شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

صواعقُ كربلاء

0 المشاركات 00.0 / 5

صواعقُ كربلاء..

مقدّمة
الخطابة ليست مهنة، وإنّما قد تكون وظيفةً تخدم قضيّة دينيةً أو إنسانيّة، وما عُرِف النبيّ صلّى الله عليه وآله قبل بعثته الشريفة خطيباً، بل قام في الناس يخطبهم ليُبلّغَهم عن الله تبارك وتعالى ما أُمِر به من أحكام الدين الحنيف وشرائعه وأخلاقه وسُننه، وشؤون الخلافة والإمامة حتّى نزل في ذلك قوله تعالى:  يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إليكَ مِن ربِّكَ وإنْ لَم تَفعَلْ فما بَلّغتَ رسالتَهُ، واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ الناسِ، إنّ اللهَ لا يَهدي القومَ الكافرين ( سورة المائدة:67 ).
فجمَعَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ملأَ الحجيج وقام فيهم خطيباً يبلّغُهم بولاية الإمام عليّ عليه السّلام: ألستُ أَولى بكم من أنفسِكم ؟! قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: ألاَ مَنَ كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه »، فبلّغَ فيه وصايتَه وخلافتَه مِن بعده، وعلى ذلك بايعه مئة وعشرونَ ألفاً ممّن حضر حجّةَ الوداع رجالاً ونساءً، على أنّه عليه السّلام وليُّهم بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله.
فأدّت الخطبة الطويلة المفصّلة في تلك الحجّة الشريفة دَوراً تاريخيّاً، إذ ثَبَّتَت وثيقةً على مدى الأجيال لتكون حُجّةً واضحةً للمواقف الشرعيّة والبيّنات التي يبحث عنها الباصرون على هدىً وكتابٍ منير.
وكذلك خُطَب أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد جُمع قسم منها في ( نهج البلاغة ) تحوي وثائق عظمى في معارف التوحيد ومكارم الأخلاق والشرائع والسنن والسِّير والوقائع التاريخية والشخصيات المعاصرة لأمير المؤمنين سلام الله عليه، ممّا لا يمكن الاستغناء عن أي جملةٍ فيها. وها هي بين أيدينا بعد كتاب الله تعالى والحديث القدسيّ وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ثمّ جاءت خُطَب الإمام الحسن المجتبى سبطِ رسولِ اللهِ وريحانته، تُعرِب عن بيان الحقائق الرساليّة التي جاء بها القرآنُ الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة، والحقائق الاجتماعيّة التي تحكي حالةَ تردّي الأُمّة وانحرافها عن النهج الذي عيّنه الله جَلّ وعلا من خلال كتابه المجيد، ورسوله المحمود الحميد، فاغتُصِبت الخلافة الشرعيّة حتّى آلَت إلى معاوية ليتّخذها حُكماً أمويّاً قوميّاً قَبَليّاً وراثياً، بعيداً عن روح الدين والإنسانيّة، فكان لابدّ من الخُطَب الحَسَنيّة، ثمّ الخطب الحسينيّة، لا سيّما بعد أن تولّى يزيد مقاليد حكم البلاد الإسلاميّة، وقد انتشر الظلم والفساد وضُيِّعتِ أحكام الدين وقيمه العليا، وماج الناس مع النظام الأمويّ وتمرّدوا على الإسلام وأئمّته.
ومع خُطَب أهل البيت عليهم السّلام. ابتداءً من نبيّ الهدى الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى خطبتَي فدك في شأن غصب الخلافة وغصب فدك، ومروراً بخُطب أمير المؤمنين وولديه الإمامين الحسن والحسين صلوات الله عليهم، كانت هنالك خُطَب لعددٍ ممّن ينتسبون لأهل البيت بالنسب وبالسبب، مثل السيّدة المكرّمة عقيلة بني هاشم وآل طالب زينب الكبرى وأختها السيّدة المجلَّلة أمّ كلثوم، وبعض بنات الإمام الحسين عليه السّلام، والشهيد مسلم بن عقيل، وبعض حواريّي الأئمّة عليهم السّلام ممّن وجدوا ضرورة الصدع بالحقّ وردّ عاتيات الضلالة والانحراف والفساد والظلم.
فكان أن انبرت الألسن البليغة عن القلوب المؤمنة الشجاعة الغيورة، فكُنّ تلك الخُطب وثائقَ تاريخيّةً دامغة تدمغ مَن يريد أن ينكر الحقّ أو يُموّه على الحقائق أو يحرّف الوقائع.. نعرض شيئاً منها فيما يخصّ قصّة فاجعة الطفّ العظمى.

* * *

خطبة زينب عليها السّلام في الكوفة
 قال بشير بن خُزيم الأسدي: نظرتُ إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أرَ ـ واللهِ ـ خَفِرةً أنطَقَ منها، كأنّما تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وقد أومأت إلى النّاس أنِ اسكتوا! فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت:
الحمد لله، والصلاةُ على أبي ( محمّدٍ ) وآله الطيّبين الأخيار.
أمّا بعد.. يا أهلَ الكوفة، يا أهلَ الخَتْل والغَدْر! أتبكون ؟! فلا رَقَأتِ الدمعة، ولا هَدَأت الرَّنة، إنّما مَثَلُكم كمَثَلِ التي نَقَضَت غَزْلَها مِن بعد قوّةٍ أنكاثاً تَتّخِذُن أيمانَكم دَخَلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف والنطف، ومَلَقُ الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دِمنة، أو كفضّةٍ على مَلحودة. ألا ساء ما قَدَّمَت لكم أنفسُكم أن سَخِط اللهُ عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!
أتبكون.. وتنتحبون ؟! إي واللهِ فابْكُوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشَنآنِها، ولن تَرحَضوها بغسلٍ بعدها أبداً. وأنّى ترحضون قتلَ سليلِ خاتم الأنبياء، وسيّدِ شباب أهل الجنّة، ومَلاذِ خِيرَتكم، ومَفزَعِ نازلتكم، ومَنارِ حُجّتِكم، ومدّرةِ سُنّتكم ؟!
ألا ساء ما تَزِرون، وبُعداً لكم وسُحقاً! فقلد خاب السعيُ وتَبّتِ الأيدي وخَسِرت الصفقة، وبُؤتُم بغضبٍ من الله وضُرِبت عليكم المذلّة والمسكنة.
ويلكم يا أهلَ الكوفة! أيَّ كَبِدٍ لرسول الله فَرَيتُم ؟ وأيَّ كريمةٍ له أبرزتم ؟ وأيَّ دمٍ له سَفكتُم ؟ وأيّ حُرمةٍ له انتهكتُم ؟!...
قال الراوي: فَوَ اللهِ لقد رأيتُ الناسَ يومئذٍ حَيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيتُه وهو يقول:
بأبي أنتم وأُمّي، كُهولُكُم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يَخزى ولا يُبزى!

* * *

خطبة فاطمة بنت الحسين عليهما السّلام في الكوفة
 روى زيد بن موسى قال: حدّثني أبي عن جَدّي عليه السّلام قال:
خَطَبت فاطمةُ الصغرى بعد أن رُدّت من كربلاء، فقالت:
الحمد لله عددَ الرمل والحصى، وزنةَ العرش إلى الثرى. أحمَدُه وأُومن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأنّ وُلْدَه ذُبِحوا بشطِّ الفرات، بغيرِ ذَحْلٍ ولا تِرات!... إلى أن قالت:
يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء، فإنّا أهلُ بيتٍ ابتلانا اللهُ بكم وابتلاكم بنا، فجعَلَ بلاءنا حسَناً، وجعل عِلمَه عندنا وفهمَه لدينا، فنحن عَيبة علمه، ووعاءُ فهمِه وحكمتِه، وحجّتُه في الأرض لبلاده وعباده، أكرَمَنا اللهُ بكرامته، وفضَّلَنا بنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خَلَق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نَهْباً، كأنّنا أولاد تُرك أو كابُل! كما قتلتم جدَّنا بالأمس، وسيوفكم تَقطُر مِن دمائنا أهلَ البيت لِحقدٍ متقدّم.
قَرَّت بذلك عُيونكم، وفَرِحت قلوبكم؛ افتراءً منكم على الله، ومَكْراً مَكَرتُم واللهُ خير الماكرين. فلا تَدْعُونّكم أنفسُكم إلى الجَذَل بما أصَبتُم مِن دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتابٍ مِن قبلِ أن نَبرأها، إنّ ذلك على الله يسير، لكيلا لا تَأْسَوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، واللهُ لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فَخُور.
تبّاً لكم! فانتظروا اللعنةَ والعذاب، وكأنْ قد حلّ بكم، وتَواتَرت من السّماء نَقِماتٌ فيُسحِتَكم بما كسبتم ويُذيقَ بعضُكم بأسَ بعض، ثمّ تُخلَّدون في العذاب الأليم يومَ القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.
وَيْلكُم! أتدرون أيّة يَدٍ طاعَنَتنا منكم، وأيّة نَفْسٍ نَزَعَت إلى قتالنا ؟ أم بأيّة رِجْلٍ مَشَيتُم إلينا تَبغُون مُحاربتَنا ؟! قَسَت قلوبكم، وغَلُظت أكبادكم، وطُبِع على أفئدتكم، وخُتِم على سمعكم وبصركم، وسَوَّل لكمُ الشيطان وأملى على أفئدتكم، وخُتِم على سمعكم وبصركم، وسَوَّل لكمُ الشيطانُ وأملى لكم، وجعل على بصركم غِشاوةً فأنتم لا تهتدون!
تبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيُّ تِراتٍ لرسول الله قِبَلَكم، وذُخُولٍ ( أي دماءٍ ) له لديكم ؟! بما عَنِدتُم بأخيه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام جَدّي، وبنيهِ عترة الطاهرين الأخيار، وافتخرَ بذلك مُفتخِرُكم فقال:

نحن قَتَلنا عليّاً وبَني علي

 

بسيوفٍ هنديّـةِ ورمـاحِ

وسَبَينا نساءهُم سَبْيَ تُركٍ

 

ونَطَحناهمُ.. فأيُّ نِطـاحِ!

بِفِيك ـ أيُّها القائل ـ الكَثْكَث، ولك الأثلب، افتخرتَ بقتلِ قومٍ زكّاهمُ الله وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس، فاكظِمْ وأقْعِ كما أقعى أبوك، وإنّما لكلّ آمرئٍ ما قدّمت يداه، حَسَدتمونا ـ ويلاً لكم ـ على ما فضَّلَنا اللهُ عليكم.

فمـا ذَنبُنـا أن جاشَ دهراً بُحورُنـا

 

وبحرُكَ ساجٍ لا يُواري الدَّعامِصا ؟!

 ذلكَ فَضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ واللهُ ذو الفضلِ العظيم ،  ومَن لم يَجعلِ اللهُ له نوراً فما له مِن نور .
قال الراوي: فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا: حَسْبُكِ يا ابنةَ الطيّبين؛ فقد أحرَقتِ قلوبنا، وأنضَجتِ نُحورَنا، وأضرَمتِ أجوافنا. فسكتت ( عليها وعلى أبيها الحسين وجدّتها فاطمة السّلام ).

* * *

خطبة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السّلام في الكوفة
 خطبت أمّ كلثوم بنت الإمام عليّ عليه السّلام في الكوفة أيضاً ذلك اليوم مِن وراء كُلَّتها، رافعةً صوتها بالبكاء، فقالت:
ـ يا أهل الكوفةِ سَوْءةً لكم! ما لَكم خَذَلتُم حُسَيناً وقَتَلتموه، وانتهبتُم أمواله وورثتموه، وسَبَيتُم نساءه ونكبتمُوه ؟! فتبّاً لكم وسُحْقاً!
وَيْلكُم! أتدرون أيُّ دَواهٍ دَهَتكم ؟ وأيّ وِزرٍ على ظهوركم حَمَلتم ؟ وأيّ دماءٍ سفكتمُوها ؟ وأيّ كريمةٍ أصَبتموها ؟ وأيّ صِبية سلبتموها ؟ وأيّ أموال انتهبتموها ؟! قَتَلتُم خيرَ رجالاتٍ بعد النبيّ، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون. ثمّ قالت رضوان الله عليها:

قَتَلتُم أخي صبراً فويـلٌ لأُمِّـكم

 

ستُجزَونَ نـاراً حَرُّهـا يتوقّـدُ

سَفَكتُم دمـاءً حـرّمَ اللهُ سَفْكَهـا

 

وحَـرّمَهـا القـرآنُ ثُمّ محمّـدُ

ألا فابشِروا بالنـارِ، إنّـكمُ غـداً

 

لَفـي سَقَرٍ حقّـاً يقينـاً تُخَلَّـدوا

وإنّي لأبكي في حياتي على أخي

 

على خيرِ مَن بعـد النبيِّ سيُولَـدُ

بدمـعٍ غزيرٍ مُستَهـلٍّ مُكَفْكَـفٍ

 

على الخدِّ منّي ذائباً ليس يَجمـدُ

قال الراوي: فضجّ الناسُ بالبكاء والحنين والنَّوح، ونَشَرَت النساء شُعورهنّ، ووَضَعنَ التراب على رؤوسهنّ، وخَمَشنَ وجوههن وضَرَبن خُدودهنّ، ودَعَون بالوَيل والثُّبور، وبكى الرجال، فلم يُرَ باكيةٌ وباكٍ أكثرَ مِن ذلك اليوم!

* * *

خطبة الإمام زين العابدين عليه السّلام في الكوفة:
 ثمّ إنّ زين العابدين ( علي بن الحسين عليهما السّلام ) أومأ إلى الناس أن اسْكُتوا.. فسكتوا، فقام قائماً، فحَمِد الله وأثنى عليه وذكر النبيَّ وصلّى عليه، ثمّ قال:
ـ أيُّها الناس! مَن عَرَفني فقد عَرَفني، ومَن لم يعرفني فأنا عليُّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب صلوات الله عليهم، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات، مِن غير ذَحْل ولا تِرات، أنا ابن مَنِ انتُهِك حريمه، وسُلِب نعيمه، وانتُهِب مالُه، وسُبيَ عياله، أنا ابن مَن قُتل صبراً، وكفى بذلك فَخْراً!
أيُّها الناس، ناشدتُكمُ الله، هل تعلمون أنّكم كتبتُم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسِكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلموه وخذلتموه ؟! فتبّاً لِما قدّمتُم لأنفسكم وسَوءةً لرأيكم، بأيّة عينٍ تنظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ يقول لكم: قتلتُم عِترتي، وانتهكتُم حُرمتي!! فلستم مِن أُمّتي!
قال الراوي: فارتفعت أصوات الناس من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!
فقال الإمام زين العابدين عليه السّلام: رَحِم الله امرءاً قَبِل نصحيتي وحَفِظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته؛ فإنّ لنا في رسول الله أُسوةً حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلُّنا ـ يا ابن رسول الله ـ سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمُرْنا بأمرك ـ يَرحَمُك الله ـ؛ فإنّا حربٌ لحربك وسِلْمٌ لسلمك، لنأخذنّ يزيدَ ونبرأ ممّن ظَلمَك وظَلَمنا.
فقال عليه السّلام: هيهات هيهات أيُّها الغَدَرةُ المَكَرة! حِيلَ بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي مِن قبل ؟! كلاّ وربِّ الراقصات ( أي النوق التي تحمل الماء وهي تتمايل في مشيها كأنها ترقص )؛ فإنّ الجُرحَ لمّا يَندَمل، قُتِل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهلُ بيته معه، ولم يُنسِني ثُكلَ رسول الله وثكل أبي وبني أبي، ووَجْدُه بين لهاتي، ومرارتي بين حناجري وحَلْقي، وغُصَصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا.
ثمّ قال عليه السّلام:

لا غَرْوَ إنْ قُتِلَ الحسينُ وشيخُـهُ

 

قد كان خيراً مِن حسينٍ وأكرمـا

فلا تَفرحوا يا أهلَ كُوفان بالـذي

 

أُصيبَ حسينٌ.. كـان ذلك أعظما

قَتيلٌ بشطّ النهـرِ روحي فِـداؤُهُ

 

جـزاءُ الذي أرداهُ نـارُ جَهَنّمـا

* * *

حوار زينب عليها السّلام في قصر ابن زياد
 قال السيّد ابن طاووس في ( اللهوف ): 
ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد جلس في القصر للناس وأذِن إذْناً عامّاً، وجيء برأس الحسين عليه السّلام فوُضع بين يديه، وأُدخِل نساء الحسين وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت عليّ عليهما السّلام متنكّرة، فسأل عنها فقيل: هي زينب بنت عليّ، فأقبل نحوها فقال:
الحمد لله الذي فضَحَكم، وأكذب أُحدوثتكم!
فقالت: إنّما يُفتَضَح الفاسق ويَكْذب الفاجر، وهو غيرنا!
فقال ( متشمّتاً ): كيف رأيتِ صُنعَ الله بأخيكِ وأهل بيتِك ؟!
قالت: ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاءِ قومٌ كتب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مَضاجِعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُجاجُّ وتُخاصَم، فانظُرْ لِمَن الفَلْج يومئذٍ، ثَكَلَتْكَ أمُّك يا ابن مرجانة!!
فغضب ابن زياد وكأنّه هَمَّ بها ( ليقتلها )، فقال له عمرو بن حُريث: إنّها امرأة، والمرأة لا تُؤاخَذ بشيءٍ من منطقها. فعاد ابن زياد يقول لها: لقد شفى الله قلبي من ( ... ) الحسين و ( من ) أهل بيتكِ! فقالت: لَعَمْري لقد قَتَلتَ كهلي، وقَطَعتَ فَرعي واجتَثَثتَ أصلي، فإن كان هذا شِفاؤُك فقد اشتفيتَ!
وفي رواية الشيخ المفيد رحمه الله: فوضع ابن زياد رأس الحسين بين يديه ينظر إليه ويبتسم، وبيده قضيب يضرب به ثنايا الحسين سلام الله عليه.. فأُدخل عليه عيال الحسين بن عليّ صلوات الله عليه، فدخلت زينب أخت الحسين عليه السّلام في جملتهم متنكّرةً ومضت حتّى جلست ناحية، وحَفَّت بها إماؤها، فسأل ابن زياد:
ـ مَن هذه التي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها ؟!
فلم تُجِبْه زينب، فأعاد القول ثانيةً وثالثة يسأل عنها، فأجابته بعض إمائها:
هذه زينبُ بنتُ فاطمة بنتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فأقبل نحوها ابن زياد قائلاً ( متشمّتاً ): الحمد لله الذي فضحَكُم وقتلكم، وأكذَبَ أُحدوثتكم! فأجابته زينب سلامُ الله عليها:
ـ الحمد لله الذي أكرَمَنا بنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وطهَّرَنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق!

* * *

حوار زين العابدين عليه السّلام مع طاغية الكوفة:
 قال السيّد ابن طاووس في اللهوف وابن نما في ( مثير الأحزان ): ثمّ التفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين فسأل: مَن هذا ؟! فقيل: عليّ بن الحسين، فقال: أليس قد قتل اللهُ عليَّ بن الحسين ؟! فقال عليّ:
ـ قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّ بن الحسين ( أي عليّ الأكبر صلوات الله عليه )، قتَلَه الناس! ( أي المجرمون من أصحابك ). فقال ابن زياد: بلِ اللهُ قتَلَه! فقال عليّ زين العابدين عليه السّلام: اللهُ يَتوفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوتِها والّتي لَم تَمُتْ في مَنامِها ( أي الموت حقّ ومنه يكون على يد الأشقياء الظالمين ).
فقال ابن زياد: ولك جُرأةٌ على جوابي ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه! فسَمِعَت عمّتُه زينب فقالت: يا ابن زياد! إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن عزمتَ على قتله فاقتلْني معه.
قال الشيخ المفيد وابن نما: فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: يا ابن زياد! حَسْبُك مِن دمائنا. واعتَنَقَت زين العابدين ابنَ أخيها وقالت: واللهِ لا أُفارقه، فإنْ قتَلْتَه فاقتُلْني معه.
فنظر ابن زياد إليها ساعة وإليه ساعة، ثمّ قال مع قسوة قلبه: عَجَباً للرَّحِم! واللهِ لأظنُّها وَدَّت أنّي قَتَلتُها معه! دَعُوه؛ فإنّي أراه لِما به.
أضاف السيّد ابن طاووس أنّ زين العابدين عليه السّلام قال لعّمته: اسكتي يا عمّة حتّى أُكلّمَه. ثمّ أقبل عليه السّلام على ابن زياد قائلاً: أبا لقتل تُهّددُني يا ابن زياد ؟! أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة ؟!
ثمّ أمر ابنُ زيادٍ بعليّ بن الحسين عليه السّلام وأهله فحُمِلوا إلى دارٍ جَنْبَ المسجد الأعظم ( في الكوفة )، فقالت زينب: لا يَدخُلَنّ علينا عربيّة إلاّ أمَّ ولدٍ أو مملوكة، فإنّهنّ سُبِين كما سُبينا!

* * *

خطبة زينب عليها السّلام في مجلس يزيد بالشام:
 قال السيّد ابن طاووس وغيره: فقامت زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في مجلس يزيد وقد سَمِعَته يقرأ ابيات ابن الزِّبَعرى:

ليتَ أشياخي ببـدرٍ شَهِـدوا

 

جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ

فأهَلَّـوا واستَهـلُّـوا فَرَحـاً

 

ثمّ قالـوا: يا يزيـدُ لا تُشَلّْ!

لستُ مِن خِنْدَفَ إنْ لم أنتقـمْ

 

مِن بني أحمدَ ما كان فَعَـلْ!

فقالت زينب عليها السّلام في خطبتها تلك:
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله على رسوله وآله أجمعين. صدق الله كذلك يقول:  ثُمّ كانَ عاقبةَ الذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بآياتِ اللهِ وكانُوا بها يَستهزِئُون .
أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة ؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده! فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا! أنَسِيتَ قول الله تعالى:  ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين  ؟!
أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ ؟! تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف! ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ، وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف يستبطئ في بُغضنا أهلَ البيت مَن نظرَ إلينا بالشَّنَف والشَّنآن، والإحَن والأضغان ؟! ثمّ تقول غيرَ متأثّم.. ولا مُستعظِم:

وأهَلُّوا واستَهلُّـوا فرَحَـاً

 

ثمّ قالوا: يا يزيدُ لا تُشَـلّْ!

مُنتَحياً على ثنايا أبي عبدالله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماءَ ذريّة محمّد صلّى الله عليه وآله، ونجومِ الأرض مِن آل عبدالمطلب! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فَلَتَرِدَنّ وَشيكاً مَورِدَهم، ولَتَوَدّنّ أنّك شُلِلتَ وبُكِمتَ ولم يكن قلتَ ما قلتَ وفَعَلتَ ما فعلت.
اَللّهمّ خُذْ بحقِّنا، وانتَقِمْ ممّن ظَلَمَنا، وأحلِلْ غضبَك بمن سفك دماءنا وقتَلَ حُماتَنا. ( ثمّ توجّهت بالتوبيخ إلى يزيد قائلةً له ):
فوَ اللهِ ما فَرَيتَ إلاّ جِلْدَك، ولا جَزَزْتَ إلاّ لحمك، ولَتَرِدنّ على رسول الله بما تحمّلت مِن سَفكِ دماءِ ذريّتهِ، وانتهكتَ مِن حُرمته في عِترته ولُحمته! حيث يجمع الله شملهم، ويَلُمّ شعَثَهم، ويأخذ بحقّهم..  ولا تَحسَبنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون . حَسْبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ خَصيماً، وبجبرئيل ظَهيراً، وسيعلم مَن سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين ( أي أبوك معاوية ) بئس للظالمين بدلاً! وأيُّكم شرٌّ مكاناً وأضعَفُ جُنْداً! 
ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، واستكبر توبيخك!! لكنّ العيون عَبْرى، والصدور حَرّى ( وهنا جاء التنبيه إلى عظم المصيبة والفاجعة التي أوقعها يزيد في آل بيت المصطفى ). ألا فالعَجَب كلّ العجب.. لقتلِ حزبِ الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء! ( ومنهم يزيد الطليق بعد فتح مكّة، ولم يسمح الشرع الشريف للطلقاء أن يتقلّدوا الحُكْم! )، فهذه الأيدي تَنطِف من دمائنا، والأفواه تَتَحلّب مِن لحومنا، وتلك الجُثث الطَّواهر الزواكي تنتابها العَواسِل ( أي الذئاب )، وتهفوها أُمّهاتُ الفَراعل. ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْنَماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ  وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل.
فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها ( أي لا تغسله )، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد!! يوم ينادي المنادي:  ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين !
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكملَ لهم الثواب، ويُوجِبَ لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود، وحسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل.
فقال يزيد:

يا صيحةً.. تُحمَدُ مِن صَوائحِ

 

ما أهونَ الموتَ علَى النوائحِ!

* * *

حوار الإمام السجّاد عليه السّلام مع يزيد:
 قال الشيخ المفيد رحمه الله:
ثمّ قال يزيد لعليّ بن الحسين: يا ابنَ حسين، أبوك قَطَع رحمي وجَهِل حقّي ونازعني سلطاني، فصَنَع اللهُ به ما قد رأيت! فقال عليّ بن الحسين:  ما أصابَ من مصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسِكُم إلاّ في كتابٍ مِن قَبْلِ أن نَبرأَها، إنّ ذلكَ علَى اللهِ يَسيرٌ .
فقال يزيد لابنه خالد: أُردُدْ عليه. فلم يَدرِ خالد ما يردّ عليه، فقال له يزيد: قل: « ما أصابكم مِن مصيبةٍ فبما كسبَتْ أيديكم ويَعفو عن كثير »!
فقال عليّ بن الحسين بعد ذلك: يا ابن معاويةَ وهندٍ وصخر! لم تَزَل النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي مِن قبل أن تُولَد، ولقد كان جدّي عليُّ بن أبي طالب في يوم بدرٍ وأُحد والأحزاب وفي يده راية رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار. ثمّ جعل عليّ بن الحسين عليه السّلام يقول:

ماذا تقولونَ لـو قـالَ النبيُّ لكـم:

 

ماذا فَعَلتُـم، وأنتـم آخِـرُ الأمـمِ

بعِترتـي وبأهلـي عنـد مُفتقَـدي

 

منهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ ؟!

ثمّ قال عليّ بن الحسين: وَيْلَكَ يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صَنَعت! وما الذي ارتكبتَ مِن أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي! إذاً لَهربتَ في الجبال، وافترشت الرماد، ودَعَوت بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي « الحسينِ بنِ فاطمةَ وعليٍّ » منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم! فآبشِرْ بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناسُ ليوم القيامة!

* * *

خطبة الإمام السجّاد عليه السّلام في مجلس يزيد:
 قال الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام: يا يزيد، إئْذَنْ لي أن أصعد هذه الأعواد ( أي المنبر ) فأتكلّم بكلماتٍ للهِ فيهنّ رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهن أجرٌ وثواب. فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا.. إئذَنْ له فَلْيصعد المنبر؛ فلعلّنا نسمع منه شيئاً! فقال يزيد: إن صَعِد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان! فقيل له: يا.. وما قَدْرُ ما يُحسِن هذا ؟! فقال يزيد: إنّه مِن أهل بيتٍ قد زُقُّوا العلمَ زقّاً.
قال الراوي: فما يَزالون به حتّى أذِن له، فصعد المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب.. ثمّ قال:
أيُّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبع، أُعطينا: العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلْنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً، ومنّا الصدِّيق ( أي أمير المؤمنين عليّ )، ومنّا الطيّار ( أي جعفر )، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ( أي حمزة )، ومنّا سبطا هذه الأمّة ( أي الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين ). مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي.
أيًّها الناس، أنا ابنُ مكّةَ ومِنى، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا ( أي أنا ابن النبيّ )، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خيرِ مَن طاف وسعى، أنا ابنُ خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابنُ مَن حُمِل على البُراق في الهواء، أنا ابن مَن أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابنُ مَن بلَغَ به جبرئيلُ إلى سِدرة المنتهى، أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى، أنا ابن محمّدٍ المصطفى.
أنا ابنُ عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرَبَ خَراطيمَ الخَلْق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجَرَ الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتَلَ ببدرٍ وحُنَين، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين، أنا ابنُ صالحِ المؤمنين ( أي عليّ بن أبي طالب )، ووارثِ النبيّين، وقامعِ الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزينِ العابدين، وتاجِ البكّائين، وأصبرِ الصابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ رسول ربِّ العالمين.
أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهدِ أعداءه الناصبين، وأفخرِ مَن مشى مِن قريشٍ أجمعين، وأوّلِ مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأوّلِ السابقين، وقاصمِ المعتدين، ومُبيدِ المشركين، وسهمٍ مِن مَرامي الله على المنافقين، ولسانِ حكمةِ العابدين، وناصرِ دِين الله، ووليِّ أمر الله، وبستانِ حكمة الله، وعيبة علمه. سَمحٌ سخيٌّ بهيّ، بُهلولٌ زكيّ أبطحيّ، رضيٌّ مِقدامٌ همام، صابرٌ صوّام، مهذَّبٌ قَوّام، قاطعُ الأصلاب، ومُفرِّق الأحزاب، أربطُهم عِناناً، وأثبتُهم جَناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، يَطحنُهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة، وقَرُبت الأعنّة، طَحْنَ الرَّحى، ويذروهم فيها ذَرْوَ الريح الهشيم، ليثُ الحجاز، مكّيّ مدنيّ، خَيفيٌّ عَقَبيّ، بَدريٌّ أُحُديّ، شَجَريٌّ مُهاجريّ، مِن العرب سيّدُها، ومِن الوغى ليثُها، وارثُ المشعرَين، وأبو السبطَين، الحسن والحسين، ذاك جَدّي عليُّ بن أبي طالب.
ثمّ قال: أنا ابن فاطمةَ الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء.. فلم يزل يقول: أنا أنا، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشِيَ يزيدُ لعنه الله أن ينقلب الأمر عليه، فأمر المؤذّنَ فقطع عليه الكلام. فلمّا قال المؤذّن: اللهُ أكبر، الله أكبر.. قال عليّ: لا شيءَ أكبر من الله. فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله.. قال عليّ بن الحسين: شَهِد بها شَعري وبَشَري، ولحمي ودمي. فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله.. التفتَ مِن فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّدٌ هذا جَدّي أم جَدُّك يا زيد ؟! فإن زعمتَ أنّه جَدُّك فقد كذبتَ وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جَدّي فلِمَ قتلتَ عترته ؟!

* * *

كلمات بليغة بألفاظها ومقاصدها، تعرّف بالمقتولين الشهداء مَن هم، ومَن هم قتلَتُهم ؟ وتفرّق بين الظالميّة والمظلوميّة، وتكشف الأسباب الكامنة والجذور التاريخيّة والاعتقاديّة بين آل طالب وآل أميّة حتّى كانت وقعة الطفّ الكبرى في كربلاء. وقد حملت الخُطَب لهجة التعريف مرّة، والتوبيخِ أخرى، ليتيقّظ الناس عسى أن يؤوبوا ويتوبوا، ويثأروا للحقّ المظلوم، وكان ممّن خطب بضع نساء، عِشنَ واقعة عاشوراء، وتحدّثن بها بعد ذلك، فكانت الضرورة تقتضي تواجدَهنّ هناك.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية