شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

مأساة كربلائية أخرى.. في زمن العباسيين (فصول من رواية)

0 المشاركات 00.0 / 5

مأساة كربلائية أخرى.. في زمن العباسيين (فصول من رواية)

يزيد.. يُولَد من جديد
في ذي القعدة من سنة 236 هـ تقرر أن تقوم أمّ المتوكل ـ وهي جارية تركية اسمها « شجاع » ـ برحلة الى الحجاز لأداء فريضة الحج مصطحبةً حفيدها « محمد المنتصر » الذي بلغ سنّ الرجال، وظهرت عليه سيماء الرزانة والعقل.. كما تقرر أيضاً أن يقوم « الخليفة » بتشييع والدته و وريثه على العرش حتى منطقة النجف، حيث تنهض في تلك البقعة الجرداء من ضواحي الكوفة قبةٌ بيضاء يرقد في ظلالها بطل الاسلام الخالد علي بن أبي طالب..
وتحرك موكب والدة الخليفة وحفيده الذي عُيّن أخيراً على موسم الحج لهذا العام.
وعلى مقربة من القبة البيضاء الناصعة، وفيما كانت نسائم نيسان تهب مُنعِشةً.. جرى وَداعٌ عادي بين الأب وابنه والابن ووالدته. وعندما غابت قافلة « شجاع » التي يحفّها نحرس خاص.. ألقى المتوكّل نظرة على القبّة البيضاء أودعها كلَّ أحقاده وعُقَده النفسيّة..
ورأى طريقاً يتفرع من طريق القوافل فسأل عنه. أجابه أحد مرافقيه بأنه طريق يتجه الى كربلاء.. من بعيد لاحت قافلة تتجه نحوها، ورجالٌ يترجلون عن دوابّهم مفضّلين السير مشياً على الأقدام، فتساءل عن سرّ ذلك فقيل له.. إن العشق يبلغ ببعضهم بحيث ينطلق لزيارة مرقد الحسين مشياً على الاقدام!!
كاد المتوكل يتفجّر غيظاً وحقداً لِما يرى ويسمع.. قفز على صهوة جواده وألهبه بالسياط عائداً أدراجه الى سامراء فتبعه جنوده وبطانته..
من يرى عينَي المتوكل في تلك اللحظات سيكتشف جحيماً مدمِّراً يموج بالحقد والجريمة، وسيحدس وحشية الإجراءات القادمة..
لم يكد يضع قدمه في سامراء حتى أوعز الى وزيره الجديد عبيدالله بن يحيى أن يرسل الى حاكم بغداد تعليمات مشدّدة بمنع زيارة مرقد الحسين في كربلاء.
كان البريد السريع ينقل بواسطة الحمام الزاجل، ولذا هبط في قصر محمد بن اسحاق حاكم بغداد طائر يحمل أوامر خطيرة، وعلى الفور اتُّخِذت اجراءات لتنفيد أمر الخليفة، وانطلقت مفارز مسلّحة باتجاه كربلاء حيث اتخذت مواقعها حول المرقد..
وقرأ قائد الشرطة بياناً جاء فيه:
ـ ان الدولة تمنع ـ واعتباراً من بعد غد ـ زيارةَ الحسين بن علي، وانه « مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة فسيكون مصيره السجن في المِطْبق ».
أمرٌ عجيب، كل شيء يمضي عكس ما يريده المتوكل! قوافل الزوّار تتدفق نحو كربلاء.. الدموع تموج في العيون .. والقلوب يعتصرها الألم..
ـ يا حسين يا مظلوم.. يا ريحانة محمد وسبط الرسول.. يابن فاطمة الزهراء..
يزيد يولد مرّة أخرى .. يزيد الجديد، يريد ذبح الحسين من جديد!
انتهت أيام الانذار الثلاثة.. وانفجر الوضع بحدوث اشتباكات عنيفة بين الوافدين للزيارة وقوات الشرطة، ولم تنفع التعزيزات العسكرية القادمة من الكوفة في ثني الناس عن التهافت.. وبلغت المأساة ذروتها في سقوط القتلى والجرحى بعد أن حدث اشتباك عنيف استخدم فيه الجيش اسلحته.. وصلت سامراء تقاريرُ تعكس خطورة الأوضاع .. من أجل هذا صدرت أوامر شخصية من المتوكّل تطلب من جميع القوات المرابطة في كربلاء بالانسحاب والإعلان أنها جاءت في مهمّة للصالح العام.
وفي بغداد حدث لغط بسبب الإجراءات التعسفية وإقدام المتوكّل على منع زيارة الأولياء والشهداء والصديقين.. وهل هناك ما هو أقدس من ريحانة النبي الحسين ابن فاطمة الزهراء ؟! وبدت الاوضاع مشحونة بالخطر خاصّة في الكوفة، وبدأ الجواسيس نشاطاً مسعوراً في نقل التقارير التي يُشَمّ فيها رائحة المعارضة للحكم..
وفي بغداد دُوهِم منزل المحدّث نصر بن علي الجَهمي بسبب نقله حديثاً عن أهل البيت جاء فيه بعد إسناد متّصل: إنّ رسول الله أخذ بيد الحسن والحسين وقال: «مَن احبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة».
وفُسّر الحديث بأنه مناهض لسياسة المتوكل.. فصدرت أوامر من سامراء بضربه ألف سوط.. وبدأ بعضهم بالتوسط لدى الخليفة مركّزاً على نقطة مهمّة أن المحدّث ليس شيعياً، وعندها استُؤنف الحكم مرّة أخرى لتصبح العقوبة النهائية خمسمئة سوط فقط!
وفي بغداد أيضاً وقعت حوادث غامضة.. فقد توفي «الحسن بن سهل» أخو الوزير المشهور «الفضل بن سهل» وجاء في التقارير أنه تناول شربة من دواء تُوفّي أثرها على الفور، وذلك في صباح يوم الخميس المصادف 5 ذوالحجة، وفي يوم الجمعة توفي حاكم بغداد محمد بن اسحاق!
فأُسندت قيادة شرطة بغداد إلى محمد بن عبدالله بن طاهر الذي اصبح حاكماً على بغداد والكوفة اضافة الى اقليم خراسان بسبب ولائه المطلق للمتوكّل وعدائه للعلويين.
وبلغت اجراءات منع الزيارة ذروتها مع مطلع محرّم الحرام حيث تزداد وتيرة الزيارة لتبلغَ أوجها يوم عاشوراء.. امتلأت زنزانات سجن المطبق الرهيب بالابرياء من الذين اعتُقِلوا بسبب زيارة الحسين..
في سامراء كان الحزن يغمر منزل الإمام علي الهادي بسبب ما يجري من انتهاكات واجراءات ظالمة، فبينما يعيش المنحرفون والساقطون في رغد من العيش، يحيا الاحرار حياة لا تُطاق.. جوع، تشرد وحرمان.. خاصّة ابناء علي، انهم لايستطيعون الزواج.. ان الحكم الأموي لم يبلغ هذه الدرجة من الانحطاط ما بلغها في عهد المتوكّل!!
فبينما يتلوّى نصر بن علي الجهمي تحت السياط بسبب نقله حديثاً عن أهل البيت عليهم السّلام اذا يحيى بن اكثم ـ الذي ملأت بغداد حكايات شذوذه الجنسي ـ يُستدعى الى سامراء لتسلّم سلطة القضاء ورئاسة محكمة الاستئناف.
الوقت الآن قبل منتصف الليل في تموز سنة 851 م / 6 محرم الحرام سنة 237 هـ الخليفة مع شلّته التي يجتمع بها كل ليلة.. وقد انضم اليها مؤخراً الوزير عبدالله بن يحيى، والقاضي ابن اكثم ولم يعد المرء يفرّق بين اجتماعات البلاط وحفلات المجون، فكل الذين يشاركون في الأولى يحضرون في الثانية، وكلّ ماينطق به الطاغية أمر نافذ لاتراجع عنه ولانقاش فيه.. لقد بدأ عصر الإرهاب والحكم المطلق والطغيان حيث تصبح لمنافع الحاكم ورغباته الأولوية، أما الدولة والبلاد والشعب فإلى الجحيم..
ماذا ينقص المتوكّل؟! حرس قوي مجهز بالسلاح؛ ووزراء متملّقون، وحاشية فاسدة.. وجيش لايعرف غير تنفيذ الأوامر واستلام المرتّبات الشهرية..
في سامراء استيقظت في النفوس حمّى الثراء وجَمْع المال.. الذهب، الجواهر.. لَكأنّ نفس الحاكم الدنيئة توقظ الغرائز المنحطة والميول الفاسدة والاطماع.. في قصر «زوجة الخليفة» هناك عمال مستورَدون لتنفيذ عمليات حفر غامضة تحت القصر سراديب ممرّات رهيبة تحت الأرض وأنفاق سرّية.
وبدأ زمن الصعود على جثث الأبرياء.. من العلويين والمتعاطفين مع أهل البيت عليهم السّلام، وفُرض الحصار على منزل علي بن محمد الهادي فلم يَعُد يخرج الى المدينة ولا يزوره أحد..
وفيما كان الحرس التركي يتخذ مواقعه كان المتوكّل قد بدأ سهرته الليلة الماجنة؛ لتنطلق الضحكات الخليعة وتُمارَس ألوان الآثام والخطايا.. حيث يسقط الإنسان في هاوية الرذيلة.
 

الأيدي اليهودية
من عادة الطاغية اذا أراد القيام بعمل خطير أن يتأكد أولاً من ولاء حرسه الخاص..
أنه قوي مرهوب اذا كان له حرس شديد لايعرف غيرتنفيذ الأوامر..
ومن عاداته أيضاً أنه في عشية ارتكابه لجريمة ما يستغرق بممارسة لذائذه وشهواته فيكثر عبثه ومرحه..
وفي تلك الليلة من شهر تموز 851 م / محرم الحرام سنة 237 هـ صدرت الأوامر للقوات المرابطة في الكوفة بالزحف الى كربلاء واحتلالها وهدم قبر الحسين عليه السّلام..
وفيما كانت القوات المدجَّجة بالسلاح وأدوات التدمير توقظ الصحراء على امتداد المسافات بين الكوفة وكربلاء .. كان المتوكل يحتفل بليلة ساهرة..
ودارت كؤوس الخمر، وكانت فتاة حسناء ترتدي ثياباً حريرية شفافة تحمل برشاقة كؤوس الخمرة المعتقة، فيما كان صوت طروب يتدفق نشوة وسِحراً.. ان «محبوبة» تسحر بصوتها الرخيم السكارى وتزيدهم سُكْراً الى سُكرهم.
ودخل الوزير عبيدالله بن يحيى وعيناه تبرقان بالظفر، كان يحمل سيفاً مهنداً.. تقدم باتجاه الخليفة وانحنى أمامه بملق وتخضع وسلّمه السيف قائلاً:
ـ هذا السيف الذي كنت تطلبه.. لقد وصل سامراء في المساء. أمسك الخليفة بالسيف .. وسلّه من الغمد.. وتمتم منتشياً:
ـ سيف عجيب!!
السيف يبرق بسبب أضواء القناديل..وادرك بعضهم أن المتوكل ينتظر كلمات الثناء .. قال البحتري:
ـ إنّه يشبه الهلال ذا ثلاث ليال.
وقال آخر:
ـ بل إنه يشبه بابتسامته حسناءَ ذاتَ دلال.
وقال الوزير:
ـ إن له من الجمال ما دام في يد الخليفة أو في يد الأعوان والرجال.
أعاد المتوكّل السيف إلى غِمده، واشتعلت في رأسه فكرة انتخاب حارس خاص يرافقه دوماً.. من أجل هذا همس في أذن رئيس وزرائه قائلاً:
ـ اطلب لي غلاماً تثق بنجدته وشجاعته.. أدفع له هذا السيف ليكون واقفاً على رأسي لا يفارقني في كل يوم مادمت جالساً.
وبرقت في ذهن ابن خاقان صورة الغلام التركي « باغر » فقال على الفور:
ـ يا سيدي « باغر ».. باغر التركي، ليس هناك من هو في مثل شجاعته وبأسه!
ـ عليّ به!
ـ الآن ؟!
ـ نعم حالاً.
وما أسرع أن دخل «باغر» بطوله الفارع لكأنه العملاق الذي تصوّره حكايات ألف ليلة وليلة.. صعّد المتوكّل بصره في الفتى المفتول العضلات.. عينان صغيرتان ثاقبتان وقسوة في ملامح الوجه وجبين ضيق، وحاجبان مخيفان كخنجرين يتحفزان لتنفيذ جريمة ما.. سلّم المتوكّل السيف شخصياً للغلام التركي الذي مُنح على الفور رتبة قائد عسكري، وسيتقاضى مرتّباً مغرياً.. ان مهمته الوحيدة أن يقف حارساً للخليفة .. انه الوحيد الذي يحق له مرافقة الخليفة في أي مكان من القصر حتّى جناح الحريم، يستطيع أن يقف بازاء الستائر المخملية حيث يتواري الخليفة غارقاً في لذائذه الجنسية التي لاتكاد تنتهي.
كان من المقرر أن يقوم الخليفة بتدشين يَخْته الملكي في الصباح، ولكن الخليفة الذي اسرف كثيراً في شرب الخمر لم يستيقظ إلاّ في الظهر، وقد ظهرت علائم القلق على وجه رئيس وزرائه والمسؤول عن نقل الأخبار.. فهناك ما يستدعي إطْلاع المتوكّل عليه بعد أن وصلت اخبار خطيرة من كربلاء!!
وفي أصيل ذلك اليوم كان اليخت الملكي يرسو على ضفاف القاطول، لم يشأ الفتح اطلاع سيّده على الاخبار إلاّ بعد أن ابتعد اليخت عن المرسى ليلج مياه دجلة التي راحت تحمل اليخت باتجاه الجنوب الشرقي.. وبدت مناظر المدينة وهي تعاكس مجرى التيار كشريط ملوّن، وكانت المنارة أبهى ما يكون في ذلك الاصيل.. وبدت قصور المتوكل حيث ظهر « البرج » شامخاً كعملاق..
التفت المتوكّل الى رئيس الاستخبارات مستفسراً عن آخر الأخبار، قال ابن خاقان:
ـ لقد نفّذ الجيش مهمته واحتل المنطقة المحيطة بقبر الحسين وتمّ هدم البيوت التي بُنيت حوله.. خرّبوا ما يقارب من مئة جريب من الأراضي..ولكن..
ـ ولكن ماذا ؟
ـ تهيّبوا تخريب القبر.. قبر الحسين.. ولم يجدوا عاملاً واحداً ينفّذ لهم ذلك ..
ـ انهم يتمرّدون على أوامري ؟!
ـ يا سيّدي ان الناس يتبركون بزيارته، فهو الحسين ابن فاطمة!
وسمع البعض خليفة المسلمين يسب فاطمة الزهراء!
حتى الشاعر البحتري استاء من ذلك واقشعرّ جسمه، ولكنه انصرف الى ترديد أبيات يتغنّى بها في حضرة الخليفة تهنئةً له بقصره العجيب الذي بناه فوق سفينة.
قال الفتح:
ـ يا سيدي! حتى النصارى امتنعوا عن هدم القبر!
برقت عينا المتوكل بالحقد وصرخ.
ـ اليهود.. عليك باليهود .. إنّهم يفعلون كل شيء من أجل الذهب..
لم يكره المسلمون اليهود مثلما كرهوهم ذلك اليوم.. وكان منظرهم وهم يحملون معاول الهدم كشياطين انبعثت من أصل الجحيم تريد احراق كل الأشياء الجميلة..
العيون اليهودية تبرق بالشر والجريمة والدناءة، وانوفهم المعقوفة تستحيل الى أنوف لذئاب لاتعرف الرحمة، انهم ينطوون على دناءة مقرفة، ولو انبعث لهم موسى بن عمران لقتلوه من أجل عجل ذهبي له بريق يخطف القلوب ويخطف الابصار!
كان الوقت مساءً وقد هيمنت في خرائب البيوت المهدّمة رهبة الظلام، وكان صوت صهيل الخيول وحده يكسر حاجز الصمت الذي جثم فوق المكان..
ليلة العاشر من المحرم مخزونة بحزن سماوي.. حتّى السماء تبدو كابية غارقة في الرماد.. كل شيء يبدو حزيناً، ومنظر الخرائب وصهيل الخيول يُشعل في الذاكرة ما حدث في هذه البقعة من العالم من مأساة وفجيعة.. حتّى نسائم الفرات الندية لم تبدّد مشاعر الحزن والأسى.. الجنود المسلمون يشعرون بالعار وهم يرون عشرات اليهود كالضباع يريدون نبش قبر سبط محمد و ابن فاطمة وعلي.. ومع ذلك فهم يقفون عاجزين عن فعل أي شيء!!
حبّ الحياة الدنيا سلبهم الثأر لكرامتهم المهدورة..وهبّت نسائم معطورة من جهة المرقد الطاهر حيث يرقد الحسين.. الحسين بن علي..
«آه ما أطيبك قبرك وتربتك»!
آه من الأرجاس الأوغاد.. أه من قتلة الأنبياء.. لايتورعون عن ارتكاب كل جريمة من أجل المال.. المال.. الذهب معبودهم الوحيد..
مأساة عاشوراء تنبعث من جديد.. الحسين يقاتل وحيداً من أجل امّة هدرت كرامتها.. من أجل أمّة خضعت للطاغية.. ها هو الحسين يقاتل من جديد ضد طاغية جديد.. المتوكل يحشد جيشه من اليهود.. من احفاد قتلة الأنبياء والمرسلين لنبش قبر الحسين.. لذبح الحسين.. لمحو الحسين. ولكن هيهات .. الحسين اسمه في قلوب الأحرار، ورسمه في حنايا الصدور.. صدور الثوار.
«الديزج» اليهودي الذي عبد العجل الذهبي من دون الله يتقدّم ومعه أولاد الأفاعي والحيّات الى البقعة المباركة.. وهوى السامري على صندوق خشبي تفوح منه رائحة المسك وبدأت الذئاب البشرية تنهش الأرض المقدسة حيث هوى الحسين وحيث هشمت صدرَه عشرةُ خيول مجنونة.
كان «هارون المعرّي» القائد العسكري المرابط مع قوّاته قد نام على اصوات المعاول.. وفي عالم تسبح فيه الأرواح رأى رسولَ الله صلّى الله عليه و آله وسلّم يبصق في وجهه ويطرده!
وطلع الفجر رمادياً وتكشّفت معالم الجريمة.. لقد دُمّر المرقد الطاهر وسُوّي بالتراب..
وجيء بعشرة ثيران لكرب المنطقة وحراثتها وتحويلها الى أرض زراعية..
وشوهد أن الثيران كانت تحيد عن منطقة القبر يميناً أو شمالاً ولم ينفع الضرب الشديد لدفع الثيران لحراثة القبر!
وقدّم اليهودي تقريره ـ بيد مرتجفة بسبب حمى الليلة الفائتة ـ للمسؤول التنفيذي عن المهمة:
ـ فعلتُ ما أمرتَ به.. لم أر شيئاً.. ولم أجد شيئاً!
قال القائد بدناءة:
ـ هل عمّقت في النبش ؟
ـ قد فعلت فما رأيت..
قال القائد وهو ينفذ أمر الخليفة العباسي العاشر:
- افتحوا النهر على الأرض المحروثة.
مثل الطوفان اندفعت مياه الفرات لتغمر الأرض المكروبة.. وحدث شيء عجيب.. المياه لاتغمر البقعة المباركة، راحت تدور حولها فبدت كجزيرة صغيرة.. واحة في قلب الصحراء وقد علا زَبَدُ الماء.
 

الرفض
أطل يوم « عاشوراء » وتضاعف الحزن وقد استحال المتوكل الى « يزيد » آخر؛ اذ أغارت ذئابه من اليهود على بقعة طاهرة تضم رفاة الحسين.. عاشوراء ينبعث من جديد.. والحسين ينهض ليقاتل يزيد الجديد..
كانت البقعة من تلك الأرض، حيث دارت ملحمة الحسين، ما تزال غارقة في المياه ما خلا جزيرة صغيرة لم يمسها الماء. وعمّ الاستياءُ المدنَ الاسلامية.. بما فيها الكوفة وبغداد وسامراء، وتذمّر المسلمون وتجرأ بعضهم على سبّ الخليفة في المحافل العامّة والدعاء عليه في الصلاة.
وانتشرت أبيات شعرية تندّد بجريمة المتوكّل، وكان الناس يرونها مكتوبة على جدران المنازل والجوامع حتّى حفظها الكثير من الناس:

تـا لله إن كـانت أُميّـةُ قـد أتت

 

قتلَ آبـنِ بنـت نبيّـها مظـلومـا

فـلـقد أتـاه بنـو أبيـه بمـِثْلِها

 

هـذا لعَمـرُك قبـرُه مهـدومـا

أسِفـوا علـى أن لا يـكـونـوا

 

شاركوا فـي قتله.. فتَّتَبعوه رميما

وانتشرت الأبيات للشاعر المشرّد دعبل الخزاعي، وكان قد هاجم فيها المتوكّل لدى اعتلائه عرش الحكم، وقد وصفه فيها بالذئب البشري:

الحـمد لله لا صبـرٌ لاجَلَدٌ ولا

 

عزاء إذا أهـلُ الهـوى رقـدوا

خليفة مات لم يحـزن له أحـدٌ

 

وآخـرٌ قـام لم يفـرح به أحدُ

فمـرّ هذا ومرّ الذئب يَتبـعـهُ

 

وقـام هـذا فقام الويـل والنَّكَدُ

وبدأت حملة اعتقالات واسعة طالت الكثير من الابرياء الطيبين، وامتلأت زنزانات المطبق بالمؤمنين من الأحرار الذين ينبض في قلوبهم اسم الحسين.
عمّ الذعر أنحاء البلاد، وألقيَ القبض على كثير من أصدقاء الامام الهادي عليه السّلام في طليعتهم « علي بن جعفر » إذ ورد الى قصر الحكم تقريرٌ رفعه عمر بن فرج يؤكد خطورة على بن جعفر وأنه من زعماء الرافضة..
وسيق الرجل الفاضل الى السجن وكان من المؤكّد أنه سوف يتعرّض الى تعذيب رهيب لدفعه على تقديم كل ما يملك من أجل الخلاص، من أجل هذا أجرى اتصالاً مع أحد الشخصيات ووعده بمنحه ثلاثة آلاف دينار مقابل اطلاق سراحه..
وأسرع الرجل الى الوزير المتنفّذ عبيدالله بن يحيى وبحث معه فكرة التوسط له لدى المتوكل فوعده بذلك.
وفي المساء ـ وكان مزاج الخليفة منفتحاً ـ قال ابن يحيى:
ـ يا سيدي جئتك متوسطاً لاطلاق سراح علي بن جعفر.
فوجئ المتوكل بتصرّف وزيره وقال مستنكراً:
ـ لو شككتُ فيك لقلت أنك رافضي.. اتعرف من هو؟ انه وكيل الهادي..
وتوقف لحظات ليقول بحقد:
ـ انني عازم على قتله.. وأُقسِم أنني لن أُخرِج جثته من السجن إلا بعد ثلاثة أيام..
وشعر عبيدالله بانه ارتكب حماقة كبرى في التوسط من أجل اطلاق رجل شيعي مغضوب عليه من قبل الحاكم.. وجاء الوسيط يستفسر من الوزير الذي قال له بيأس:
ـ لا تُتعِبْ نفسك.. ان عمر بن الفرج كتب عن ابن جعفر بانه رافضي.. إن قتله بات مؤكداً، بل إن المتوكّل أقسم على الا يسلّم جثمانه إلاّ بعد ثلاثة أيام.
وعندما أحيط علي بن جعفر بالنتيجة اصيب بخيبة أمل، ولكنه سطر بعض الرسائل الى كثير من شخصيات الدولة للتوسط في أمره..
وأخيراً نجحت الوساطات واستجاب المتوكل بشرط أن يسدد مبلغاً قدره ثمانين الف درهم فإذا عجز عن دفع المبلغ فليبع غلامه فلان بهذا المبلغ إلى الخليفة وعندها يخلى سبيله.
قالو الوزير مبتهجاً:
ـ وأخيراً سوف تخرج من السجن ليس عليك إلا أن تشهد بأنك بعت المتوكّل غلامَك، فتذهب الى منزلك .. ما رأيك؟
قال السجين:
ـ نعم، سأفعل ذلك.
وأمر الوزير بحضور أحد الكتّاب لتسجيل البيع وضبط شهادة الشهود..
وخلال تلك المدّة .. تألقت في ذاكرته مشاهد لغلامه الطيب الذي نشأ في ظلال الايمان الوارفة.. كيف سيسلّمه الى الطاغوت فيخرجه من النور الى الظلمات ؟!
وعند ما حضر الكاتب والشهود قال السجين بشجاعة مدهشة:
ـ اشهدوا أنه حرّ لوجه الله.
فكتب الوزير تقريراً عما حصل، وما لبث أن جاءت رسالة المتوكّل شديدة القسوة:
ـ يُقَيّد السجين بخمسين رطلاً وتوضع الأغلال في عنقه بوزن خمسين رطلاً ويُرمى في زنزانة ضيقة..
ـ لقد اقتربت النهاية.
صوت دوّى في السجن، كان يودّ أن يقضي السنوات الأخيرة من حياته في المسجد بين تلاوة القرآن والصلاة وقد يحج الى بيت الله حجة الختام ويستريح.. ولكن الحياة في ظلال الطغاة تستحيل الى جحيم لايطاق.. إما أن ينسلخ الإنسان عن إنسانيّته، وإما أن يحيا مكبلاً بالأغلال..
وعند ما سُمح لأسرته باللقاء به، طلب من أولاده أن يحيطوا جميع اصدقائه بالخبر وأن يسعوا في خلاصه بكل وسيلة.. وكتب رسالة الى الإمام بهذا الخصوص فاستلم الجواب في نفس اليوم، وكانت كلمات الإمام وجيزة لكنها تنطوي على ايمان بالله راسخ عميق:
ـ لا واللهِ لا يكون الفرج حتى تَعلم أن الأمر لله وحده.
هزّت الكلمات وجدان السجين المؤمن، لقد نسي حقيقة كبرى أن كل شيء يمضي بمشيئة الله.. الله وحده القاهر الجبار الملك القيّوم الذي بيده مقاليد السماوات والأرض.. لماذا اذن يتوسل بالذين لايملكون من الحول والقوّة شيئاً ؟!
من أجل هذا كتب الى اسرته بوقف جميع مساعيها في اطلاق سراحه وأن تُستردّ جميع رسائله التي سبق أن ارسلها الى اصدقائه ومعارفه.. فمكث في ظلمات السجن..
ولكن الى متى ؟
في البداية واجه السجين مصيره بشجاعة وتحمّل التعذيب بصبر وبسالة، ولكن الجسد الآدمي لايستطيع تحمل سياط العذاب، دائماً هناك من يتراجع في البداية يكتم صرخاته لكبتها، ولكنّ لهيب العذاب يفجر آلاماً رهيبة لا تُحتمل، وعندها تدوي صرخات الاستغاثة، فاذا أُضيفت الى الاغلال والقيود ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.. فإنّ شعوراً مدمّراً بالانسحاق يجتاح المرء، ويدفعه الى التشبث كالغريق بأي شيء.. ولكنّ السجين كان يعي طوال كل تلك الأيام الرهيبة أن عليه أن يستغيث بالله فقط، وأن يُوصِل صوته الى ولي الله.
أما عبدالعظيم الحسني فقد أفلت من قبضة رجال الشرطة ولم يُعرَف له من أثر.
واستلم الامام الهادي عليه السّلام رسالة من السجين جاء فيها: « قد ضاقت نفسي وقد خفت الزيغ يا سيدي ».
وجاء ردّ الأمام: « أمّا اذا بلغ الأمر منك ما قلت فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك ».
في ذلك السرداب المغمور بالسكينة والسلام.. وفي الهزيع الأخير من الليل.. شرع الإمام كفَّيه الى السماء .. إنّه يشهر سلاح الانبياء.
كل شيء يمضي بإرادة الله القاهرة .. بمشيئته وحده..
وشاء الله أن تداهم الحمّى جسد المتوكّل وأن تنصحه والدته باطلاق سراح المعتقلين..وجاء الوزير يبشّر السجين بالحريّة..
وادرك « علي بن جعفر » حينئذٍ أن الايمان الراسخ بالله يهب الإنسان العزّة والكرامة والحريّة الحقيقية..
وزاره الامام مهنّئاً ونصحه بالرحيل الى مكّة:
ـ إن سامرا لم تعد مكاناً آمناً، فارحل الى حرم الله وأمنه..
سوف يعمّ الرعب الأرض، ويخاف المؤمنون سطوة الاشرار.. سيعلو صوت الغناء تراتيلَ القرآن .. سوف تُزخرف القصور بالذهب والفضة، وسوف تتهاوى بيوت الفقراء.. سوف تفرّ كلّ الأشياء الجميلة، وسيخرج الشيطان يعربد ويدمّر، وسينزوي العقل البشري أمام جنون الغرائز..
ولكن معركة الإنسان المؤمن لن تنتهي إلاّ بانتصار الإنسان على الخنزير المتربّص في أعماقه المظلمة..

(من رواية: تراتيل في زمن الذئاب
تأليف: كمال السيّد، ص 239 ـ 257)

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية