابن خلدون: « وكان الحارث ـ زعيم الأزد في خراسان ـ قد عُزل سنة 116 هـ، فارتدى السواد ودعا الناس إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ودعاهم إلى الرضا »(17).
وبناءً على كلام أبي مسلم الخراساني ـ حسب نقل ابن الأثير ـ فإنّ هذا الشعار يرجع إلى تاريخ أقدم من ذلك، إذ نسبه ابن الأثير إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله في واقعة فتح مكّة.. قال: « خطب ( أبو مسلم ) يوماً، فقام إليه رجل فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟ فقال: حدّثني أبو الزبير، عن جابر بن عبدالله، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله دخل مكّة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة »(18).
وفي تاريخ البَلْعَمي أنّ بني أميّة كانوا يرتدون الملابس الخضراء، وكانت رايتهم خضراء، فأراد أبو مسلم تغيير ذلك، فأمر غلامه أن يرتدي أردية مختلفة الألوان، ففعل الخادم ذلك، فلمّا لبس رداءً أسود قال أبو مسلم: ليس فوق السواد هيبة. وأمر الناس بلبس السواد، وجعله شعاراً(19).
ويعتقد آخرون أنّ ارتداء السواد واتّخاذه شعاراً من قِبل أبي مسلم والعبّاسيين كان بسبب شهادة زيد وابنه يحيى، فقد حزن عليهما أهل خراسان ولبسوا السواد في مأتمهما . وقد نُقل هذا الرأي عن تاريخ البلعمي برواية المدائني(20).
ويبدو أنّ اختيار السواد شعاراً ـ إذا لاحظنا سيرة أبي مسلم في الانتقام من قتلة يحيى بن زيد ـ كان لأجل الانتقام من قتلة العلويين، وقتلة الحسين بن علي عليه السّلام وزيد ويحيى خاصّة(21).
أمّا بشأن ثورة الحارث بن سريج وشعاره ـ نقلاً عن ابن خلدون والطبري، وقد سبقت الإشارة إليه ـ وتَزامنُ موت محمّد بن عليّ مع شهادة يحيى بن زيد بن عليّ ـ وليس إبراهيم الإمام ـ وتسمية أهل خراسان أبناءهم لمدّة سنة كاملة باسم « يحيى »، فإنّ الدلائل التي ذكرناها تشير إلى أنّ اتّخاذ السواد شعاراً كان بسبب شهادة مَن استشهد من أهل البيت عليهم السّلام ونابعاً من نفوذ العلويين والشيعة في خراسان، وليس بسبب موت محمّد بن علي ولا بقتل إبراهيم الإمام، فقد كان ذلك هو السبيل الوحيد لأبي مسلم الخراساني في كسب تأييد أهل خراسان وتعاطفهم، من خلال الحزن على أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.
ولم يسبق للعبّاسيين أن ثاروا على الأمويّين، ولم يسبق أن تحمّلوا منهم من المظالم كما تحمّل العلويّون، ليحصلوا ـ من خلال ذلك ـ على هذا التأييد في الكوفة وخراسان. بل لم يسبق للعبّاسيين أن شاركوا في أيّ ثورة ضدّ الحكم الأمويّ، فقد كان عبدالله بن عبّاس والي البصرة زمن خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ( 36 ـ 40 هـ )، فلمّا نشبت الحرب بين أمير المؤمنين عليه السّلام وبين معاوية لم يشارك فيها.
وكان أخوه عُبيد الله بن العبّاس في اليمن، فتركها لمّا هاجمها بُسر بن أرطاة ـ أحد قوّاد معاوية ـ ولجأ إلى الكوفة في زمن أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ نصبه الإمام الحسن عليه السّلام قائداً لجيشه وسيّره إلى معاوية، فبعث إليه معاوية أموالاً طائلة، فانحاز إليه في احدى الليالي مع جمع من أصحابه، وخلّف جيشَ الحسن عليه السّلام بلاد قائد!!
وكان أخوهما الثالث قُثَم بن العبّاس والياً على مكّة زمن أمير المؤمنين عليه السّلام، ففرّ منها لمّا بلغه أن بُسر بن أرطاة سيهاجمها.
وكان العلويّون والطالبيّون من وُلد جعفر وعقيل ابنَي أبي طالب هم الذين حاموا عن الإمام الحسين عليه السّلام في واقعة كربلاء، أمّا وُلد العبّاس فلم يشترك منهم في كربلاء أحد، واكتفى عبدالله بن عباس برأيه للإمام الحسين عليه السّلام بعدم التوجّه إلى الكوفة.. ولم ينصره!!
وعلى أيّ حال.. لم يشترك أحد من العبّاسيين في ثورة من الثورات التي ناهضت الأمويّين، بل عاشوا في رفاه وطمأنينة ورخاء في ظِلّ الخلفاء الأمويّين، بينما كان الطالبيّون يَصطلون بنار الأمويّين وجحيم ظُلمهم(22).
 

الرضا من آل محمّد صلّى الله عليه وآله
أشرنا سابقاً إلى أنّ أبا مسلم الخراساني وسائر الدعاة العباسيّين كانوا يأبون الافصاح عن اسم صاحب الدعوة، وكانوا يُعلّلون ذلك بالخوف على حياته إذا انكشف أمره لبني أميّة، وكانوا يؤجّلون الإعلان عن هويّة مَن يدعو الناس إليه إلى ما بعد انتصار دعوتهم(23).
حتّى إنّ هؤلاء الدعاة لمّا كانوا يدعون في الكوفة ـ وهي منطقة عُرفت خلال تاريخها الطويل بالتشيّع والتأييد للعلويّين ـ كانوا لا يُصرّحون باسم مَن يدعون الناس إليه، ويكتفون بالتلميح إلى أنّه من العلويّين.
وكان أبو سلمة ـ الذي عُرف بعد نجاح الدعوة العبّاسية بوزير آل محمّد ـ يدعو الناس في الكوفة زمن بني أميّة إلى الثورة على الأمويّين، ويدعوهم إلى ( الرضا من آل محمّد عليهم السّلام ). وقد بدأ أبو سلمة دعوته إلى العلويّين(24)، لأنّ أهل الكوفة لم يكونوا يهتمّون بالعبّاسيين، ولأنّهم كانوا يعتبرون الخلافة والإمامة والزعامة حقّاً طبيعيّاً للعلويّين.
وذكرنا قبلاً أن الحارث بن سريج الذي أظهر الدعوة قبل العبّاسيين إنّما كان يدعو إلى ( الرضا ) أي الرضا من آل محمّد، ولم يكن الحارث يدعو إلى نفسه، فقد كانت الأرضيّة المساعدة في خراسان مهيّئة للدعوة إلى آل محمّد صلّى الله عليه وآله دون سواهم.
وعلى أيّ حال، فقد أكّد المؤرّخون على أنّ اختيار شعار ( الرضا من آل محمّد ) من قِبل أبي مسلم الخراسانيّ كان خطوة ذكيّة حاذقة منه(25). وقد نبّه حسن إبراهيم حسن على أنّ بني العبّاس تعمّدوا دعوة الناس إلى أهل البيت وإلى الرضا من آل محمّد، حرصاً منهم على اجتناب معارضة العلويّين لهم، وكسباً منهم لرضاهم وتأييدهم(26). ويصدق هذا الأمر على عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر الذي دعا الناس إلى الرضا من آل محمّد، فقد سُئل: عَلام نُبايع ؟ فقال: على ما أحببتم وكرهتم. فبايعوه على ذلك؛ وهو دليل على أنّ الناس كانوا يفهمون من تعبير ( الرضا ) أو ( الرضا من آل محمّد ) أهل البيت عليهم السّلام(27).
وهناك نماذج تاريخيّة كثيرة تدلّل على أنّ دعاة بني العبّاس قد توسلّوا بهذا الشعار، وتشير إلى نفور الناس من الأموين الظالمين وتعاطفهم مع أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.
من جملتها: أنّ نصر بن سيّار لمّا فرّ إلى قُومس وجُرجان، والتحق به نُباتة بن حنظلة حاكم جرجان مع قوّات قَدِمت من الشام، كان لهؤلاء التفوّق الكبير على القائد الذي أرسله أبو مسلم الخراساني، وهو « قحطبة بن شبيب »، فخطب قحطبة في أهل خراسان يحرّضهم ويستحثّهم لمقارعة الجيش الأموي، وكان من جملة كلامه « يا أهل خراسان، أتدرون إلى مَن تسيرون ؟ ومَن تقاتلون ؟ إنّما تقاتلون بقيّة قومٍ حرقوا بيت الله تعالى... وأخافوا أهل البرّ والتقوى من عِترة رسول الله، فسلّطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم.. لأنّكم طلبتموهم بالثأر»(28).
ومن الجدير بالتأمّل أنّ محمّد بن خالد شيخ القبائل العربية الجنوبيّة، قام بالهجوم على قصر الإمارة في الكوفة ليلة العاشر من المحرّم، فاحتلّ القصر وهرب الأمويّون منه، وذلك قبل أن تصل طلائع جيش الحسن بن قحطبة، وهو القائد الذي أرسله أبو مسلم الخراساني إلى الكوفة. وكان في اختيار زمن الهجوم في ليلة العاشر من المحرّم صبغة علويّة تذكّر الناس بجنايات الأمويّين، وتُعيد إلى أذهانهم ثورة الإمام الحسين عليه السّلام وباقي أهل البيت عليهم السّلام في وجه الحكم الأمويّ الجائر(29).
ولقد تزامنت حركة أبي مسلم الخراساني مع ثورة عبدالله بن معاوية في الكوفة ـ من ولد جعفر بن أبي طالب ـ، وسيطر مع عامل بني أميّة في البداية، ثمّ التحق به أهل المدائن واشتبكوا مع عامل بني أميّة في الحيرة « عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز »، ثمّ لحقت الهزيمة بجيش عبدالله بن معاوية بسبب خيانة بعض القادة اليمنيين الذين كانوا قد بايعوه، ومنهم عبدالله بن خالد القَسْري، فانسحب عبدالله بجيشه. ثمّ إنّ قبيلة ربيعة والشيعة الزيديّة ناصروه، فتمكّن بمناصرتهم وبثبات جماعة معه من عبيد الكوفة من السيطرة على مناطق حُلوان وجبال وهَمَدان وإصفهان والرَّيّ(30).
ثمّ إنّه التقى بجيش عامر بن ضبارة ـ قائد جيش مروان ـ فانهزم بعض أتباع عبدالله بن معاوية ولم يثبتوا لهم، فلجأ عبدالله إلى أبي مسلم الخراساني، فسجنه أبو مسلم. وذكر أبو الفرج الإصفهاني ـ الزيديّ المذهب ـ في كتابه ( مقاتل الطالبيين ) بعض أوصاف عبدالله بن معاوية، وقال فيه: « وكان عبدالله بن معاوية جواداً فارساً شاعراً، ولكنّه كان سيّئَ السيرة رديء المذهب، قتّالاً، مستظهراً ببطانة السوء »، ثمّ قال: « ولولا أن يُظَنّ أنّ خبره لم يقع علينا لما ذكرناه مع من ذكرناه »(31).
ويبدو أنّ العلة التي تُمكّن أبا مسلم من إلقاء القبض على عبدالله بن معاوية وسجنه في بداية أمره، هي اشتهار عبدالله بعدم رعاية سيرة العلويّين والطالبيّين. أمّا السبب الذي دعا أبا سلمة ـ قبل وصول جيش أبي مسلم إلى الكوفة ـ إلى دعوة العلويّين وأهل البيت إلى قبول الخلافة، فراجعٌ إلى الموقع الذي احتلّوه في الكوفة، وفيه إشارة إلى أن صاحب الدعوة لم يكن مشخّصًا للناس يومئذٍ، وإلى استغلال العبّاسيين لتعاطف الناس مع أهل البيت ومع العلويين من أجل إنجاح دعوتهم.
وعلى أيّ حال، فقد بويع عبدالله السفّاح بالخلافة من قِبل قادة جيش أبي مسلم، فارتقى المنبر في مسجد الكوفة وبدأ خطبته بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وآله، ثمّ تطرّق إلى هتك بني أميّة للحُرمات، وتخريبهم الكعبة، وذَكَر سائر قبائح أفعالهم وسيرتهم(32)، ثمّ أشار إلى قرابته من النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتلا الآيات القرآنية إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تطهيراً ( الأحزاب:33 )؛ قُل لا أسألُكُم علَيه أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى ( الشورى:23 )؛ وأنْذِرْ عَشيرتَكَ الأقربين ( الشعراء: 214 )؛ ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ من أهلِ القُرى فللهِ وللرسولِ ولذي القُربى واليتامى... ( الحشر: 7 )؛ وآية الخمس واعلَموا أنّما غَنِمتُم مِن شيءٍ فأنّ للهِ خُمُسَهُ وللرسولِ ولذي القُربى واليتامى... ( الأنفال: 41 )، وذكر أنّه من ذوي القُربى.
ثمّ أعقبه عمُّه داود بن عليّ، فارتقى المنبر وذكر أنّ بني العبّاس هم الثائرون لدماء الطالبيين، وقال إنّ عبدالله السفّاح هو أوّل خليفة شرعيّ بعد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام(33).
واستمر العبّاسيّون بعد ذلك يذكرون مظالم بني أميّة ومفاسدهم، ويلقّبون أنفسهم بأنّهم المطالبون بدماء الطالبيين وأهل البيت التي سفكها الأمويّون. ولمّا انتصر السفّاح على مروان بن محمّد، أرسل برأسه إلى خراسان ليُطاف به في مُدنها، من أجل إدخال السرور على أهلها الذين كانوا يمقتون بني أميّة، وليقدّم نفسه على أنّه المنتقم لدماء العلويّين، وقد أسرف السفّاح في سفك دماء الأمويّين، حتّى لُقّب بـ « السفّاح ».
وقد ذكر المؤرّخون أنّ السفّاح أعطى الأمان لسليمان بن هشام بن عبدالملك وولدَيه، ثمّ أمر غلامه ( سديفاً ) فقرأ أشعاراً ذكر فيها شهادة الإمام الحسين عليه السّلام وزيد بن علي وحمزة بن عبدالمطّلب، فغلى الدم في عروقه وأمر بقتل سُليمان وولدَيه(34).
ونقل المؤرّخ المسعودي أنّ السفّاح قتل من بني أميّة طائفة، ثمّ

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية