شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

لا إكراه على المناصرة

1 المشاركات 05.0 / 5

 

ومما اتّسمت به أخلاق أهل البيت : في تعاملهم مع الآخرين أنهم لا يفرضون أنفسهم عليهم بالغلبة والقوة ، بل يتركون لهم حرية اتخاذ القرار بأنفسهم.
وكم هو فرق بين أن يقاتل المقاتل في المعركة عن رغبة وشوقٍ وبين أن يقاتل مُكرَهاً علىٰ ذلك ، أو من أجل المطامع الدنيوية التي هي منتهى الزوال والاضمحلال.

كما نجد هذا واضحاً في سيرةأمير المۆمنين عليه السلام مع أصحابه ومَنْ حوله ، فلم يقسر أحداً علىٰ موالاته ، أو علىٰ صحبته أو بيعته ، فإن هناك من تخلّف عن بيعته ، ولم يجبر أحداً منهم علىٰ ذلك ، ولم يمنعهم عطاءهم.

ناهيك عن موقف الزبير وطلحة تجاهه ـ وذلك حينما أرادا الانصرافَ عنهُ ، استأذناه في الذهاب إلى العُمرة ، مع علمه عليه السلام بما يضمراه له من سوءٍ ، فلم يمنعهما من الانصراف بل أذن لهما ، مع علمه أيضاً أنهما سوف يۆلّبان الناس عليه.

ولما خرجا قال عليه السلام لأصحابه : والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة (1) فتركهما وشأنهما فكانت مكافأتهما له عداوته وجر الناس إلى حربه.

وغيرهما ممن تركه وانصرف عنه كالذين انصرفوا عنه إلىٰ معاوية بن أبي سفيان في جنح الليل ، وقد كان قادراً علىٰ منعهم وردهم إلا أنه ترك لهم حرية الرأي وتحديد المصير ، وإن كان علىٰ خلاف ما يريد ويهوىٰ ما لم يستلزم من ذلك محذوراً آخر يقتضي خلاف ذلك.

نعم لا ينافي هذا أنهم : يُرشدون أمثال هۆلاء إلىٰ طريق الحق ، كما لايدّخرون وسعاً في إيقاظهم وتوعيتهم وهدايتهم ، إن كان هۆلاء أهلاً لذلك ، وإلاّ خلوا بينهم وبين أنفسهم ، وهذا علىٰ خلاف ما جرت به سيرة الكثير من الذين يرغَموا الآخرين ـ وإن لم يقتنعوا بهم ـ على الانضواء في صفوفهم وفي حمايتهم ، بالقَسر والغلبة مما يۆدي بهم إلى الانخراط قهراً تحت سيطرتهم والدفاع عنهم خوفاً من بطشهم وجبروتهم ، وإذا ما دافعوا عنهم تعَرضوا حتماً للأذىٰ والبطش ، وإذا ما واجهوا الحرب فلا خيار لهم غيرها ، ولذا غالباً أمثالُ هۆلاء يقاتلون بالجبر والأكراه وليس عن قناعة من أنفسهم.

وأما إذا جئت تستوحي عظمة الأخلاق وسمو الرفعة والنبل في موقف الحسين عليه السلام مع أصحابه وأتباعه تجده مثالاً فريداً من نوعه في كيفية التعامل معهم ، فقد التحق بركبه كثيرٌ من الناس وهو في مسيره إلىٰ كربلاء إلا أنه كان يطلعهم علىٰ حقيقة الأمر فمن شاء التحق به ومن شاء انصرف عنه غير مُكرهٍ لأحد منهم علىٰ مناصرته واللحوق به.

كما أكَّد بهذا ونحوه علىٰ أصحاب الإبل حينما مَر عليهم بالتنعيم (2) قائلاً لهم : لا أكرِهُكُم ، مَنْ أحبَّ أنْ يمضي معنا إلى العراق أو فينا كراءَهُ وأحسنّا صحبتَهُ ، ومَنْ أحَبَّ أن يُفارقنا من مكاننا هذا أعطيناهُ من الكراءِ علىٰ قَدْر ما قطع من الأرض (3).

وفي ليلة عاشوراء بعد ما خَيّمَ الليلُ وأرخىٰ سترَهُ ، حيثُ إن الليل ستير ، والسبيل غير خطير ، يقف عليه السلام خاطباً في أصحابه آذنا لهم بالتفرق والأنصراف عنه ، في وقت يتطلب الناصر والمُعين ، قائلاً لهم : ألا وإني قد أذنت لكم ، فانطلِقُوا جميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم حرجٌ مني ولا ذِمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ، ومدائنكم حتىٰ يُفرّج الله فإِن القومَ إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري (4) وفي رواية أخرى قال لهم : وأنتم في حلٍّ وسعةٍ من بيعتي وعهدي الَّذي عاهدتموني(5).

الأمر الذي يدل علىٰ عدم إكراهه عليه السلام لأحدٍ منهم علىٰ مناصرته.

وقد أكد هذا الأمر أيضاً للحضرمي حينما سمعَ أن ابنه اُسر في ثغر الري قال له عليه السلام رحمك الله ، أنت في حل من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك (6) ؟!

هذا ولم يُبدِ عليه السلام لهم وحشتَه وانكساره فيما لو تفرقوا عنه ، بل أكد عليهم أن انصرافهم عنه ليلاً أسهل منه نهاراً ، وذلك للاختفاء عن الأنظار بعكس النهار الذي قد لا يأمن فيه الهارب من الطلب.

ولذا قال عليه السلام كما في بعض الروايات : فالليل ستير والسبيلُ غير خطير ، والوقت ليس بهجير ... (7).

والحسين

عليه السلام على الرغم من إبلاغ أصحابه بذلك وتركه الأمر لهم ، إلا أنه أخذ يۆكد عليهم في ذلك مِراراً ، كما حصل هذا مع نافع بن هلال ، وذلك حينما تبع الحسين عليه السلام لما خرج في جوف الليل يتفقد التلاع والعقبات ، فلما رآهُ قال له عليه السلام : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ... (8).

الأمر الذي يدل علىٰ تأكيده لهم وعدم خصه أحداً بالبقاء معه ، بل خاطبهم جميعاً بما فيهم الصغير والكبير والعبد والحر حتىٰ نساءهم.

وقد وجدناه عليه السلام يومَ العاشر عند اشتداد الأمر ، وهو يطلق العنان لواحد منهم ، وقد أحلّه من بيعته وهو : الضحاك المشرقي الذي تعهد للحسين عليه السلام بالدفاع عنه ما رأىٰ معه مقاتلاً ، ولما بقي عليه السلام وحده ، قال للإمام : يا بن رسول الله قد علمت أني ما كان بيني وبينك ، قلتُ لك أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف ؟ فقلتَ لي نعم.

فقال له عليه السلام : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت علىٰ ذلك فأنت في حلٍّ.

فأخرج فرسه من الفسطاط وركبه وهرب ونجا بنفسه (9).

وهذا الموقف النبيل في تعامل الحسين عليه السلام مع أصحابه لا تجده في سائر المعسكرات الأخرىٰ والتي قد يُتناسىٰ فيها العهود والمواثيق.

فلم يجبر الحسين عليه السلام أحداً من أصحابه علىٰ نصرته والدفاع عنه ، بل ترك الأمر لهم وباختيارهم ، وهذا في الواقع ما زاد في عزيمتهم وجعلهم يقاتلون بمحض إرادتهم عن عزيمة صادقة.

وكم هو فرق بين أن يقاتل المقاتل في المعركة عن رغبة وشوقٍ وبين أن يقاتل مُكرَهاً علىٰ ذلك ، أو من أجل المطامع الدنيوية التي هي منتهى الزوال والاضمحلال.

 

المصادر:

(1) بحار الأنوار : ج 32 ، ص 25 ، ح 8 ، ب 1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 1 ، ص 232.

(2) التنعيم : موضعٌ بمكة خارج الحرم ، هو أدنى الحلّ إليها ، على طريق المدينة ، منه يحرم المكيُّون بالعُمْرة ، به مساجدُ مبنية بين سرف ومكة. مراصد الأطلاع : ج 1 ، ص 277.

(3) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 29ظ  ، الإرشاد للمفيد : ص 219 ، اللهوف : ص 3ظ  ، بحار الأنوار : ج 44 ، ص 367.

(4) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 317 ، الإرشاد للمفيد : ص 231.

(5) موسوعة كلمات الإمام الحسين : ص 4ظ 1.

(6) أسرار الشهادة : ج 2 ، ص 219 ، اللهوف : ص 4ظ  بحار الأنوار : ج 4 ، ص 392.

(7) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص 271.

(8) معالي السبطين : ج 1 ، ص 344 ، الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص 273.

(9) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 339.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية