شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

الالتفات وتنوع الكلام في القرآن

0 المشاركات 00.0 / 5

 الالتفات وتنوُّع الكلام في القرآن

محمد هادي معرفة *

ممّا أُخذ على القرآن : عدم نَسجه على منوالٍ واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب ، والانتقال والرجوع ، والقطع والوصل ... إلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي ، زَعَموا أنّه قد يُشوِّش على القارئ فهم المعاني ! (1)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ نظريةً في الكلام ، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط .

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب . إنّ لصياغة الكتاب مُمَيِّزات تختلف عن مُمَيِّزات صياغة الخطاب ، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب . أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات ، فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نَظماً أم نَثراً ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام .

فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (2) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً ، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها ، وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين ، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى . والقرآن كلّه من هذا القبيل ؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب ؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام ، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته .

يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (3) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين .

ثُمَّ الضمائر المتتابعة الثلاثة : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه ! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة ، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع .

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبِينَ النابِهينَ ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان ( في ظاهر إبهام وواقع إحكام ) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة .

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه .

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع .

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى في المجلّد الخامس من " التمهيد " ، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته ، وأَتينا بأَمثلة لذلك .

وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار : قال تعالى : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ) (4) ، يعني : أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم ، فبدلاً من أنْ يشكروا ، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه ، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ) (5) .

فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين ، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل ، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب ، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح .

قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة ؟

قال : المبالغة ؛ كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (6) ، وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس .

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً ، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال ، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر ، ثُمّ يعود  إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام ، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السُّور الطوال .

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات ( البقرة : 228 ـ 237 ) ، وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى ( الآية : 238 ) ، وصلاة الخوف ( الآية : 239 ) ، ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها ( الآية : 240 ) ، ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات ( الآية : 241 ) ، الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً ، ويجوز في الخطاب ، وهذا أيضاً في القرآن كثير .

إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظْم القرآن .

قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتَيها ( الآية السابقة عليها واللاحقة لها ) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس ، قال : وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته ، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ، ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (7) . s

ـــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من : معرفة ، الشيخ محمّد هادي (رحمه الله) ، " شبهات وردود حول القرآن الكريم " ، ص384 ـ 387 ، تحقيق ونشر مؤسسة التمهيد ـ 2006م .

(1) هاشم العربي ملحق ترجمة كتاب الإسلام : ص423 .

(2) يوسف 12 : 29 .

(3) الفتح 48 : 8 و9 .

(4) يونس 10 : 21 .

(5) يونس 10 : 22 ـ 23 .

(6) الكشّاف : ج2 ، ص338 .

(7) ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص439 ، وهو آخر رسالته .

 الالتفات وتنوُّع الكلام في القرآن

محمد هادي معرفة *

ممّا أُخذ على القرآن : عدم نَسجه على منوالٍ واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب ، والانتقال والرجوع ، والقطع والوصل ... إلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي ، زَعَموا أنّه قد يُشوِّش على القارئ فهم المعاني ! (1)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ نظريةً في الكلام ، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط .

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب . إنّ لصياغة الكتاب مُمَيِّزات تختلف عن مُمَيِّزات صياغة الخطاب ، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب . أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات ، فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نَظماً أم نَثراً ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام .

فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (2) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً ، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها ، وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين ، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى . والقرآن كلّه من هذا القبيل ؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب ؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام ، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته .

يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (3) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين .

ثُمَّ الضمائر المتتابعة الثلاثة : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه ! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة ، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع .

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبِينَ النابِهينَ ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان ( في ظاهر إبهام وواقع إحكام ) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة .

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه .

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع .

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى في المجلّد الخامس من " التمهيد " ، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته ، وأَتينا بأَمثلة لذلك .

وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار : قال تعالى : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ) (4) ، يعني : أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم ، فبدلاً من أنْ يشكروا ، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه ، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ) (5) .

فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين ، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل ، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب ، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح .

قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة ؟

قال : المبالغة ؛ كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (6) ، وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس .

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً ، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال ، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر ، ثُمّ يعود  إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام ، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السُّور الطوال .

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات ( البقرة : 228 ـ 237 ) ، وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى ( الآية : 238 ) ، وصلاة الخوف ( الآية : 239 ) ، ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها ( الآية : 240 ) ، ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات ( الآية : 241 ) ، الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً ، ويجوز في الخطاب ، وهذا أيضاً في القرآن كثير .

إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظْم القرآن .

قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتَيها ( الآية السابقة عليها واللاحقة لها ) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس ، قال : وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته ، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ، ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (7) . s

ـــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من : معرفة ، الشيخ محمّد هادي (رحمه الله) ، " شبهات وردود حول القرآن الكريم " ، ص384 ـ 387 ، تحقيق ونشر مؤسسة التمهيد ـ 2006م .

(1) هاشم العربي ملحق ترجمة كتاب الإسلام : ص423 .

(2) يوسف 12 : 29 .

(3) الفتح 48 : 8 و9 .

(4) يونس 10 : 21 .

(5) يونس 10 : 22 ـ 23 .

(6) الكشّاف : ج2 ، ص338 .

(7) ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص439 ، وهو آخر رسالته .

 الالتفات وتنوُّع الكلام في القرآن

محمد هادي معرفة *

ممّا أُخذ على القرآن : عدم نَسجه على منوالٍ واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب ، والانتقال والرجوع ، والقطع والوصل ... إلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي ، زَعَموا أنّه قد يُشوِّش على القارئ فهم المعاني ! (1)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ نظريةً في الكلام ، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط .

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب . إنّ لصياغة الكتاب مُمَيِّزات تختلف عن مُمَيِّزات صياغة الخطاب ، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب . أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات ، فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نَظماً أم نَثراً ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام .

فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (2) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً ، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها ، وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين ، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى . والقرآن كلّه من هذا القبيل ؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب ؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام ، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته .

يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (3) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين .

ثُمَّ الضمائر المتتابعة الثلاثة : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه ! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة ، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع .

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبِينَ النابِهينَ ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان ( في ظاهر إبهام وواقع إحكام ) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة .

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه .

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع .

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى في المجلّد الخامس من " التمهيد " ، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته ، وأَتينا بأَمثلة لذلك .

وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار : قال تعالى : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ) (4) ، يعني : أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم ، فبدلاً من أنْ يشكروا ، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه ، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ) (5) .

فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين ، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل ، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب ، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح .

قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة ؟

قال : المبالغة ؛ كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (6) ، وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس .

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً ، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال ، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر ، ثُمّ يعود  إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام ، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السُّور الطوال .

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات ( البقرة : 228 ـ 237 ) ، وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى ( الآية : 238 ) ، وصلاة الخوف ( الآية : 239 ) ، ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها ( الآية : 240 ) ، ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات ( الآية : 241 ) ، الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً ، ويجوز في الخطاب ، وهذا أيضاً في القرآن كثير .

إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظْم القرآن .

قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتَيها ( الآية السابقة عليها واللاحقة لها ) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس ، قال : وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته ، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ، ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (7) . s

ـــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من : معرفة ، الشيخ محمّد هادي (رحمه الله) ، " شبهات وردود حول القرآن الكريم " ، ص384 ـ 387 ، تحقيق ونشر مؤسسة التمهيد ـ 2006م .

(1) هاشم العربي ملحق ترجمة كتاب الإسلام : ص423 .

(2) يوسف 12 : 29 .

(3) الفتح 48 : 8 و9 .

(4) يونس 10 : 21 .

(5) يونس 10 : 22 ـ 23 .

(6) الكشّاف : ج2 ، ص338 .

(7) ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص439 ، وهو آخر رسالته .

 الالتفات وتنوُّع الكلام في القرآن

محمد هادي معرفة *

ممّا أُخذ على القرآن : عدم نَسجه على منوالٍ واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب ، والانتقال والرجوع ، والقطع والوصل ... إلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي ، زَعَموا أنّه قد يُشوِّش على القارئ فهم المعاني ! (1)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ نظريةً في الكلام ، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط .

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب . إنّ لصياغة الكتاب مُمَيِّزات تختلف عن مُمَيِّزات صياغة الخطاب ، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب . أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات ، فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نَظماً أم نَثراً ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام .

فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (2) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً ، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها ، وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين ، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى . والقرآن كلّه من هذا القبيل ؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب ؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام ، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته .

يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (3) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين .

ثُمَّ الضمائر المتتابعة الثلاثة : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه ! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة ، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع .

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبِينَ النابِهينَ ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان ( في ظاهر إبهام وواقع إحكام ) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة .

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه .

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع .

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى في المجلّد الخامس من " التمهيد " ، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته ، وأَتينا بأَمثلة لذلك .

وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار : قال تعالى : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ) (4) ، يعني : أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم ، فبدلاً من أنْ يشكروا ، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه ، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ) (5) .

فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين ، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل ، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب ، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح .

قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة ؟

قال : المبالغة ؛ كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (6) ، وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس .

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً ، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال ، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر ، ثُمّ يعود  إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام ، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السُّور الطوال .

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات ( البقرة : 228 ـ 237 ) ، وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى ( الآية : 238 ) ، وصلاة الخوف ( الآية : 239 ) ، ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها ( الآية : 240 ) ، ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات ( الآية : 241 ) ، الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً ، ويجوز في الخطاب ، وهذا أيضاً في القرآن كثير .

إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظْم القرآن .

قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتَيها ( الآية السابقة عليها واللاحقة لها ) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس ، قال : وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته ، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ، ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (7) . s

ـــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من : معرفة ، الشيخ محمّد هادي (رحمه الله) ، " شبهات وردود حول القرآن الكريم " ، ص384 ـ 387 ، تحقيق ونشر مؤسسة التمهيد ـ 2006م .

(1) هاشم العربي ملحق ترجمة كتاب الإسلام : ص423 .

(2) يوسف 12 : 29 .

(3) الفتح 48 : 8 و9 .

(4) يونس 10 : 21 .

(5) يونس 10 : 22 ـ 23 .

(6) الكشّاف : ج2 ، ص338 .

(7) ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص439 ، وهو آخر رسالته .

 الالتفات وتنوُّع الكلام في القرآن

محمد هادي معرفة *

ممّا أُخذ على القرآن : عدم نَسجه على منوالٍ واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب ، والانتقال والرجوع ، والقطع والوصل ... إلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي ، زَعَموا أنّه قد يُشوِّش على القارئ فهم المعاني ! (1)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ نظريةً في الكلام ، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط .

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب . إنّ لصياغة الكتاب مُمَيِّزات تختلف عن مُمَيِّزات صياغة الخطاب ، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب . أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات ، فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نَظماً أم نَثراً ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام .

فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (2) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً ، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها ، وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين ، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى . والقرآن كلّه من هذا القبيل ؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب ؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام ، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته .

يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (3) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين .

ثُمَّ الضمائر المتتابعة الثلاثة : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه ! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة ، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع .

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبِينَ النابِهينَ ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان ( في ظاهر إبهام وواقع إحكام ) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة .

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه .

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع .

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى في المجلّد الخامس من " التمهيد " ، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته ، وأَتينا بأَمثلة لذلك .

وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار : قال تعالى : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ) (4) ، يعني : أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم ، فبدلاً من أنْ يشكروا ، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه ، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ) (5) .

فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين ، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل ، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب ، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح .

قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة ؟

قال : المبالغة ؛ كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (6) ، وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس .

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً ، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال ، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر ، ثُمّ يعود  إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام ، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السُّور الطوال .

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات ( البقرة : 228 ـ 237 ) ، وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى ( الآية : 238 ) ، وصلاة الخوف ( الآية : 239 ) ، ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها ( الآية : 240 ) ، ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات ( الآية : 241 ) ، الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً ، ويجوز في الخطاب ، وهذا أيضاً في القرآن كثير .

إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظْم القرآن .

قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتَيها ( الآية السابقة عليها واللاحقة لها ) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس ، قال : وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته ، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ، ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (7) . s

ـــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من : معرفة ، الشيخ محمّد هادي (رحمه الله) ، " شبهات وردود حول القرآن الكريم " ، ص384 ـ 387 ، تحقيق ونشر مؤسسة التمهيد ـ 2006م .

(1) هاشم العربي ملحق ترجمة كتاب الإسلام : ص423 .

(2) يوسف 12 : 29 .

(3) الفتح 48 : 8 و9 .

(4) يونس 10 : 21 .

(5) يونس 10 : 22 ـ 23 .

(6) الكشّاف : ج2 ، ص338 .

(7) ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص439 ، وهو آخر رسالته .

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية