شرح خطبة السيدة زينب في مجلس يزيد
قبل أن نبدأ
بشرح بعض كلمات هذه الخطبة نجلب إنتباه القارئ الكريم إلى هذا التمهيد :
تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب
الكبرى في موقفها الجريئ !
بالله عليك ! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب ؟
وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه ؟
ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو
تعقل ؟!
وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته ؟
وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً !
أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو
لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل يشعر بالعجز والضعف عن
مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر :
« يا صيحة تحمد من صوائح » !
فما معنى هذا البيت في هذا المقام ؟!
وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب ؟
فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى ينطبق عليها قول يزيد : « ما
أهون النوح على النوائح » ؟
وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من مضاعفات جرائمه التي ارتكبها ؟
وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام.
فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار
الخزي والعار ، فلا يستطيع يزيد أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات .. إلى يوم
القيامة.
وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه
ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها مسامع يزيد ،
وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة !!
والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه الخطبة الحماسية الملتهبة :
« الحمد لله رب العالمين ، والصaلاة والسلام على جدي سيد المرسلين »
إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ، ثم الصلاة على جدها : سيد
المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين أنها حفيدة رسول الله
سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يعرف الحاضرون أن هذه
العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من بلاد الكفر والشرك.
ثم قرأت السيدة هذه الآية :
« صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : « ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوئى أن
كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون » (1)
».
وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في مقدمة خطبتها !!
وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ
بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئى ، أي : الصفة التي
تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار.
« أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون » أي : بسبب تراكم الذنوب
والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة ،
وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية.
وهي ( عليها السلام ) تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها
يزيد :
« لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل »
ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم ـ والمقصود من بني هاشم : هو
رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه
وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى.
فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي !!
وهل الكفر والزندقة إلا هذا ؟!
ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن
الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ، وعلى قربهم من عند الله
تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم الكبرياء والتجبر
بسبب التغلب على خصومهم ؛
ولكن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) فندت هذه الفكرة الزائفة ،
وخاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : « أيها الخليفة »
أو « يا أمير المؤمنين » وأمثالهما من كلمات الإحترام.
نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم إعترافها بخلافة ذلك الرجس ،
فقالت :
« أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق
السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو
اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا » ؟!
تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها من العائلة المكرمة ، أنهم
كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان الذي أخذوا عليه ، أي : منعوه وحاصروه من
جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة.
وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع والحبس « أصبحنا نساق » مثل
الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد الكفر عند فتحها.
« سوقاً في قطار » يقال ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ : « قطار الإبل » أي
: عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد
العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب ( عليهما السلام ) كانوا
مربوطين ومكتفين بحبل واحد !
« وأنت علينا ذو اقتدار » أي : نحن في حالة الضعف وأنت في حالة القدرة.
« أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً » ؟!
أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ، ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس
لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون ؟!! وظننت أن لك عند الله جاهاً
وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت نساءنا ؟!!
« و » ظننت : « أن ذلك لعظم خطرك »
أي : لعلو منزلتك.
« وجلالة قدرك » عند الله تعالى ؟!
وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي « لا يغني من الحق شيئاً » و « إن بعض
الظن إثم » ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار.
« فشمخت بانفك » يقال : شمخ بأنفه : أي رفع أنفه عزاً وتكبراً.
« ونظرت في عطفك » العطف ـ بكسر العين ـ : جانب البدن ، والإنسان
المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الأنانية وحب الذات
والغرور.
« تضرب أصدريك فرحاً » الأسدران : عرقان تحت الصدغين ، وضرب أصدريه :
أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح والإعجاب بالنفس .. إزاء
ما حققه من إنتصار موهوم.
« وتنفض مذرويك مرحاً »
يقال : جاء فلان ينفض مذرويه. إذا جاء باغياً يهدد الآخرين.
هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن معنى « ينفض مذرويه » أي يهز
إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما تأخذهم حالة الطرب
والخفة.
« حين رأيت الدنيا لك مستوسقة »
أي : مجتمعة.
« والأمور لديك متسقة »
أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور على ما تحب وترضى ، وعلى ما
يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد.
« وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا »
أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك
، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة
منافسه ، وأسر نسائه.
لكن .. إعلم أيها المغرور : أن هذه القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ
وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد
كان يحكم بإسم خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله
أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي بن أبي طالب ،
والأئمة الأحد عشر من ولده ( عليهم السلام ) ، ولكن الآن .. صارت تلك
القدرة والسلطة بيد يزيد !!
بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت :
« فمهلاً مهلاً »
يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد برأيه ـ : مهلاً. أو : على مهلك ،
أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس
هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين لك حقيقةً الأمر.
« لا تطش جهلاً » طاش فلان : أخذه الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج
في تصرفاته.
أي : يا يزيد ! لا تطش .. بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم
والقيم ، والإغترار بالظواهر.
« أنسيت قول الله ( عزوجل ) : « ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم
خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » ؟!!
(2)
نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو نطيل أعمارهم ونجعل الساحة
مفتوحة أمامهم « خير لأنفسهم » ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم
وحكومتهم .. لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ،
ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة
والتحقير.
ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت :
« أمن العدل يا بن الطلقاء »
وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله وسلم ) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم
لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ
بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل ذلك .. إلتفت إليهم وقال
لهم :
« يا معاشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ؟ »
قالوا : « خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم »
فقال لهم : « إذهبوا فأنتم الطلقاء » (3)
وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان.
ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان ، ويطلق عليه ( ابن الطلقاء )
إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية.
أما معنى كلمة « يابن الطلقاء » فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير
الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله.
إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتح مكة ، فصارت البلدة ومن
فيها تحت سلطته وقدرته ، وكان بإمكانه أن ينتقم منهم أشد إنتقام ، وخاصة من
أبي سفيان الذي كان يؤجج نار الفتن ، ويثير الناس ضد رسول الله ، ويقود
الجيوش والعساكر لمحاربة النبي والمسلمين ، كما حدث ذلك يوم بدر وأحد ،
وحنين والأحزاب ، وهكذا إبنه معاوية « الذي كان على دين أبيه » ، ولكن
الرسول الكريم أطلقهما وخلى سبيلهما في من أطلقهم.
قال الله تعالى : « فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما مناً بعد وإما فداءً ، حتى تضع الحرب
أوزارها » (4)
« فإما منا بعد » أي : إما أن تمنوا عليهم مناً بعد أن تأسروهم ، أي :
تحسنوا إليهم فتطلبوا منهم دفع شيء من المال إزاء إطلاقكم سراحهم.
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مخيراً بين ضرب أعناقهم
وبين المن والفداء ، فاختار الرسول الكريم المن وأطلقهم بلا فداء ولا عوض.
والظاهر أن السيدة زينب تقصد من كلمة « يابن الطلقاء » واحداً من
معنيين :
المعنى الأول : أن تذكر يزيد بأنه ابن الطليقين الذين أطلقهما رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أهل مكة ، وكأنهم عبيد ، فتكون الجملة
تذكيراً له بسوء سوابقه المخزية وملف والده وجده !
والمعنى الثاني : أن تذكر يزيد بالإحسان الذي بذله رسول الله لأسلاف
يزيد حيث أطلقهم ، فقالت : « أمن العدل » أي : هل هذا جزاء إحسان رسول الله
( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أسلافك .. أن تتعامل مع حفيدات الرسول هذا
التعامل السيئ ؟!
ولعل السيدة زينب قصدت المعنيين معاً.
ومن الواضح أنها لا تقصد ـ من كلامها هذا ـ السؤال والإستفهام ، بل
تقصد توبيخ يزيد على سلوكه القبيح ، ونفسيته المنحطة ، وتنكر عليه تعامله
السيئ ، وتعلن له أنه بعيد ـ كل البعد ـ عن أوليات الفطرة البشرية ، وهي
جزاء الإحسان بالإحسان !!
« تحذيرك حرائرك وإماءك »
يقال : خدر البنت : الزمها الخدر ، أي : أقامها وراء الستر.
الحرائر ـ جمع حرة ـ : نقيض الأمة. (5)
« وسوقك بنات رسول الله سبايا »
السوق : يقال : ساق الماشية يسوقها سوقاً : حثها على السير من خلف
(6) وذلك يعني : الحث على السير من الوراء مع
عدم الإحترام.
اقول : لا يرجى من يزيد العدل والعدالة ، ولكنه لما ادعى الخلافة لنفسه
، كان المفروض والمتوقع منه أن يكون عادلاً.
ولهذا خاطبته السيدة زينب بقولها : أمن العدل أن تجعل جواريك والنساء
الحرائر ـ الساكنات في قصرك ـ وراء الخدر ، وتسوق بنات الرسالة وعقائل
النبوة ، ومخدرات الوحي .. سبايا ؟
« قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن »
فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين
أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، وبعد أن كن محجبات .. وإذا بالأعداء قد
سلبوهن ما كن يسترن به وجوههن .. من البراقع والمقانع !
« تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد »
أي : يسوقهن الأعداء من كربلاء إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ويمرون
بهن على البلاد التي في طريق الشام.
وحينما كان يمر موكبهن على البلاد والقرى والأرياف ، كان الناس ـ على
اختلاف طبقاتهم ـ يخرجون للتفرج عليهن ، وأحياناً كانوا يصعدون على سطوح
دورهم للتفرج عليهن ، ولهذا قالت السيدة :
« ويستشرفهن أهل المناقل ، ويتبرزن لأهل المناهل »
المناقل ـ جمع منقل ـ وهو الطريق إلى الجبل. والمناهل ـ جمع منهل ـ :
وهو الماء الذي ينزل عنده والمقصود : المنازل التي في طريق المسافرين ،
للتزود بالماء أو الإستراحة.
« ويتصفح وجوههن القريب والبعيد »
يتصفح : أي يتأمل وجوههن لينظر إلى ملامحهن !!
« والشريف والوضيع ، والدنيء والرفيع »
والحال أنه « ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي » ، عائلة
محترمة ، وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهن ويحميهن من
الأخطار والأشرار ، لأن رجالهن قد قتلوا بأجمعهم ، ولم يبق منهم سوى الإمام
زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ).
كل هذه الجرائم التي صدرت منك ، وبأمرك كانت « عتواً منك على الله »
العتو : هو التكبر.
« وجحوداً لرسول الله »
الجحود : هو الإنكار مع العلم بأن هذا هو الواقع والحق ، قال تعالى «
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ». (7)
« ودفعاً لما جاء به من عند الله »
الدفع : الإزالة والإبادة والرد.
أي : قمت بهذه الأعمال لأجل القضاء على الإسلام ، وعلى ما جاء به رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من عند الله تعالى.
« ولا غرو منك ، ولا عجب من فعلك »
لا غرو : لا عجب.
إن السيدة زينب ( عليها السلام ) تعتبر تلك الجرائم ـ التي صدرت من
يزيد ـ أموراً طبيعية وظواهر غير عجيبة ، فـ « كل إناء بالذي فيه ينضح ».
وإن الآثار السلبية لعامل ـ بل عوامل ـ الوراثة ، والإستمرار على شرب
الخمر والفحشاء والفجور والعيش في أحضان العاهرات ، كلها أسباب كان لها
دورها في إيجاد هذه النتائج والعواقب السيئة للطاغية يزيد.
« وأنى ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء
السعداء؟ »
أي : كيف ومتى يتوقع الخوف من الله تعالى .. من ابن من رمت من فمها
أكباد الشهداء الأبرياء ؟
هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث في واقعة أحد ، وإلى مقتل سيدنا حمزة بن
عبد المطلب سيد الشهداء وعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما
جاءت هند ـ أم معاوية ـ وجدة يزيد ـ وشقت بطن سيدنا حمزة ، واخرجت كبده
واخذت قطعة من كبده ، ووضعتها في فمها وعضتها بأسنانها وحاولت أن تأكلها ،
بسبب الحقد المتأجج في صدرها ، ولكن الله تعالى أبى أن تدخل قطعة من كبد
سيدنا حمزة في جوف تلك المرأة الساقطة ، فانقلبت تلك القطعة صلبةً كالحجر ،
فلم تؤثر أسنانها في الكبد ، فلفظتها ، ورمتها من فمها ، فاكتسبت بذلك لقب
( آكلة الأكباد ) !!
ويزيد : هو حفيد هكذا امرأة حقودة. وحقده على الدين وارتكابه للجرائم
الكبيرة ليس بشيء جديد !!
« ونصب الحرب لسيد الأنبياء »
لقد ذكرنا ـ في الفصل الرابع من هذا الكتاب ـ أن أبا سفيان هو الذي كان
يجهز الجيوش في مكة ، ويخرج لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
وقتال المسلمين ، حينما كان النبي الكريم في المدينة المنورة.
« وجمع الأحزاب »
إن أبا سفيان هو الذي جمع العشائر والقبائل الكثيرة .. من المشركين
واليهود والنصارى وغيرهم ، وأمر بنفير عام وشامل لمختلف الأعمار والديانات
، وخرج بجيش جرار كالسيل الزاحف ، للقضاء على الرسول العظيم ومن معه من
المسلمين ، في واقعة الأحزاب التي عرفت ـ فيما بعد ـ بـ « غزوة الخندق ».
« وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
»
الحراب ـ جمع حربة ـ : وهي آلة قصيرة من الحديد ، محددة الرأس ، تستعمل
في الحرب. (8)
« وهز السيوف » كناية عن الخروج للحرب وإصدار الأوامر للهجوم والغارة ،
وبما أن أبا سفيان كان هو السبب في هذه الحروب فقد جاءت كلمة « السيوف »
بصيغة الجمع.
« أشد العرب لله جحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عدواناً ،
وأعتاهم على الرب كفراً وطغياناً ». (9)
من الواضح أن العرب في مكة وغيرها .. كانوا على درجات متفاوتة في نسبة
إنكارهم لوجود الله تعالى ، أو إتخاذهم الأصنام آلهة من دونه سبحانه.
فهناك من هو جاحد ومنكر مائة بالمائة ، وهناك من هو جاحد 70 % ، وهكذا.
ومنهم : من هو عازم على الإستمرار في الكفر رغم علمه بالتوحيد ، ومنهم
: من كان يعيش حالة الشك في الإستمرار في الكفر أو الشرك.
ومنهم : من كان يحيك المؤامرات ضد النبي الكريم بصورة سرية ، ومنهم :
من كان يخرج لحرب رسول الله .. بشكل مكشوف.
ومنهم : من كان منكراً لله تعالى .. ولكنه يتخذ موقف المحايد تجاه
النبي الكريم ، ولا يبذل أي نشاط ضد الإسلام والمسلمين.
ولكن الكافر الذي ضرب الرقم القياسي في إنكار الله تعالى ، وإنكار
رسالة النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هو أبو سفيان.
هذه كلها صفات ومواصفات أبي سفيان ، وقد ورثها منه حفيده يزيد ، حيث
كان يشترك مع جده في جميع هذه الأوصاف والأحقاد ، وبنفـس النسبة والدرجة ،
لكن مـع تبدل الظروف !
فلقد وقف أبو سفيان في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
وحاربه وأظهر أحقاده.
وجاء ـ من بعده ـ إبنه معاوية ، فوقف في وجه الإمام أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب ( عليه السلام ) وحاربه بكل ما لديه من طاقة وقوة ، وعلى مختلف
الأصعدة والمجالات ، الإعلامية والعسكرية وغيرها.
إن الوثائق التاريخية تقول : « مات معاوية وعلى صدره الصنم » ، فكم
تحمل هذه الكلمة من معان ودلالات ، « والحر تكفيه الإشارة » !!
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : « مات معاوية على غير ملة الإسلام ».
(10)
ثم جاء يزيد ـ من بعد معاوية ـ فكان كالبركان يتفجر حقداً على آل رسول
الله وأبناء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
فماذا تراه يفعل ؟!
وماذا تتوقع منه ؟!
وخاصة وأنه يرى تحت تصرفه جيشاً كبيراً ينفذ أوامره بكل سرعة ، ويطيعه
طاعةً عمياء ، دون رعاية الجوانب الإنسانية أو العاطفية أو الدينية. وكان
له مستشار مسيحي حاقد إسمه : « سرجون » يملي عليه ما يتبادر إلى ذهنه في
كيفية القضاء على الإسلام ، ويرسم له الخطط للوصول إلى هذا الهدف !
« ألا : إنها نتيجة خلال الكفر »
ألا : حرف لجلب الإنتباه ، أو للتأكيد على ما يخبر عنه.
(11)
النتيجة ـ هنا ـ العاقبة.
خلال ـ جمع خلة ـ وهي الخصلة.
أي : إن يزيد حينما أمر بقتل ريحانة رسول الله الإمام الحسين ( عليه
السلام ) لم يكن لمجرد أنه كان يرى منه منافساً له في السلطة فقضى عليه ،
بل إن ذلك كان من منطلق الكفر والإلحاد ، ولذلك .. فهو لم يكتف بقتل الإمام
، بل أمر بسبي نسائه وأطفاله ، وقام بغير ذلك من الجرائم والجنايات.
وهذه الأمور : هي نتيجة خبث نفسيته الطائشة وأثر صفاته الكفرية
الموروثة من أبيه وجده !
« وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر »
والضب ـ بكسر الضاد ـ : الغيظ الكامن والحقد الخفي.
جرجر البعير : إذا ردد صوته في حنجرته.
أي : وحقد يتأجج في الصدر ، ويطالب يزيد للأخذ بثارات المقتولين في
غزوة بدر ، وهم أقطاب المشركين الذين كانوا قد خرجوا من مكة لمحاربة رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقتال المسلمين.
وهم المشركون الذين تمنى يزيد حضورهم بقوله : « ليت أشياخي ببدر شهدوا
» وهم : عتبة بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن شيبة.
أما عتبة فقتله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وأما شيبة وابنه
الوليد فقد قتلهما الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
إن جميع ما قام به الطاغية يزيد ، من قتله الإمام الحسين وأصحابه وأهل
بيته ، وسبي الطاهرات من نسائه وحرمه ، وإهانته لرأس الإمام الحسين ( عليه
السلام ) تعتبر نتيجة طبيعية للكفر المكشوف والحقد الدفين في قلب يزيد ،
فلم يكن يوجد في قلبه مقدار ذرة من الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة ، بل
إنه إتخذ منصب خلافة الرسول الكريم ، وسيلة لسلطته على الناس ، وانهماكه في
الشهوات ، ومحاربته للدين وعظماء الدين.
فقد كان يتجاهر بشرب الخمر ، ولعب القمار وغيرهما من المنكرات التي
حرمها الله سبحانه وبذلك أعطى الجرأة لجميع الناس كي يجلسوا في الأماكن
العامة ، ويرتكبوا ما شاؤا من المعاصي والذنوب ، من دون أي خوف أو حذر ، أو
حياء أو خجل ، أو إحترام لحدود الله تعالى ، أو رعاية للخطوط الحمراء التي
وضعها الله سبحانه حول بعض الأعمال المحرمة.
لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام
) أنه قال : « ... من نظر إلى الشطرنج فليلعن يزيد وآل يزيد ... »
(12)
« فلا يستبطئ في بغضنا ـ أهل البيت ـ من كان نظره إلينا شنفاً وإحناً
وضغناً »
وفي نسخة : « وكيف يستطبئ في بغضنا »
أي : كيف لا يسرع إلى بغض أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم
) من كانت نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد.
والشنف والشنآن والإحن والأضغان : معانيها متقاربة ، والمقصود منها :
شدة الحقد والبغض.
« يظهر كفره برسوله ، ويفصح ذلك بلسانه » :
إشارة إلى الأبيات التي أنشدها يزيد :
« لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
فقد أظهر كفره برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتجاهر بذلك ،
واعتبر النبوة والرسالة والوحي والقرآن كلها العاب ، وأنكرها جميعاً.
يفصح : أي يظهر ما في قلبه على لسانه.
« وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده ، وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم :
لأهلـوا واستهلوا فرحاً ولقالوا : يا يزيد لا تشل »
غير متحوب : أي غير متأثم (13) أو غير
متحرج من القبيح. والحوبة : من يأثم الإنسان في عقوقه .. كالوالدين.
(14)
والظاهر : أن السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد أن يزيد كان يعيش حالة
عدم الإكتراث أو المبالاة بما قام به من جرائم ، وبما يصرح به من كلمات
كفرية ، وبما يشعر به من الفرح والسرور لقتله ابن رسول الله ، وسبي ذريته
الطاهرة. إذ من الواضح أن الذي لا يؤمن بيوم الجزاء لا يفكر في مضاعفات
جرائمه ، ولا يشعر بالحرج أو الخوف من أعماله التي سوف تجر إليه الويل !!
« منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ـ ينكتها بمخصرته »
ثنايا ـ جمع الثنية ـ : وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم ، ثنتان
من فوق وثنتان من تحت. (15)
مقبل : موضع التقبيل.
ينكت : يضرب.
مخصرة : العصا ، وقيل : هي العصا التي في أسفلها حديدة محدة ، كحديدة
رأس السهم.
أقول : إن القلم ليعجز عن التعبير عن شرح هذه المقطوعة من الخطبة !!
وذلك لهول المصيبة ، فكيف تجرأ الطاغية يزيد على أن يضرب تلك الثنايا
المقدسة ، التي كانت موضعاً لتقبيل رسول الله .. مئات المرات .. وفعل يزيد
ذلك بمرأى من عائلة الإمام الحسين ونسائه وبناته ؟!
ولم يكتف يزيد بالضرب مرةً واحدة أو مرتين ، بل مرات متعددة ، وهو في
ذلك الحال في أوج الفرح والإنتعاش !!
ولم يكن الضرب على الأسنان الأمامية فقط ، بل كان يضرب على شفتيه ووجهه
الشريف ، ويفرق بين شفتيه بعصاه ليضرب على أسنانه !
إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون !!
« قد التمع السرور بوجهه »
قد يكون الفرح شديداً فيتدفق الدم إلى الوجه فيحمر ، وبذلك تظهر آثار
الفرح على ملامحه ، فيقال : إلتمع السرور بوجهه.
هكذا كانت فرحة يزيد حين ضربه تلك الثنايا الشريفة.
(16)
« لعمري لقد نكات القرحة »
نكأ القرحة : قشرها بعد ما كادت تبرأ. (17)
لعل المعنى : أن ضرب يزيد تلك الثنايا صار سبباً لهيجان الأحزان من
جديد ، وفجر دموع العائلة الكريمة ، فاستولى عليهن البكاء والنحيب ، وخاصة
أن بنتين من بنات الإمام الحسين ( عليه السلام ) جعلتا تتطاولان ( أي :
تقفان على رؤوس أصابع رجليهما ) لتنظرا إلى الرأس الشريف ، من وراء كراسي
الجالسين ، فلما نظرتا إلى يزيد وهو يضرب الرأس الشريف ، ضجتا بالبكاء
والعويل ، ولاذتا بعمتهما السيدة زينب ، وقالتا : يا عمتاه ! إن يزيد
يَضرب ثنايا أبينا ، فقولي له : لا يفعل ذلك ؟! (18)
فقامت السيدة زينب ( عليها السلام ) ولطمت على وجهها ونادت : «
واحسيناه ! يابن مكّة ومِنى ! يا يزيد : إرفع عودك عن ثنايا أبي عبد الله
».
« واستأصَلتَ الشأفة »
يُقال : إستَأصل شأفته : أي أزاله من أصله. (19)
ولعلّ المعنى : يا يزيد : لقد قطعت شجرة النبوة من جذورها بقتلك الإمام
الحسين ( عليه السلام ) فهو آخر من كان باقياً من أصحاب الكساء ، الذين
نزلت فيهم « آية التطهير » وعبّر الله تعالى عنهم ـ في القرآن الكريم ـ
بكلمة « اهل البيت » ، فكلّ من كان يُقتل من هؤلاء الخمسة الطيّبة .. كانَ
في الباقين ـ منهم ـ سلوة لآل رسول الله ، وبقتل الإمام الحسين ( عليه
السلام ) إنقطعت شجرة أهل البيت من جذورها ، وكان ذلك بأمر يزيد وتنفيذ إبن
زياد.
« بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنّة ، وابن يعسوب الدين ، وشمس آل عبد
المطّلب »
يعسوب : النحلة التي يُعبّر عنها بـ « المَلكة » في مملكة النحل
(20) ، وقد لقّب رسول الله ( صلى الله عليه
وآله وسلم ) الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) بلقب «
يعسوب الدين » وشبّه شيعته بالنحل الذي يعيش في ظلّ تلك المملكة ويتّبع ذلك
اليعسوب ، واشتُهر بين المسلمين ـ في ذلك اليوم ـ هذا اللقب للإمام علي (
عليه السلام ) ولذلك قال الشاعر :
ولايتي لأمير النحل تكفيني عند الممات وتغسيلي وتكفيني
وطينتي عُجِنت من قَبل تكويني بحبّ حيدر ، كيف النار تكويني ؟!
ثمّ عبّرت السيدة زينب عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بـ « شمس آل
عبد المطّلب » ، ويا لهذا التعبير من بلاغة راقية ، وتشبيه جميل ، فإنّ
الإمام الحسين كان هو الوجه المشرق الوضّاء والواجهة المُتلألأة لآل عبد
المطلب بن هاشم ، وسبب الفخر والإعتزاز لهم ، وهم كانوا المجموعة أو
العشيرة الطيّبة لقبيلة قريش ، وقريش كانت أشرف قبائل العرب.
« وهَتَفتَ بأشياخك »
حينما قلتَ : « ليت أشياخي ببدر شهدوا » فتمنّيت حضورهم ليروا إنتصارك
الموهوم ، وأخذك لثارهم من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع
أنّ أشياخك هم الذين خرجوا ـ من مكة إلى المدينة ـ لقتال رسول الله ، وهم
الذين بدؤا الحرب مع المسلمين ، فكانوا بمنزلة الغُدّة السرطانيّة الخبيثة
في جسم البشريّة ، وكان يلزم قطعها كي لا ينتشر المرض والفساد في بقيّة
أجزاء الجسم.
« وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافك »
أي : قُمتَ بإراقة دم الإمام الحسين ( عليه السلام ) تقرّباً إلى
أسلافك ، وقلتَ :
قد قَتَلنا القَرم مِن ساداتهم وأقمنا مثل بدرٍ فاعتدَل
« ثمّ صرختَ بندائك »
أي : بندائك لأشياخك. ومن هذه الجملة يُستفاد أنّ يزيد كان رافعاً صوته
حين قراءته لتلك الأبيات الكُفريّة ، والشعارات الإلحادية.
« ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك »
قال ابنُ مالك ـ ما معناه ـ : « لو : حرفٌ يقتضي في الماضي إمتناع ما
يليه ، واستلزامه لتاليه ». (21)
وبناءً على هذا .. يكون معنى كلام السيدة زينب ( عليها السلام ) : يا
يزيد ! لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم
، ولكنّ هذه الأمنية لا تتحقّق لك ، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم ،
ومن المستحيل أن يعودوا الآن ويشهدوا ما قُمتَ به من الجرائم ، وليقولوا لك
: سَلِمَت يداك !!
« ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك »
وشيكاً : أي : سريعاً أو قريباً (22)
ويُقال : أمرٌ وشيك : أي : سريع (23)
المعنى : يا يزيد : سوف تموت قريباً عاجلاً ، لأنّ مُلكك يزول سريعاً ،
ولا تطول أيام حياتك ، وتنتقل إلى عالم الآخرة ، إلى جهنّم فترى أسلافك
هناك في الأغلال والقيود وفي صالات التعذيب ، وممرّات السجون ، ولكنّهم لا
يرونك ، أي : لا تجتمع معهم في مكان واحد ، لأنّك ستكون في درجة أسفل منهم
في طبقات نار جهنّم ، لأنّ جرائمك الموبقة تستوجب العذاب الأشدّ ، لكنّك
حين نزولك إلى ذلك المكان الأسفل ، سوف يكون طريقك عليهم ، فتراهم ولكنّهم
لا يرونك ، لأنّ شدة عذابهم يُشغلهم عن الإلتفات إلى ما حولهم ومَن حولهم
مِن الجُناة !
وقد رُوي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « إنّ
قاتل الحسين بن علي .. في تابوت من نار ، عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد
شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، مُنكّس في النار ، حتى يقع في قعر جهنّم
، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدّة نتنه ، وهو فيها خالد ذائق
العذاب الأليم ، مع جميع من شايع في قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله (
عز وجل ) عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم ، لا يُفَتّر عنهم ساعة ،
ويُسقَون من حميم جهنّم ، فالويل لهم من عذاب الله تعالى في النار ».
(24)
« ولتودّ يمينُك ـ كما زعمت ـ شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت »
شُلّت : الشلل : تعطّل أو تيبّسٌ في حركة العضو أو وظيفته ، يُقال ـ في
الدعاء ـ : شُلّت يمينك. (25)
جُذّت : قُطعت أو كُسٍِرَت (26)
المعنى : يا يزيد ! إنّك في الدنيا زَعمت أن أسلافك لو كانوا حاضرين ..
لقالوا لك : « يا يزيد لا تُشَل » أمّا في يوم القيامة ، حين تُعاقب تلك
العقوبة الشديدة ، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو مقطوعة حتى لا
تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين ( عليه السلام ).
وهذا إخبارٌ من السيدة زينب ( عليها السلام ) بما يدور في ذهن يزيد حين
يُلاقي جزاء أعماله الإجراميّة.
وتتمنّى ـ أيضاً ـ حينما تُلاقي أشدّ درجات العقوبة والتعذيب :
« وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملك ، وإيّاك لم تَلِد حين تصير إلى سخط
الله ومُخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم »
أحبَبتَ ـ هنا ـ : بمعنى تَمنّيتَ من أعماق قلبك أن أمّك لم تكن تحمل
بك ، ولم تلدك حتى لا تكون مخلوقاً وموجوداً من أول يوم ، ولم تَكتَسِب هذه
السيئة الكبيرة التي دفعت بك إلى أسفل السافلين في التابوت الموجود في اسفل
طبقات جهنّم ، حيث يستقرّ فيه أفراد معيّنون من الجُناة الذين جرّوا
الوَيلات على البشريّة جمعاء ، وعلى كلّ الأجيال والبلاد والشعوب ، وأسّسوا
الأُسس ومهّدوا الطرق لمن يأتي من بعدهم من الطغاة والخَوَنة ، في أن
يقوموا بكلّ جريمة ، وبكل جُرأة !
إنّ الأحاديث الشريفة تقول : إنّ أهل النار ـ جميعاً ـ يستغيثون
بالموكّلين بهم من الملائكة .. أن لا يفتحوا باب ذلك الصندوق ، لأنّ درجة
الحرارة فيها أشدّ ـ بكثير ـ مِن حرارة جهنّم نفسها !!
(27)
وتقول الأحاديث الشريفة : إنّه كلّما خَفّت ونزلت درجة حرارة نار جهنّم
.. تَفتَح الملائكة باب ذلك الصندوق لمدّة قليلة فتزداد حرارة جهنّم كلّها
بالحرارة الشديدة التي أُضيفت إليها من ذلك التابوت ، كالقِدر الكبير
للطعام الذي توضع فيه البقول ، وتوضع على نار خفيفة ، وفُجأةً يرفعون درجة
تلك النار إلى أقصى نسبة ممكنة ، فيحدث إضطراب عجيب في ذلك القدر وما فيه !
ويُعبّر عن ذلك الصندوق بـ « التابوت » وبالمعذّبين فيه بـ « أهل
التابوت ».
وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « ... إذا
كان يوم القيامة أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه الحسين (
عليه السلام ) ويده على رأسه يقطر دماً ، فيقول : « يا ربّ سل أمّتي فيمَ (
أي : لمـاذا ) قتلوا ولـدي ! » (28)
ثمّ بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) بالدعاء على يزيد ومَن شاركه في
ظلم آل رسول الله الطيّبين الطاهرين ، دَعَت عليهم مِن ذلك القلب
المُلتَهِب بالمصائب المُتتالية ، فقالت :
« اللهم ! خُذ بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلُل غضبك على من سفك
دماءنا ، ونقضَ ذمارنا ، وقَتلَ حُماتنا ، وهتك عنّا سدولنا »
نَقَضَ : لم يُراع الحرمة والعهد.
الذمار : ما ينبغي حفظه والدفاع عنه ، كالأهل والعِرض.
(29)
وقيل : ذمار الرجل : كل شيء يلزمه الدفع عنه.
(30)
سدول ـ جمع سدل ـ السِتر. (31)
ثم أرادت السيدة زينب ( عليها السلام ) أن تُبيّن ليزيد حقيقة واقعيّة
: وهي أنّ جميع ما قُمتَ به ضدّ آل رسول الله ، مِن : قتل وسَبي ، وحمل
الرؤوس من بلد إلى بلد ، وإهانة الرأس الشريف ، والإفصاح عن الكلمات
الكُفريّة الكامنة في الصدر ، وغيرها .. لا تعود عليك بالفائدة والنَفع ،
بل تعود عليك بالخسران والعقوبة ، حتى لو جعَلَتك تفرح لمدّة قصيرة ، لكنّ
هذا الفرح سوف لا يستمرّ ، بل يتعقّبه سلسلة متواصلة من أنواع الخسارة
والعذاب الجسدي والنفسي ، فقالت ( عليها السلام ) :
« وفعلت فِعلتك التي فعلت ، وما فرَيت إلا جلدك ، وما جَزَرت إلا لحمك
»
فَريتَ : شققتَ وفتَتَّ (32) وقَطعتَ
(33).
جزَرتَ : قطعتَ (34) ويُستعمل غالباً في
نحر البعير وتقطيع لحمه.
« وسترد على رسول الله بما تحمّلتَ من دم ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته ،
وسفكت من دماء عترته ولُحمَته ».
اللُحمة : القرابة ، يُقال : بينهم لُحمة نسب.
(35)
المعنى : سترِد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ بعد موتكَ
ـ وأنت تحمل على ظهرك من الجرائم ما لا تحملها الجبال الرواسي ، فيُخاصمك
على كل واحدة واحدة منها .. أشدّ أنواع الخصومة ، من دون أن يخفى عليه شيء
!
« حيثُ يُجمع به شملهم ، ويُلمّ به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ
لهم بحقّهم من أعدائهم ».
الشعث : ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد ، يُقال ـ في الدعاء ـ : «
لَمّ الله شعَثه ». (36)
المعنى : سوف يجمع الله تعالى آل رسول الله عند النبي الكريم في جبهة
واحدة ـ وذلك في يوم القيامة ـ فيَشكو كلّ واحد من آل الرسول إلى النبي
الكريم كلّ ما لقيَ من الناس مِن عداءٍ وظلم ، فينتقم الله من أعدائهم أشدّ
الإنتقام. ومادام الأمر كذلك ، فاسمع يا يزيد :
« فلا يستفزّنّك الفرح بقتلهم »
لا يستفزّنك : أي : لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة ، يُقال :
إستفزّه : أي استخفّه ، أو ختَله حتى ألقاه في مهلكة.
(37)
فلا خير في فرحة قصيرة يتعقّبها حزن دائم ، وعذاب أليم ، وخلود في
النار.
ثمّ أدمجت السيدة زينب ( عليها السلام ) كلامها بالقرآن الكريم ، فقالت
:
« « ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم
يُرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ... » (38)
وحسبُك بالله ولياً وحاكماً »
لعلّ المقصود من قولها « وحسبك بالله وليّاً وحاكماً » أي : وليّاً
للدم ، وآخذاً للثار ، فالإمام الحسين ( عليه السلام ) هو : وصيّ رسول الله
، وسيّد أولياء الله تعالى ، فمن الطبيعي : أن يكون الله ( عز وجل ) هو
الطالب بثاره ، والوليّ لدمه ، فهو الشاهد لمصيبة قتل الإمام الحسين ، وهو
القاضي ، وهو الحاكم ، فهنا .. الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجريمة
بنفسه ، فلا يحتاج إلى شهادة شهود ، وهو الذي يَعرف عظمة المقتول ظلماً ،
وهو الذي يعلم أهداف القاتل مِن وراء قتله للإمام ، وهو يزيد.
« وبرسول الله خَصماً ، وبجبرائيل ظهيراً »
لقد روي عن الصحابي : إبن عباس أنّه قال : « لمّا اشتدّ برسول الله (
صلى الله عليه وآله وسلم ) مرضه الذي مات فيه ، حضَرتُه وقد ضمّ الحسين إلى
صدره ، يسيل من عرَقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : « ما لي وليزيد ! لا
بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد ».
ثمّ غُشيَ عليه طويلاً وأفاق ، وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرُفان
ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله ».
(39)
ثمّ صعّدَت السيدة زينب ( عليها السلام ) من لهجتها في تهديد يزيد
وإنذاره ، مُغامرةً منها في حربها الكلاميّة ومُخاطرتها في كشف الحقائق ،
وإهانتها للطاغية يزيد ، فقالت :
« وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً ،
وأيّكم شرّ مكاناً وأضلّ سبيلاً »
مكّنَكَ : مهّد لتسلّطك على كرسيّ الحكم على الناس والتلاعب بدماء
المسلمين.
وهذا تصريح من السيدة زينب ( عليها السلام ) ـ أمامَ يزيد ومَن كان
حوله في مجلسه ـ بعدم شرعيّة تسلّطه على رقاب الناس ، بل وعدم شرعيّة سلطة
من مهّد ليزيد هذه السلطة وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي يتحمّل
ما قام به يزيد من الجرائم ، مُضافاً إلى ما تحمّله هو من الجنايات وقتل
الأبرياء. فسيكون عذابه أشد ، لأن جرائمه أكثر ووزرَه أثقل. ولعلّ هذا
المعنى هو المقصود من قول السيدة زينب ـ حكايةً منها عن القرآن الكريم : «
أيّكم شرّ مكاناً ».
« وما استصغاري قَدرك ، ولا استعظامي تَقريعك »
التَقريع : الضرب مع العُنف والإيلام.
وفي نسخة :
« ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظِم
تقريعك ». (40)
الدواهي ـ جمع داهية ـ : دَواهي الدهر : ما يُصيب الإنسان من نُوَبه.
(41)
لعلّ السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد ـ من كلامها هذا ـ : أنّ يا
يزيد ! من الصعب عليّ جداً أن أُخاطبك ، لأنّي في منتهى العفة والخدارة ،
وأنت في غاية اللؤم والحقارة ، ومن الصعب عليّ أن أُخاطب رجلاً نازل القدر
والمكانة ، لكنّ الضرورة والظروف المؤسفة وتقلّبات الدهر ، جعلتني أكون
طرفاً لك في الخطاب ، لكي أُبيّن لك فظاعة تقريعك لرأس أخي الإمام الحسين (
عليه السلام ).
« تَوَهّماً لإنتجاع الخطاب فيك »
الإنتجاع : إحتمال التأثير. (42)
المعنى : ليس هدفي من مُخطابتك إحتمال تأثير خطابي فيك ، بل هو ردّ فعل
طبيعي لما شاهدته وأُشاهده من المصائب ، وعسى أن يؤثّر كلامي في بعض
الجالسين في هذا المجلس ، ممّن خفيَت عنهم الحقائق ، بسبب تأثير الدعايات ،
وأقول قَولي هذا .. لكي أُبطِل
وأُدمر ما أحرزته من الإنتصارات الموهومة.
« بعد أن تركتَ عيون المسلمين به عبرى »
أي : مُغرَورقة ومليئة بالدموع بسبب استشهاد الإمام الحسين ( عليه
السلام ) بلا ذنب ، وبتلك الكيفية الفجيعة !
« وصدورهم عند ذكره حرّى »
أي : ملتهبة من الحزن والأسى ، عند تذكّر ما جَرت عليه من المصائب
المقرحة للقلوب.
وهذا أمر طبيعي لكل مسلم ـ بل كلّ إنسان ـ لم تتغيّر فيه الفطرة
الأولية التي فطر الله الناس عليها ، فالتألّم من هكذا فاجعة .. هو رد فعل
طبيعي لكل من تكون صفة العاطفة سليمة لديه.
ثمّ ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) سبب عدم إحتمال تأثير خطابها في
نفسيّة يزيد وحاشيته ، فقالت ( عليها السلام ) :
« فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوّة بسخط الله ولعنة
الرسول ، قد عشّش فيها الشيطان وفَرّخ »
مَحشوّة : أي : مملوءة.
إنّ القلب إذا صار قاسياً ، والنفس إذا أخذها الطغيان ، فسوف لا تكون
الأرضيّة مساعدة فيهما لتقبّل المواعظ والنصائح.
يُضاف إلى ذلك .. أنّ الشيطان الرجيم إذا وجد التفاعل والتجاوب من شخص
، فسوف يتربّع في فكره وذهنه ، ويتّخذه لنفسه عشاً ووكراً ، ومسكناً ومحلاً
للإقامة فيه ، ويكون بمنزلة جهاز التحكّم في الأشياء ، يتحكّم في ميوله
واتّجاهاته ، فيوجّه الشخص حيثما يريد ، ويأمره بأنواع الإنحراف والإنسلاخ
عن الفطرة الإنسانية والعاطفة وجميع الصفات الحميدة ، ويعطيه الجُرأة على
اقتاحم المخاطر الدينية ، فإذا أراد الشيطان مغادرة فكر هذا المنحرف فإنّ
هناك فراخه ، أي : جنوده ، الذين يقومون مقامه ويؤدّون دوره في مهمّة
الإغراء والتشجيع على الجريمة من دون التفكير في مضاعفاتها السلبيّة.
« ومن هناك مِثلك ما دَرَج »
ومن هناك : أي : وبسبب ذلك ، ونتيجة لتلك الأسباب. وقيل : « ما » في «
ما درج » : زائدة.
درج : يُقال : درج الصبيّ : أي : أخذ في الحركة ومشى مشياً قليلاً ..
أوّل ما يمشي. (43) وقيل : درج : أي نشأ
وتقوّى.
« فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط الأنبياء ، وسليل الأوصياء
، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العَهَرة الفجرة »
الأتقياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين ( عليه السلام ) والمستشهدين معه.
أسباط ـ جمع سبط ـ : الحفيد.
السليل : الوَلَد.
العهرة ـ جمع عاهر وعاهرة ـ : الرجل الزاني ، والمرأة الزانية.
الفجرة ـ جمع فاجر وفاجرة ـ : الرجل أو المرأة التي تُمارس جريمة الزنا
والفجور.
حقّاً إنّه عجيب ، بل هو من أعجب الأعاجيب أن يُقتل أشرف وأطيب خلق
الله تعالى على أيدي ذريّة العاهرين والعاهرات !!
ولكن .. هذه هي طبيعة الحياة الدنيا ، أنّها تكون قاعة امتحان للأخيار
والأشرار ، وللذين يضربون أرقاماً قياسيّة في الطيب أو الخبث.
ومن هنا .. بقيت « فاجعة كربلاء » خالدة إلى يوم القيامة ، عند كلّ
مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك ، وفهم المفاهيم والقيم الإنسانية ، وكلّما
إزداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الفاجعة بصورة أوسع
، والتفكير حولها بشكل أشمل ، والكتابة عنها بتفصيل أكثر.
وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا الملفّ مفتوحاً لدى العقلاء المؤمنين ،
ويُجدّد فتحه في كل عام ، بل في كل يوم ، لتحليل ودراسة جزئيّات هذه
الفاجعة !!
ولخلود فاجعة كربلاء ـ وإمتيازها على بقيّة فجائع وكوارث التاريخ ـ
أسباب متعددّة ، نذكر بعضها ، ليعرف ذلك كل من يبحث عن إجابة هذا السؤال ،
ويريد معرفة الواقع والحقيقة :
1 ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة القتل أو السبي .. ـ في هذه الفاجعة
ـ كانوا هم أفضل طبقات البشر ، وأشرف خلق الله تعالى .. رجالاً ونساءً ، بل
كانوا في قمّة شاهقة ، ودرجة عالية من العظمة والجلالة والإيمان بالله
تعالى ، والنفسيّة الطيّبة ، بحيث لا مجال لأن نقيس بهم غيرهم من البشر ..
مهما كانوا عظماء.
2 ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في هذه الفاجعة ـ .. كانوا أخبث البشر
، وأكثر الناس لؤماً ، وأنزلهم نفسيّةً.
3 ـ إنّ هذه الفاجعة مهّدَت الطريق لسلسلة من الفجائع والجرائم
والجنايات ، فأعطت الناس الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد ، ولا يلتزموا
بعقيدة أو دين ، فكان عمل مرتكبي هذه الفاجعة .. بمنزلة تأسيس الأُسُس وفتح
الطريق أمام كل خبيث ولئيم ، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من
الجرائم والجنايات !
ولقد جاء في التاريخ : أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) صرّح بهذه
الحقيقة ، أثناء مُقاتَلَته مع أهل الكوفة ، فقال : « ... يا أمّة السَوء :
بئسما خلفتهم محمداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد
الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي ... ».
(44)
4 ـ إنّ طبيعة الحياة : هي أنّ التاريخ يُعيد نفسه .. لكن .. مع إختلاف
الافراد والأجيال ، فكان ضروريّاً على كل مسلم أن يستلهم الدروس والعبر من
هذه الفاجعة الكبرى ، ويقوم بدراستها ومعرفة تحليلها .. بشكل شامل ، لكي لا
يَسقُط في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة ، والمنعطفات الحادّة الخطيرة ، وحتى
لا تتكرّر مآسي وفجائع مشابهة.
وحتى لو تكرّرت ذلك فإنّه يبادر إلى صفوف الأخيار ، ويتّخذ موقف
الإنسان المؤمن الذي يخاف الله تعالى ، ويؤمن بيوم الحساب ، وذلك لأنّ لديه
خلفيّة دينيّة واسعة وشاملة عن فاجعة كربلاء ومضاعفاتها.
5 ـ إنّ فتح ملف « فاجعة كربلاء » والبكاء حين قراءة أو سماع تفاصيلها
يعني : تأمين جاذبيّة قويّة ، تجذب الناس نحو الدين بـ « إسم الإمام الحسين
عليه السلام » ، وبجاذبيّة عاطفيّة لا يمكن تَصَوُّر درجة قوّتها !!
وهنا .. ينبغي الإلتفات إلى حقيقة مهمّة ، وهي : أنّ الأدلّة العقليّة
والإستدلالات المنطقيّة ـ في مجال دعوة الناس إلى الإلتزام بالدين ـ تقوم
بدَور الإقناع فقط ، لكن لابدّ لذلك من عامل يجذب الناس لإستماع هذه
الأدلّة ، وأقوى عوامل الجذب هو : العامل العاطفي ، وهو متوفّر في كلّ بند
من بنود هذه الفاجعة !
وهذه الجاذبيّة لا تقتصر على جذب الناس نحو الدين فحسب ، بل تجذبهم نحو
الفضائل والأخلاق ، والتطبيق العملي لبنود الدين ، وتعلّم معالم وعقائد
وعبادات الدين من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .. لا مِن غيرهم.
فإنّ الله تعالى جعل شرط قبول الأعمال ولاية أهل البيت وإتّباعهم ، لا
مجرّد محبّتهم ، وجعل الله ( عز وجل ) الإسلام الواقعي ينحصر في مذهب أهل
البيت ، لا المذاهب الأخرى .. حتى لو كانت تلك المذاهب مشتملة على ظواهر
ومظاهر دينيّة ، فالمظهر وحده لا يكفي ، بل لابدّ من التمسّك بالمحتوى
الصحيح !
ولابدّ من التوقيع الإلهي على شرعيّة ذلك المذهب ، عن طريق نزول الوحي
على رسول الله الصادق الأمين ، أو ظهور المعجزات من إمام ذلك المذهب.
ولذلك فقد اشتُهر وتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
قوله : « مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، مَن ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها
غرِق ».
والآن .. نعود إلى شرح كلمات خطبة السيدة زينب ( عليها السلام ) :
تقول السيدة : إنّ قتل الأتقياء وأحفاد الأنبياء وإبن الأوصياء ، كان
على أيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة.
إنّنا حينما نُراجع التاريخ الصحيح نجد أنّ الذين ارتكبوا فاجعة كربلاء
الدامية كانوا من أولاد الحرام !! بِدءاً من يزيد ، إلى ابن زياد ، إلى
الشمر ، إلى العشرة الذين سحقوا جسد الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد
شهادته ، بحوافر خيولهم !!
ولإلتحاق كلّ واحد منهم بأبيه قصّة مذكورة في كتب « علم الأنساب ».
(45)
فقد جاء في التاريخ : أنّ إمرأة نصرانية إسمها : « ميسون بنت بجدل
الكلبي » زَنَت مع عبد أبيها ، فحملت بـ « يزيد » وبعد الحمل بشهور تزوّجها
معاوية. (46)
وأمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّ أمّه « مرجانة » كانت مشهورة ـ عند
الجميع ـ بالزنا المُستمرّ !! (47)
وكلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) مشهور وصريح بأنّ عبيد الله وأباه
زياد كانا إبنَي زنا ، حيث قال الإمام : « ... الا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ
قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ... ».
وقد رويَ عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « قاتل
الحسين ( عليه السلام ) ولد زنا ». (48)
« تَنطِف أكُفّهم من دمائنا »
تنطِفُ : تقطرُ أو تسيل. (49)
والظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة ، وتعني السيدة زينب
( عليها السلام ) تلك الأيدي والأكفّ التي كانت تضرب بسيوفها ورماحها على
أجسام آل رسول الله : الإمام الحسين ورجال أهل بيته وأصحابه ، فتتقاطر
أكفّهم وسيوفهم من دماء أولئك الطيّبين.
« وتتحلّب أفواههم من لحومنا »
تتحلّب : يُقال : حَلَبَ فلانٌ الشاة أو الناقة : أي : إستخرج ما في
ضَرعها من اللبن ، واستحلب اللبن : إستدرّه. (50)
وتحلّب فوه أو الشيء : إذا سال. (51)
لعل المراد : أنّه كما أنّ ولد الناقة تتحلّب وتمتصّ بفمها الحليب من
محالب أمّها ، كذلك كان الأعداء يمتصّون بأفواههم من لحوم ودماء آل رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مصّاً قوياً بدافع الحقد والبغضاء !!
وهذه ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة وكناية عن شدّة حقدهم وعدائهم.
ويُمكن أن تكون هذه الكلمة إشارةً إلى ما فعلته « هند » جدّة يزيد ـ في
غزوة أحد ـ : مِن شقّها لبطن سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب ، وإخراجها كبده ،
ثم وضعه في فمها ومحاولتها أن تمضغه وتأكل منه ، حقداً منها عليه ، لكونه
عمّاً لرسول الله ، وقائداً كفوءاً في جيش المسلمين.
(52)
« تلك الجُثث الزاكية ، على الجَبوب الضاحية »
الجَبوب : وجه الأرض الصلبة (53) وقيل :
الجَبوب : التُراب. (54)
الضاحية : يُقال ضحا ضَحواً : برز للشمس ، أو أصابه حرّ الشمس ، وأرض
ضاحية الظلال : أي : لا شجر فيها. (55)
إخبار من السيدة زينب ( عليها السلام ) عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة
على وجه الأرض عدّة أيام .. من غير دفن ، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة ،
كلّ ذلك .. رغم كونهم سادات أولياء الله تعالى.
« تَنتابها العواسل »
تنتابها : تأتي إليها مرّة بعد مرّة.
العواسل ـ جمع عاسِل ـ : وهو الذئب. (56)
وهنا إحتمالان في المقصود من هذا الكلام.
الإحتمال الأول : إنّ المقصود من « العواسل » : هم الذين حضروا يوم
عاشوراء لقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) والصفوة الطيبة من ذريته وأهل
بيته واصحابه. عبّرت السيدة زينب ( عليها السلام ) عن أولئك الاعداء
بالذئاب ، لأنّهم كانوا يحملون صفة الذئاب وهي الإفتراس ، ويُعبّر عن هذا
النوع من التشبيه ـ في علم البلاغة والأدب ـ بـ « الإستعارة ».
وقد استعمل الإمام الحسين ( عليه السلام ) هذا النوع من الإستعارة في
خطبته التي ألقاها قبل خروجه من مكّة نحو العراق ، حيث قال ـ فيها ـ : «
... خُيّرَ لي مصرع أنا لاقيه ، وكأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات ،
بين النواويس وكربلاء ... ». (57)
وبناءً على هذا .. يكون المقصود من كلمة « تَنتابها » الهجوم المتوالي
والغارات المتتالية التي كان الأعداء يَشِنّونها على أصحاب الإمام الحسين
وخيامه .. يوم عاشوراء.
الإحتمال الثاني : هو أنّ الشأن والعادة تقتضي أن لو بقيت جُثث أناس
على الأرض ـ من غير دفن ـ ، وكانت المنطقة تتواجد فيها الذئاب ، فإنّها
تأتي إلى تلك الجثث وتأكل من لحومها.
إلا أنّ المعنى لم يحصل ـ بكلّ تأكيد ـ بالنسبة إلى الجسد الطاهر
للإمام الحسين ( عليه السلام ) وأجساد أصحابه وأهل بيته الطاهرين ، الذين
قُتلوا معه ، وبقيت أجسادهم على الأرض لمدّة ثلاثة أيام ، من غير دفن أو
مواراة في الأرض ، من دون أن يتعرّض لها ذئب أو أيّ حيوان مفترس آخر.
« وتُعفّرها أمّهات الفراعل »
الفراعل ـ جمع فُرعُل ـ : ولد الضبع. (58)
الظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة ، ولعلّها تشير إلى
أولئك الأفراد العشرة الذين ركبوا خيولهم وسحقوا جسد الإمام الحسين ( عليه
السلام ) بعد قتله .. بحوافر الخيل ، في يوم عاشوراء ، أو اليوم الحادي عشر
من المحرّم.
قال الراوي : ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدبُ للحسين فيوطئ
الخيل ظهره ؟
فانتدب منهم عشرة وهم : إسحاق بن حوية ، وأخنَس بن مرثد ، وحكيم بن
طفيل ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن مُنقذ العبدي ، وسالم بن خَيثمة
الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي ، وواحظ بن غانم ، وهاني بن ثَبيت الحضرمي ،
وأُسيد بن مالك ( لعنهم الله ) فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى رضّوا ظهره
وصدره !!
قال الراوي : وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا عند ابن زياد ، فقال له
أحدهم :
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكـلّ يعبـوبٍ شديـد الأسـر
فقال ابن زياد : مَن أنتم ؟
قالوا : نحن وطئنا بخيولنا ظهر الحسين .. حتى طحنّا جناجن صدره !!
فأمر لهم بجائزة.
قال أبوعمرو الزاهد : فنظرنا في نسب هؤلاء العشرة ، فوجدناهم جميعاً
أولاد زنا ! (59)
« فلئن اتّخذتنا مغنَماً ، لتجدُ بنا وشيكاً مُغرماً حين لا تجد إلا ما
قدّمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد »
مَغنَماً : الغنيمة ، وجمعها : مغانم (60)
وقيل : المَغنَم : هو كل ما حصل عليه الإنسان من أموال الحرب.
(61)
مُغرَماً : المُغرَم : المُثقل بالدَين (62)
أو أسير الدَين (63) وقيل : المغرَم : مصدر
وُضِعَ موضع الإسم ، ويُراد به مُغرَم الذنوب والمعاصي.
(64)
المعنى : يا يزيد ! إنّك أمرت بأسرنا ، وتعاملَت جلاوزتك معنا ـ في
طريق الشام ـ تعامل السبايا والغنائم الحربيّة ، ولكن .. إعلم أنّك ـ في
القريب العاجل ـ سوف تجد نفسك مُثقلاً بالذنوب ومحاصراً بالمعاصي التي يلزم
عليك دفع ضريبتها ، والدفاع عن نفسك في محكمة العدل الإلهية ، حيث لا تجد
معك إلا ما قدّمت يداك : من جرائم وجنايات ، والتي مِن أبرزها : سبيِ نساء
آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وفي ذلك الحين ترى نفسك وحيداً
ذليلاً مهاناً ، من غير محام يدافع عنك ، ولا عذرٍ لتبرّر به أعمالك ، ولا
مال لتدفعه رشوةً وتُخلّص به نفسك ، بل تبقى أنت وأعمالك !!
« فإلى الله المشتكى والمُعَوّل ، وإليه الملجأ والمؤمّل »
المُعَوّل : إسم مفعول بمعنى « المُستعان » ، يقال :
عَوّلتُ عليه : أي استَعَنتُ به ، وصَيّرت أمري إليه
(65) وقيل : العَولُ : المُستعان به ، والعِوَل : الإتّكال
والإستعانة ، يُقال : عَوَل الرجل عليه : أي : إعتمد وإتّكل عليه ،
واستعانَ به. (66)
وبعد ما ذكرَت السيدة زينب ( عليها السلام ) ما جرى على آل الرسول
الطاهرين من المصائب ، تقول « فإلى الله المُشتكى » وعليه الإعتماد
والإتّكال والإستعانة به .. لا إلى غيره ، فقد كان تعالى : هو الشاهد على
ما جرى ، وسيكون هو المنتقم من الأعداء ، المقتدر على إبادتهم وعقوبتهم. «
وإليه المَلجأ والمؤمّل » فهو ـ سبحانه ـ الملجأ لنا ولبقيّة أفراد العائلة
المكرّمة ، وخاصّة بعد فقدنا لسيّدنا الإمام الحسين ( عليه السلام )
وتواجدنا في عاصمة بني أميّة ، في قيد الأسر والسبي !
وهو « المؤمّل » : الذي نأمل منه أن يُعيننا على ما أصابنا ، ويُعطينا
الصبر الجميل على تحمّل ذلك ، ويمنحنا الأجر الجزيل إزاء ما لاقيناه من
المكاره والنوائب.
ثمّ عادت السيدة زينب ( عليها السلام ) لتصبّ جاماً آخر من غضبها على
المجرم الأصلي لفاجعة كربلاء ، وهو يزيد الي قام بتلك الجرائم مباشرة ، أو
أصدر الأوامر لعامله اللعين ابن زياد ، الذي نفّذ أوامر يزيد من القتل
والسبي والضرب وغير ذلك.
وكأنّها ترى أن كلّ ما خاطبته به غير كافٍ لِما يستحقه من شجبٍ وتعنيف
!
فقالت :
« ثمّ كِد كيدك ، واجهد جهدك »
الكيد : إرادة مَضَرّة الغير خُفية ، والحيلة السيّئة ، والخُدعة ،
والمكر (67).
جَهَد جهداً : جدّ ، يُقال : طلب حتى وصل إلى الغاية ، والجهد ، الوُسع
والطاقة. (68)
هذا كلام يَطغى عليه طابع التهديد الشديد ، مِن سيّدة أسيرة ، ولكنّها
واثقة من نفسها ـ أعلى درجات الثقة ـ أنّ جميع نشاطات يزيد ـ والفصول
اللاحقة من مخطّطاته ـ سوف تفشل ، وسوف لا يتوصّل إلى أيّ واحد من أهدافه
!! بل ترجع عليه بشكل مُعاكس ، فكُرسيّه يتزعزع ، وسلطته تضعُف ، وقدرته
تذهب !
فالسيدة زينب ( عليها السلام ) تريد أن تقول ليزيد : إصنع ما بدا لك ،
من تخطيط وتفكير ، وقَتل وإبادة ، وسَبي وأسر ، وابذل ما في وسعك من جهود ،
فسوف لا تصل إلى الهدف الذي حَلِمتَ به ، وهو إستئصال شجرة النبوة من
جذورها .. بكافّة أغصانها وفروعها وأوراقها ، وعدم إبقاء صغير أو كبير من
آل رسول الله .. رجلاً كان أو إمرأة !
« ـ فو الله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب ، والنبوّة والإنتخاب ـ »
القسم للتأكيد الأكثر ، وهو ـ في الواقع ـ إنعكاس آخر لعلوّ مستوى درجة
الثقة بالنفس والإتّكال على الله تعالى ، واليقين بما يقوله الإنسان ويحلف
من أجله ، وعِلم السيدة بحوادث المستقبل ، وما ستؤول إليه الأمور ، فإنّ
حوادث اليوم ، وأحداث المستقبل تُعتبر ـ أمام عين السيدة زينب عليها السلام
ـ في حدّ سواء ، لأن الله تعالى ميّزها عن بقية سيدات البشر بأن يُوصّل
إليها العلوم مباشرة .. عن طريق الإلهام .. ودون تعلّم من البشر ، ولذلك
فإنّ حوادث المستقبل معلومة وواضحة لها كاملاً كالحوادث المعاصرة ، ومثالها
مثال مَن يُخرج رأسه مِن نافذة الغرفة ، فيرى ـ بكلّ وضوح ـ كلّ ما هو
موجود إلى آخر الشارع ، وليس مثالها مثال من يجلس في غرفة ويفتح النافذة
فلا يرى إلا ما يُقابل النافذة فقط.
إنّنا نتلمّس ـ من كلمات القسم هذه ـ المعنويّات العالية التي كانت
تمتاز بها السيدة زينب ( عليها السلام ) حين إلقائها لخطبتها ، فهي تفتخر
وتعتزّ بمزاياها الفريدة فتقول : « فو الله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب » ،
فالقرآن الكريم نزل على جدّ السيدة زينب وهو رسول الله سيّدنا محمد ( صلى
الله عليه وآله وسلم ) وفي دارها.
وكذلك اختار الله هذه الأسرة وانتخبها لتكون فيهم النبوّة. وكأنّها
تُعرّض بكلامها ليزيد : أن أنت بماذا تَعتز ؟ وبماذا تفتخر ؟!
وهل توجد فيك فضيلة واحدة حتى تفتخر بها ؟!
ولعلّ السيدة زينب كانت تقصد ـ أيضاً ـ إسماع الجماهير المتواجدة في
ذلك المجلس هذه الحقائق ، ومِن باب المَثل الذي يقول : « إيّاك أعني
واسمَعي يا جارَه ».
وبعد كلمات القسم تذكر السيدة زينب ( عليها السلام ) الأمور التي
أقسَمَت من أجلها :
« لا تُدرِك أمَدَنا ، ولا تَبلُغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا »
أمدنا : الأمد : الغاية والنهاية. (69)
أي : مهما بذلت من الجهود ، وحاولتَ من المحاولات ، فسوف تفشل في ذلك ،
فقد حاول ذلك مَن كان قبلك ـ وهو معاوية ـ فلم يستطع ذلك ، رغم أنّه كان
أقوى منك.
« ولا يُرحَضُ عنك عارُها »
يُرحض : يُغسل.
تُصرّح السيدة زينب ( عليها السلام ) بحقيقة واقعيّة : وهي أنّ العار
والخزي وسبّة التاريخ ، سوف تكون ملازمة ليزيد إلى الأبد ، ولا يتمكّن من
غَسلها ، لا هو .. ولا مَن سيأتي من بعده من الشواذ الذين يُشاركونه في
الإتجاه واللؤم.
إنّ التاريخ يقول : حينما بدأت الأمور تنقلب على يزيد ، فقد صارت مجالس
تعليم القرآن الكريم .. في الشام يتحدّث فيها المعلّم عن جرائم يزيد في
قتله الإمام الحسين ( عليه السلام ) وسبيه نساء آل رسول الله ، ثمّ بدأ
الناس يُنقّبون ويُنَبّشون في ملف يزيد ، لِيَروا الفارق الواسع بين سيرته
وأعماله ، وبين ما سمعوه أو قرأوه عن سيرة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه
وآله وسلم ).
لمّا حدث كل هذا .. بدأ يزيد يُلقي باللوم على ابن زياد ، وصار يلعنه
ويقول : إنّه قتل الحسين من تِلقاء نفسه.
ولكنّ جميع هذه المحاولات باءَت بالفشل والفضيحة الأكثر ليزيد !
« وهل رأيُك إلا فَنَد ، وأيّامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدَد »
فند : الفند : الخطأ في القول والرأي. وقيل : الفند : هو الكَذِب.
(70)
لعلّ المعنى : أنّ رأيك ـ في تخطيطك ومحاولتك للتخلّص من مضاعفات
جريمتك ـ خطأ وضعيف.
« وأيّامك إلا عدد »
العدد : هو الكميّة المتألّفة من الوحدات ، فيختصّ بالمتعدّد في ذاته.
وعدد : للتقليل : أي : معدود ، هو نقيض الكَثرة.
(71)
لعلّ المعنى : يا يزيد إنّ أيامك الباقية من عمرك قليلة ، فسوف لا تبقى
في هذه الحياة إلا أياماً معدودة ، فأنتَ قريب إلى الموت والهلاك ، وبعد
ذلك سوف تلاقي جزاء أعمالك ، فالعذاب منك قريب.
إنّ جريمة قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) أثّرت تأثيراً سلبيّاً في
مقدار عمرك ، فجعلته قصيراً جدّاً.
فقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد عاش بعد فاجعة كربلاء سنتين وشهرين
وأربعة أيام (72) ، فلم يَتَهنّا بطول الحياة
وطول مدّة السلطة ، كما كان يتمنّى ذلك ، وكما كان يُتوقّعه بعد القضاء على
منافسه ـ حسب زعمه ـ وهو الإمام الحسين ( عليه السلام ).
« وجمعك إلا بدَد »
بدَد : يُقال بَدّهُ بَدّاً : أي فَرّقَه ، وبَدّدَ الشيء : فَرّقَه
(73) والتَبَدّد : التفرُّق.
(74)
المعنى : سوف يتفرّق جمعك وجلاوزتك ، وحاشيتك التي كنت تسهرُ معهم على
مائدة الخمر والقمار والغناء ،
فسوف يغيبون عن عينك ، لمرض أو موت ، أو تتغيّر نظرتهم بالنسبة إليك ، أو
غير ذلك من الأسباب التي تجعل كلّ يوم من الأيام يحمل لك حزناً وهمّاً
جديداً ، فلا تتهنّا بمن حولك.
« يوم ينادي المنادي : ألا لعن الله الظالم العادي »
المعنى : يوم تموت ، وتسمع صوتاً مرعباً لمناد ينادي ـ من عند الله
تعالى ـ : « ألا لعن الله الظالم العادي » فأوّل شيء تراه بعد موتك هو :
سماعك لهذا الصوت.
وكلمة « لعن الله الظالم » أي : أبعده عن رحتمه وعفوه ومغفرته.
ثمّ .. بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) تُمهّد لختام خطبتها الخالدة
، فقالت :
« والحمد لله الذي حَكَم لأوليائه بالسعادة ، وختم لأصفيائه بالشهادة ،
ببلوغ الإرادة »
حَكَم لأوليائه : قضى لهم (75) ، وقدّر
لهم ذلك.
أصفيائه : الصفيّ مِن كلّ شيء صَفوُهُ ، وجمعُه :
أصفياء. (76)
بقلب مفعم بالإيمان بالله تعالى ، والرضا بما يختاره الله لعباده ،
بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) تختم خطبتها بحمد الله سبحانه الذي قضى
لأوليائه بالسعادة ، وتقصد من الأولياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين ( عليه
السلام ) ـ الذي هو سيد أولياء الله تعالى ـ وأصحابه الذي قُتلوا معه يوم
عاشوراء ، ونالوا ـ بذلك ـ شرف الشهادة.
إنّ الإنسان الذي يلتزم بالدين ، ويصنع من نفسه وليّاً لله ـ وذلك
بأدائه لِلَوازم العبودية لله سبحانه ـ سوف يحظى بنتائج إلهيّة فريدة ، وهي
عبارة عن المِنَح المميزة ، والألطاف الخاصّة التي يُفيضها الله عليه ،
والتي لا تشمل غيره من الناس ، ومن أبرز تلك الألطاف الخاصة : السعادة
الأبدية ، ولعلّ إلى هذا المعنى الرفيع أشار الله تعالى بقوله : « والله
يختصّ برحمته من يشاء ». (77)
إنّ أولياء الله تعالى كانوا يفكّرون ـ باستمرار ـ في جَلب رضى الله
سبحانه.
أجَل .. كان هذا هو الهدف الذي يُشغلون به بالهم ، ويتحرّكون في هذا
المدار ويدورون حول هذا المحور.
ومن الطبيعي أنّهم كانوا ـ ولا زالوا ـ على درجات ، فهناك مَن يكون
وليّاً لله تعالى منذ السنوات الأولى من حياته ، وهناك من يصير ولياً لله
تعالى في مرحلة متقدّمة من العمر.
وعلى هذا الأساس يقضي الله ( عز وجل ) لهم بالفوز والتفوّق والسعادة
الأبديّة ، بجميع ما لهذه الكلمة من معنى.
وأحياناً يُقدّر الله تعالى لهم بعض المكاره والصعوبات ، وذلك لأسرار
وحِكَم يعلمها الله سبحانه ، فترى الأولياء يُظهرون من أنفسهم كلّ إستعداد
وتحمّل وتقبّل لتلك المكاره ويستقبلونها بصدر واسع وصبر جميل.
وختم الله تعالى لأصفيائه بالشهادة ، فقد كانت حياتهم كلها خير وبركة
منذ البداية إلى النهاية ، فمِن المؤسف ـ حقّاً أن يموت الوليّ ميتةً
طبيعية على الفراش ، بل المتوقّع له أن يوفّقه الله تعالى للشهادة والقتل
في سبيله ، لكي تكون لموته أصداءٌ تعود للدين بالفائدة ، كما كانت حياته
كذلك.
فقتلهم يوقظ الغافلين غير المُلتزمين بالدين ، ويجعلهم يُفكّرون
ويتساءلون عن سبب قتله رغم كونه إنساناً طيباً ، ويبحثون عن هويّة القاتل ،
وهدفه من قتل هذا الرجل !
فتكون هذا الأصداء سبباً لعودة الكثيرين إلى الإلتزام الشديد بالدين
ومبادئه.
أليس كذلك ؟!
ولعلّ أولئك الأولياء هم الذين أرادوا أن يكون ختام حياتهم بالشهادة ،
وسألوا من الله ( عزّ وجل ) ذلك ، فاستجاب الله ـ سبحانه ـ لهم دعاءهم ،
وقدّر لهم الشهادة في سبيل الله تعالى ، ولعلّ هذا هو معنى كلام السيدة
زينب ( عليها السلام ) : « بِبلوغ الإرادة ».
« نقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة »
المعنى : نَقَلهم إلى عالم يُرَفرف على رؤوسهم رحمة الله الواسعة
المخصّصة للشهداء في سبيل الله تعالى ، والرأفة : أي : العاطفة المزيجة
باللطف والحنان ، التي لا تَشمَل غير الشهداء الذين باعوا أعزّ شيء لديهم ـ
وهي حياتهم ـ للدين ، وفي سبيل المحافظة على روح الدين الذي كان يتجسّد في
الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وعدم الرُضوخ لبيعة « يزيد » الكافر.
« والرضوان والمغفرة » إنّ القرآن الكريم يُصرّح بأن أعلى وأغلى وألذّ
نعمة يتنعّم بها بعض أهل الجنّة ـ وفي طليعتهم شهداء فاجعة كربلاء ـ هو
شعورهم وإحساسهم بأنّ الله تعالى راض عنهم ، قال تعالى : « وَعَدَ الله
المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة
في جنّات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ».
(78)
هذا سوى ما يُعيّن لهم من أنواع النِعَم والكرامة والإحترام اللائق ..
الذي لا مَثيل له في عالم الدنيا !
يُضاف إلى ذلك : أنّ الرجل الذي يُقتَل في سبيل الله بنيّة خالصة سوف
يمرّ نسيم العفو والمغفرة على ما صدر منه من مخالفات ، فيصير ملفّه أبيض لا
سواد فيه.
إنّنا نقرأ في دعاء صلاة يوم عيد الفطر والأضحى : « ... اللهم وأهل
العفو والرحمة وأهل التقوى والمغفرة » ، وهذا لجميع المؤمنين التائبين ،
ولكنّ الشهيد يمتاز بمزايا وتسهيلات خاصّة قرّرها الله تعالى للشهداء فقط.
هذا إذا كان الشهيد إنساناً عادياً غير معصوم من الذنوب ، أمّا إذا كان
معصوماً فلا توجد في صحيفة أعماله ذنوب أو معاصي ، فيكون معنى « المغفرة »
بالنسبة إليه علوّ درجته في الجنّة ، واختصاصه بمنح فريدة كالشفاعة للآخرين
، وغير ذلك من المميّزات.
وأمّا سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقد خاطبه الله تعالى
ـ بقوله ـ : « يا أيتها النفس المطمئنّة : إرجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة ،
فادخلي في عبادي وادخُلي جنّتي » ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه
السلام ) أنّ المقصود والمُخاطب بهذه الآية : هي نفس الإمام الحسين ( عليه
السلام ). (79)
وكم تتضمّن هذه الآيات من كلمات وضمائر عاطفيّة !!
« ولم يَشقَ بهم غيرك »
المعنى : إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً ومطروداً من رحمة الله .. هو أنت
يا « يزيد » ، .. بسبب قتلك إيّاهم وقضائك على حياتهم ، وطعنِك في قلب
الإسلام النابض وهو الإمام الحسين ( عليه السلام ).
« ولا ابتُليَ بهم سواك »
إنّ الذي امتُحنَ بالقدرة والسلطة ومشاهدة كرسيّ الملك الذي مهّده له
معاوية ، فاراد القضاء على كلّ من لا يركع له ، وبذلك سقط في الإمتحان
سقوطاً ذريعاً هو أنت أيّها الخامل الحاقد !
أمّا الذين قُتِلوا مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ونالوا شرف
الشهادة معه .. فهم قد نجحوا في الإمتحان نجاحاً باهراً وفوزاً متوالياً
متواصلاً ، أي : كما كانوا مِن قَبل الشهادة ـ أيضاً ـ في مرحلة عالية من
سلامة الفكر والعقيدة والسلوك ، والطاعة التامّة لإمام زمانهم الحسين (
عليه السلام ).
فهم ـ الآن ـ في أعلى درجات الجنان والتي يُعبّر عنها بـ « الفردوس
الأعلى ».
أما أنت ـ يا يزيد ـ فسوف يكون مصيرك في أسفل دَرَك من الجحيم ، وفي
ذلك التابوت الذي يُمَوّن جميع طبقات جهنّم بالحرارة العالية التي لا يُمكن
للبشر ـ في هذه الدنيا ـ أن يتصوّر درجة حرارتها وشدّة اشتعالها.
قال تعالى ـ بالنسبة لأهل النار ـ : « ويأتيه الموتُ مِن كلّ مكان وما
هو بميّت » (80) وقال ( جلّ ثناؤه ) : «
وقالوا :
يا مالِك ! لِيَقضِ علينا ربّك ؟ قال : إنّكم ماكثون ».
(81)
« ونَسأله أن يُكمِل لهم الأجر ، ويُجزل لهم الثواب والذخر »
أكمَلَ الشيء : أتمّه ، وفي القرآن الكريم : « اليوم أكملتُ لكم دينكم
» (82) ويقال ـ أيضاً ـ : الكَمَلُ : الكامل
، يُقال : أعطاه حقّه كملاً : وافياً. (83)
يُجزِل : الجَزلُ : العطاء الكثير ، ويُقال : أجزَل العطاء.
(84)
والجَزلُ : الكثير من كلّ شيء. (85)
الثواب : الجزاء والعطاء (86) ، وقيل :
هو الجزاء الذي يُعطى مع الإحترام والإجلال والتقدير .. وليس مجرّد إعطاء
الجزاء (87).
الذُخر : يُقال : ذَخَر لنفسه حديثاً حسناً.
(88)
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُكمِلَ لهم الجزاء المخصّص للشهداء ،
جزاءً تامّاً يَليقُ بتقدير الله سبحانه للشهداء المخلصين ، الذين تركوا
زوجاتهم أرامل ، وأطفالهم أيتام ، وأمّهاتهم ثُكالى .. كل ذلك .. في سبيل
الله !
فيُعطيهم العطاء الكثير الوافر ، مع الإحترام والتقدير ، إذ قد يَدفع
الإنسان الأجرة إلى العامل .. مِن دون أن تكون كيفيّة الإعطاء مقرونة
بالإحترام ، أمّا الثواب : فهو إعطاء الأجر .. مع الإستقبال الحارّ ،
والإحترام والإبتسامة واللُطف.
ويَكتُب لهم الثناء الجميل والذكر الحسن ، على ألسنة الناس وفي صفحات
التاريخ.
وقد استجاب الله تعالى دُعاء السيدة زينب العظيمة ( عليها السلام ) ،
فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « ما مِن عبدٍ
شرِب الماء فذكر الحسين ( عليه السلام ) ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة
ألف حسنة ، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنّما
أعتق مائة ألف نَسَمة ، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثَلجَ الفؤاد ».
(89)
وروي عن الإمامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) أنّهما قالا : «
إنّ الله تعالى عوّض الحسين ( عليه السلام ) عن قتله أن : جعل الإمامة في
ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام
زائريه .. ـ جائياً وراجعاً ـ مِن عمره ». (90)
وقد روي ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه أمَر
رجلاً كان يريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن
يزور قبور الشهداء ـ بعد الفراغ من زياة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ـ
ويُخاطبهم بهذه الكلمات :
« ... بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً
عظيماً ... ».
« ونسأله حسنَ الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنّه رحيم ودود »
الخلافة : يُقال خَلَف فلان فلاناً .. خلفاً وخِلافةً : جاء بعده فصار
مكانه (91). وفي الدعاء : أخلَفَ الله لك
وعليك خيرا ».
وفي الدعاء أيضاً : « واخلُف على عَقِبِه في الغابرين ».
الإنابة : الرجوع الى الله ، قال سبحانه : « إرجعي إلى ربّك ».
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُخلّف لناعمّن فقدناه أفراداً صالحين ،
يسدّون بعض الفراغ الذي تركه مقتل أولئك الصفوة الطيّبة من رجال آل رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن يجعل في البقيّة الباقية منهم خيراً.
أو : أن يجعل مستقبلنا مستقبلاً حسناً مريحاً ، بعد ما شاهدناه
وعانيناه من المصائب الفجيعة التي لن تُنسى !!
إنتهت السيدة زينب البطلة الشجاعة ، مِن إلقاء خطبتها الخالدة.
والآن .. توجّهت أنظار الحاضرين إلى يزيد الحاقد لِيَروا منه ردود
الفعل.
فما كان منه سوى أنّه عَلّق على هذه الخطبة المفصّلة بقوله :
يا صحيةً تُحمدُ من صوائح ما أهونَ الموت على النوائح
(92)
فهل إنعقد لسانه عن إجابة كلّ بند من بنود تلك الخطبة ؟!
أم أنّ أعصابه أُصيبت بالإنهيار والإهتزاز ، فلم يستطع التركيز والرد
؟!
أم رأى أنّ الإجابة والتعليق يُسبّب له مزيداً من الفضيحة أمام تلك
الجماهير الغفيرة الحاشدة في المجلس ، فرأى السكوت خيراً له من خَلق أجواء
الحوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي ظَهَرت جدارتها
الفائقة على مقارعة أكبر طاغوت ، بكلام كلّه صدقٌ ، واستدلال منطقي وعَقلي
مُقنع. وخاصة أنّ الجملات الأخيرة ـ التي كانت تَحمل في طيّاتها التهديد
المُرعب ـ جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به مِن تجبّر وكبرياء.
(93)
__________________________
1 ـ سورة الروم ، الآية 10.
2 ـ سورة آل عمران ، الآية 178.
3 ـ السيرة النبوية ، لإبن هشام ، طبع لبنان عام 1975 م ، ج 4 ص 41 ، وبحار
الأنوار للشيخ المجلسي ج 21 ص 106.
4 ـ سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآية 4.
5 ـ لسان العرب لابن منظور.
6 ـ أقرب الموارد للشرتوني.
7 ـ سورة النمل ، الآية 14.
8 ـ المعجم الوسيط.
9 ـ أعتاهم : العتو : الإستكبار والتجبر وتجاوز الحد. كما في « العين »
للخليل ، والمعجم الوسيط. المحقق
10 ـ جاء هذا النص ـ بالحرف الواحد ـ في كتاب « سير أعلام النبلاء » للذهبي
، ج 10 ، ص 533 وكتاب « تاريخ بغداد » للخطيب البغدادي ، ج 14 ، ص 181
وكتاب « خلاصة عبقات الأنوار » ج 7 ، ص 305.
11 ـ كما يستفاد من كتاب « مغني اللبيب » لإبن هشام.
12 ـ كتاب « عيون أخبار الرضا عليه السلام » للشيخ الصدوق.
13 ـ القاموس المحيط ، للفيروز آبادي.
14 ـ المعجم الوسيط.
15 ـ كتاب « لسان العرب » ، و « المعجم الوسيط ».
16 ـ كتاب « الكامل » لإبن الأثر ، ج 3 ، ص 300 ، وكتاب « تاريخ دمشق »
لإبن عساكر ، في ترجمة أبي برزة الأسلمي ، وكتاب « أنساب الأشراف »
للبلاذري ، ج 3 ، ص 214 ، وكتاب « مقتل الحسين » للخوارزمي ، ج 2 ص 55 ـ 57
، وكتاب « تاريخ اليعقوبي » ، ج 2 ، ص 232 من الطبعة الأولى ، وكتاب «
الجوهرة » للبري ، طبع الرياض ، ج 2 ، ص 219 ، وكتاب « الرد على المتعصب
العنيد » لإبن الجوزي ، طبع لبنان ، ص 45 ، وكتاب « تاريخ الإسلام » للذهبي
، ج2 ، ص 351.
17 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
18 ـ كتاب « المعجم الكبير » للطبراني ، طبع بغداد ، ج 3 ، ص 109.
19 ـ المعجم الوسيط.
20 ـ قال الخليل في كتاب « العين » اليعسوب : أمير النحل وفحلها ، ويُقال :
هي : عظيمة مُطاعة فيها ، إذا أقبلت أقبلت ، وإذا أدبرت أدبرت. وقال
الزبيدي ـ في « تاج العروس » ـ : اليعسوب : أمير النحل ، واستُعمل بعد ذلك
في الرئيس الكبير والسيد والمُقدّم ، ... وفي حديث علي ( عليه السلام ) : «
أنا يعسوب المؤمنين » أي : يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها ».
وقال إبن منظور ـ في « لسان العرب » ـ : « اليعسوب : أمير النحل ، ويُقال
للسيد : يعسوب قومه ، وفي حديث علي [ عليه السلام ] : أنا يعسوب المؤمنين ،
يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها ». المحقق
21 ـ حكى عنه ذلك ابن هشام في كتاب « مغني اللبيب » ص 342. المحقق
22 ـ المعجم الوسيط.
23 ـ كتاب « العين » للخيل بن أحمد.
24 ـ كتاب « عيون أخبار الرضا عليه السلام » ج 2 ، ص 47 ، حديث 178.
25 ـ المعجم الوسيط.
26 ـ نفس المصدر.
27 ـ كتاب ( بحار الأنوار ) ج 8 ، ص 296 ، وهو ينقل ذلك عن كتاب « تفسير
علي بن إبراهيم » ، وقد نَقَلنا مضمون الحديث.
28 ـ كتاب « أمالي الطوسي » ص 161 ، حديث 268 ، ونقله المجلسي في « بحار
الأنوار » ج 45 ، ص 313.
29 ـ المعجم الوسيط.
30 ـ كتاب « العين » للخيل بن أحمد.
31 ـ نفس المصدر.
32 ـ المعجم الوسيط.
33 ـ كتاب « العَين » للخليل.
34 ـ المعجم الوسيط.
35 ـ المعجم الوسيط.
36 ـ نفس المصدر.
37 ـ كتاب « العين » للخليل ، و « لسان العرب » لابن منظور ، و « تاج
العروس » للزبيدي. المحقق
38 ـ سورة آل عمران ، الآية 169 ـ 170.
39 ـ كتاب « الدرّ النظيم » للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ،
المتوفى عام 676 للهجرة ، الطبعة الاولى ، طبع ايران ، عام 1420 هـ ، ص 540
، وهو ينقل ذلك عن « مثير الأحزان ».
40 ـ كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » للسيد ابن طاووس ، ص 217.
41 ـ المعجم الوسيط.
42 ـ كما يُستفاد هذا المعنى من كتاب « العين » للخليل ، و « المعجم الوسيط
». المحقق
43 ـ المعجم الوسيط.
44 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 45 ، ص 52.
45 ـ إقرأ كتاب « مثالب العرب » لهشام بن الكلبي وكتاب « إلزام النواصب »
للشيخ مفلح بن الحسين البحراني.
46 ـ كتاب « مجالس المؤمنين » ، ج 2 ، ص 547 ، نقلاً عن كتاب « مثالب
الصحابة ».
47 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 1 ، الفصل السابع ، المجلس الرابع.
48 ـ كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه ، ص 79 ، حديث 11 ، وكتاب « بحار
الأنوار » ج 14 ، ص 183.
49 ـ على ما هو مذكور في أكثر كتب اللغة. المحقق
50 ـ كتاب « أقرب الموارد » للشرتوني.
51 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
52 ـ المحقق.
53 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
54ـ المعجم الوسيط.
55 ـ المعجم الوسيط.
56 ـ وقيل : العواسل ـ جمع عسّال ـ : وهو الرمح. المحقق
57 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 44 ، ص 367. المحقق
58 ـ كتاب « أقرب الموارد » للشَرتوني.
59 ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، ص 182 ـ 183.
60 ـ المعجم الوسيط.
61 ـ كتاب « لسان العرب ».
62 ـ المعجم الوسيط.
63 ـ أقرب الموارد للشرتوني.
64 ـ كتاب « مجمع البحرين » للطريحي.
65 ـ كتاب « العين » ، للخليل بن أحمد.
66 ـ المعجم الوسيط.
67 ـ المعجم الوسيط.
68 ـ نفس المصدر.
69 ـ المعجم الوسيط.
70 ـ كتاب « تاج العروس » للزبيدي ، و « العَين » للخليل بن أحمد.
71 ـ كما يُستفاد ذلك مِن كتاب « تاج العروس » للزبيدي.
72 ـ ذكر ذلك الطبري ـ المتوفى عام 310 هـ ـ في تاريخه ، طبع لبنان ، ج 5 ،
ص 499. المحقق
73 ـ المعجم الوسيط.
74 ـ العين للخليل.
75 ـ المعجم الوسيط.
76 ـ المعجم الوسيط.
77 ـ سورة البقرة ، الآية 105.
78 ـ سورة التوبة ، آية 72.
79 ـ كتاب ( تفسير البرهان ) للسيد هاشم البحراني ، عند تفسير الآية 27 ـ
30 من سورة الفجر. المحقق
80 ـ سورة إبراهيم ، الآية 17.
81 ـ سورة الزخرف ، الآية 77.
82 ـ سورة المائدة ، الآية 3.
83 ـ المعجم الوسيط.
84 ـ كتاب « العَين » للخليل بن أحمد.
85 ـ المعجم الوسيط.
86 ـ نفس المصدر.
87 ـ كما يُستفاد من كتاب « مجمع البحرين » للطريحي.
88 ـ المعجم الوسيط.
89 ـ كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه ، ص 106.
90 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 44 ، ص 221 ، باب 29 ، نقلاً عن كتاب أمالي
الطوسي.
91 ـ كما يُستفاد من مجمع البحرين للطريحي.
92 ـ وفي نسخة : « ما أهون النوح على النوائح » ولعلّه ( لعنه الله ) يقصد
من قراءته لهذا الشعر : أنّها إمرأة مفجوعة .. دَعها تتكلّم بما تُريد ،
فإنّ ذلك لا يُهمّني ! المحقق
93 ـ لقد ذُكرت خطبة السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد ، في
المصادر التالية :
1 ـ كتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، للخوارزمي ج 2 ص 63.
2 ـ كتاب نثر الدرر ، لمنصور بن الحسين الآبي ، المتوفّى عام 421 هـ ، طبع
مصر ، ج 4 ، ص 26.
3 ـ كتاب بلاغات النساء ، لابن طيفور ، المتوفّى عام 280 هـ.
4 ـ كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني الحائري.
5 ـ كتاب « تظلّم الزهراء » للقزويني ، طبع بيروت ، ص 283.
6 ـ كتاب « الإيقاد » للسيد الشاه عبد العظيمي ص 173.