شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 3

0 المشاركات 00.0 / 5

مع الهمّازين اللمّازين

واصَلْنا سيرنا، وإذا بجهل يظهر مرّة أُخرى، فصرخت فيه: «ابتعد عنّي أيّها الملعون».
فقال: « ابتعد أنت عنّي ».
فابتعدتُ عنه بضع خطوات سائراً برفقة الهادي، وكان جهل يسير على جهة اليسار، وعلى جانبَي الطريق كانت هناك حيوانات مختلفة، كالكلاب والذئاب والثعالب والقرود، وبألون مختلفة، كالأصفر والأزرق، وكانت هناك أيضاً عقارب وزنابير وحيّات وفئران، وكان معظمها في حالة عراك فيما بينها، يفترس بعضها بعضاً، وينهش بعضها بعضاً، وكانت النار تخرج من أفواه بعضهم وآذانهم، وكان يظهر أحيانا سراب فيركض الجميع نحوه ظنّاً منهم أنّه ماء، ثمّ يعودون خائبين. كان بعضهم منهمكاً في التهام الجِيَف، بينما كان بعض في أعماق آبار يخرج منها دخان الكبريت ولهيب النار.
سألت الهادي: « من هؤلاء الذين يسكنون في هذه الآبار ؟ ».
فقال: « هؤلاء هم الذين كانوا يسخرون من المؤمنين ، ويستهزئون بهم ويترفّعون عليهم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (64). أمّا الذين يأكلون الجيف فهم الذين كانوا يغتابون، والذين تخرج النار من آذانهم فهم الذين كانوا يستمعون إلى الغيبة، والذين يتقاتلون من الكلاب والهررة والذئاب هم السبّابون والشتّامون، أمّا الذين تراهم اصفرّت وجوههم فهم المتلوّنون النمّامون الكذّابون ».
كان الجوّ في تلك الأرض حارّاً جدّاً يسبّب العطش، فكنت أطلب الماء من الهادي كلّ ساعة، فكان يسقيني أحياناً بقليل من الماء، وأحياناً لا يسقيني إطلاقاً، وكان يقول: « إنّ الطريق خالٍ من الماء، وما نحمله منه قليل ».
فسألته: « لماذا حملت قليلاً من الماء ؟ ».
فقال: « لأنّ سعتك لم تزد على ذلك ».
فقلت: « ولماذا سعتي قليلة هكذا ؟ ».
فقال: « لأنّك أنت الذي جعلتها صغيرة بقلّة إيصالك ماءَ التقوى إليها، فجفّت ولم تُفلح الفلاحَ كلّه.
قال الله سبحانه وتعالى: قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنُونَ * الّذينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُون * وَالّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (65). ولكنّك لم تكن مطلق الإعراض عن اللغو، ولا كنت خاشعاً في صلاتك: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيَراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمًلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرّاً يَرَهُ (66).
ثمّ قال: « انظر أمامك، ماذا ترى ؟ ».

* * *

بساتين الأذكار

نظرت فرأيت في الاُفق دخاناً أسود مخلوطاً باللهب، صاعداً إلى عنان السماء. لقد كانت بساتين من الأشجار المثمرة قد اشتعلت ناراً، فسألت الهادي عنها.
فقال: « تلك البساتين من صنيع التسبيحات والتهليلات والأذكار التي قام بها أحد المؤمنين، ولكن في هذه اللحظة ورد على لسان هذا المؤمن كذب ولغو وتهمة، فاستحالت هذه إلى نار أخذت تأكل حسناته وبساتينه(67). فلو كان لصاحبها إيمان ثابت لأولاها اهتمامه، ولَما أُرسل مثل تلك النار لتحرقها. ولكنّه عندما يصل ويدرك ما فعل، سيعضّ على بَنان الندم حسرةً ولكن بغير جدوى. إنّ الله أشار إلى الإيمان بالنتائج وملكوت الأعمال الذي ذكره لنا الأنبياء، وهو غائب عن الأنظار في العالم المادي. وقد جاء في بداية القرآن الكريم: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (68).
وعندما وصلنا كانت النار قد أتت على البساتين كلّها وأحالتْها رماداً، ثمّ هبّت ريح ذرّت الرماد في الجوّ حتّى لم يبق منه أثر: أعْمَالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّدت بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (69).
بعد أن اجتزنا البساتين المحترقة، وصلنا إلى بساتين مخضرّة، نضرةً كثيرة الثمر والورد والرياحين والمياه الجارية والطيور المغرّدة. قلت في نفسي: لابدّ أنّ تلك البساتين التي احترقت كانت مثل هذه، ولو أنّ صاحبها عرف هذا لمات حسرة وكمداً.

* * *

ربوع وادي السلام

التفت إليَّ الهادي وقال: « هنا أرض وادي السلام، حيث يستتبّ في ربوعها الأمن والسلام، فعلِّق عصاك وترسك على الفرس، واتركه يرعى هنا حتّى موعد التحرّك ».
بعد ذلك انتهينا إلى باب قصر رأينا عنده حوض ماء من قطعة واحدة من البلّور، ولقد كان الماء زلالاً، والبلور رائقاً، بحيث تخاله ماءً قائماً بغير إناء، أو إناءً قائماً بغير ماء:

رقّ الزجاج ورقّت الخمرُ   فتشابها فتشاكـل الأمـرُ
فكأنّما خمـر ولا قـدحٌ   وكأنّما قـدح ولا خمـرُ

وقد تناثرت حول الحوض مقاعد مريحة ومناشف من حرير، فخلعنا ملابسنا واغتسلنا في ذلك الماء، وطهّرنا ظاهرنا وباطننا من الكدر والغل والغش، فزال عنّا كلّ شعر ظاهر على البشرة حتّى اللحية والشوارب، وجميع العيوب والنواقص الأُخرى، ولم يبق سوى شعر الرأس والرموش والحاجبين، وهي التي تضفي على الإنسان جمالاً، كما أنّ جميع الرذائل الباطنية قد زالت: « وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْوَانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (70).

سألت الهادي عن اسم هذه العين، فقال: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (71).
وبعد أن تطهّرت أبداننا، ارتدينا الملابس الفاخرة التي كانت هناك. كانت ملابسي من الحرير الأخضر، وملابس الهادي من الحرير الأبيض، نظرت إلى المرآة فوجدت أنّي على درجة من البهاء والجلال والكمال، بحيث إنّي عشقت نفسي، ومع ذلك فإنّي عندما نظرت إلى الهادي تحيّرت في حسنه وجماله وبهائه غبطتُه على ذلك.
ثمّ قمنا، وتقدّم الهادي فطرق الباب، ففتح البابَ لنا شاب جميل الصورة، وطلب منا بطاقات الدخول، فأعطيته البطاقة، فقبّل التوقيع، وقال مبتسماً: وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُوْرِثْتُموهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72).
فدخلنا ونحن نقول: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدَ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ .

* * *

دار السرور

وتقدّمني الهادي إلى غرفة مصنوعة من قطعة واحدة من البلّور، فيها سرر من الذهب، عليها فرش من المخمل الأحمر رُتّبت عليها وسائد لطيفة، وكان السقف والجدران تعكس صورنا، فكنّا نشعر باللذة لمطالعتنا ذلك الحسن والجمال في أنفسنا. كانت مائدة الطعام قد مُدّت في وسط الغرفة وصُفّ فوقها أنواع الأطعمة والأشربة، واصطفّ فتيان وفتيات للخدمة، فجلسنا فوق تلك السرر: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئينَ عَلَيْها مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأكْوابٍ وَأبارِيقَ وَكَأسٍ مِنْ مَعِين * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ولا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كأمْثالِ اللُؤْلُؤِ المَكْنُونِ * جَزاءُ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تأثِيماً * إلاّ قِيلاً سَلاَمَاً سَلاَمَاً (73).
وبعد أن تناولنا الأطعمة والأشربة الطاهرة والفواكه، اضطجعنا على السُّرُر نستريح.
لم تمض ساعة حتّى ارتفعت أنغام الآلات الموسيقية مصحوبة بالأصوات الرخيمة والألحان والأطوار الغنائية التي تسلب اللبّ، وتسحر القلب. وفجأة ارتفع صوت عذب يتلو بمقام حجازيّ سورة الإنسان، وكان الصوت يأخذ بمجامع القلوب. سكنت كلّ الأصوات الأُخرى احتراماً، وبقيت أنا كما كنت مضطجعاً مغمض العينين، لكي يظنّني الهادي نائماً فلا يُحدِث صوتاً، وكذلك كي لا أرى المرئيات فتصرفني عن الإنصات. لقد كانت لي أُذنان، واستعرت أربعاً أُخرى، رحتُ أنصت بها إلى تلك التلاوة المباركة حتّى انتهت السورة وسكت الصوت، فانتصبت جالساً، وجلس الهادي أيضاً، فسألته عن اسم المدينة.
فقال: « إنّها من قرى دار السرور ».
قلت: « ما أعظم بلداً تكون هذه إحدى قُراه! كيف إذن تكون عاصمته ؟! ».
وسألته عن صاحب الصوت الذي تلا تلك السورة، فقد أخذ قلبي معه، لأنّي كنت في دار الدنيا أحبّ هذه السورة كثيراً، فعاد هذا اللحن الرائع في هذا العالم الروحاني يصبّ حياة جديدة في نفسي، وثورة في رأسي، فكان لابدّ لي أن أعرف صاحب ذلك الصوت.
ولكنَّ الهادي قال: « لا أعلم من هو صاحب الصوت، إلاّ أنّ كبير هذا البلد يزور المسافرين أحياناً، وأنا لابدّ أن أراه لآخذ توقيعه على بطاقة المرور، فلعلّ صاحب الصوت يرافقه فنراه ».
قلت: « ماذا سيكون مصيرنا لو أنّه امتنع عن التوقيع ؟».
قال: « هذا ممكن عقلياً، وبديهي أن تسوء الأُمور جدّاً إذا لم يوقّع على الجواز، ولكن ذلك مستبعد. إسأل نفسك وباطنك: بَلِ الإنسَانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ (74).
ارتجفتُ خوفاً من كلام الهادي، ووجدت نفسي متردّدة بين الخوف والرجاء، فأخذت أُردِّد: « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ».
قلت للهادي: « تقول إنّ هذه دار السرور، ولكنّك جعلتها دار الأحزان. هيّا بنا نذهب إليه، فقلقي يتزايد لحظة بعد أُخرى، وإذا هِبْتَ أمراً فقَعْ فيه.
إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً (75).

* * *

تسلّل أحد علماء السوء

وخرجنا حتّى وصلنا إلى ميدان قريب من موقع قصر السلطنة، فرأينا على جانبَي الطريق فتياناً حسان الوجوه، وفي سنّ واحدة، في صَفّين متقابلين، وسيوفهم مُصلّتة على أكتافهم، وقفوا صامتين بغير حراك.
استأذن الهادي من كبيرهم، ومررنا بينهم، ونحن في قلق وشكّ من احتمال قيام السلطان بتوقيع الجواز عابسي الوجوه، وسمعنا من داخل القصر أصواتاً تنادي: العجل العجل! وانطلق الفرسان مندفعين وأبدانهم ترتعد خوفاً من تلك الأصوات.
سألنا أحد الخارجين من القصر عن الخبر، فقال: إنّ أبا الفضل العباس عليه السّلام غاضب على أحد علماء السوء الذين كان ينبغي أن يظلّ محبوساً في أرض الشهوات، ولكنّه دخل إلى وادي السلام خطأً، فأرسل الفرسان لكي يعيدوه.
ودخلنا القصر خائفين نترقّب، وإذا بأبي الفضل العبّاس محمرّ الوجه منتفخ الأوداج، غاضب النظرات، وهو يقول على الرغم من أن هؤلاء يجب أن ينالوا عذاباً مضاعفاً، فقد استطاعوا بكلّ حرية أن يدخلوا هذه الأرض الطيّبة الطاهرة دون أن يمنعهم أحد. ما الفرق بين هؤلاء وشريح قاضي الكوفة الذي أفتى بقتل أخي ؟!
وانعقدت الأنفاس في الصدور هيبة ورهبة، وجمد الجميع واقفين كالخُشُب المسنّدة، ووقفنا نحن أيضاً في زاوية نرتعد.. إلى أن عاد الفرسان وقالوا إنّهم حبسوا ذلك العالِم في بئر الويل وعاقبوا الحرّاس.
... ثمّ تقدّم الهادي وأنا أتبعه، فوجدنا أبا الفضل العبّاس عليه السّلام فسلّمنا عليه تعظيماً، وقدّم الهادي الجواز ونال الإمضاء عليه.
قال عليه السّلام: « كيف جرت الحال عليكم ؟».
قلت: « الحمد لله على كلّ حال، لقد كنتم أنتم رجاءنا وأملنا في كلّ العوالم وما زلتم، فأنتم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم، والوسيلة الكبرى ». وألقيت بنفسي مرّة أُخرى عليه وقبّلته ونهضت واقفاً.
قال: على الرغم من أنّه لم تصدر أوامر بالتشفّع لك في كلّ عوالم البرزخ، بل عليك أن تجتاز هذه المراحل بما لديك من الزاد، إلاّ أنّ إمدادنا الباطني كان معك دائماً، وإنّ فتوّتي تقتضي أن أمدّ يد المعونة والحماية إلى أمثالكم أنتم المساكين الذين طالما مشيتم عطاشى لزيارة أخي وأقمتم له العزاء ».

* * *

خلعة من عليّ بن الحسين

كنت أرى فتىً صغير السن يجلس إلى جانب أبي الفضل، يسطع نوراً كالشمس، بحيث لم نكن نتحمّل نورانيّته، وكانت العظمة والجلالة تقطر منه، وكان أبو الفضل يتحدّث إليه أحياناً بتواضع، فكان واضحاً أنّه يجلّه ويحترمه.
سألت الهادي عنه فقال: « لا أعلم، ولكن يُحتمل أن يكون هو صاحب الصوت الذي كان يتلو القرآن ».
سألت شخصاً كان يتقدّمنا، فقال: « لعله عليّ الأصغر، الحجّة الحسينيّة الكبرى. والدليل على ذلك هو هذا الخط الأحمر الذي يمرّ على رقبته النيّرة فيزيدها جمالاً ».
قلت: « ما أجدرنا أن نعود من أجل أخذ الثأر، ليتهم يرجعوننا!».
هنا توجّه أبو الفضل العبّاس عليه السّلام إلى حديثنا، وقال « سيحدث هذا قريباً إن شاء الله: وَأُخْرى تُحبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (76).
إلاّ أنّني أيقنت أنّ ذلك الشابّ هو عليّ بن الحسين، وقد بقيت مبهوتاً بجماله وجلاله، بحيث إنّي لم أستطع أن أرفع عينيّ عنه، على الرغم من أنّ هذا يعتبر بعيداً عن التأدّب. كان جلاله يُبعد، وجماله يجذب، فكنت واقعاً بين هذين المحظورين المتضادين، وجسمي يرتجف.
ويبدو أنّه تنبّه إلى حالي فأرسل إليّ خِلعة خلعوها علَيّ، فعلمت من هذه الالتفاتة الكريمة أنّه أدرك ما بي من شغف وتعلّق به، فسجدتُ شكراً لله، وهدأ اضطراب قلبي بعد معرفتي بالمحبّة المتبادلة بيننا.
طلب الهادي أن نرجع إلى البيت لأخذ قسطٍ من الراحة، أو أن نتمشّى للسياحة في هذه البساتين النضرة، خاصّة بعد أن نِلْنا التوقيع وفُزنا بالخلعة.
فقلت في نفسي: إنّ هذا المسكين لا يعرف شيئاً عن الأسباب والدوافع التي تكون خارج نطاق العقل والمنطق، لذلك فهو لا يدري بمدى تعلّقي بهذا المجلس وبأهله، وبأنّي لا طاقة لي على مفارقته.
قلت للهادي: « إنّني في هذا المجلس لا يساعدني لساني على النطق، فاسأله لماذا خلع عليّ هذه الخلعة، مع أنّي لا أراني جديراً بنظرة منه، بَلهَ خلعة عظيمة كهذه ». فتقدم الهادي بالسؤال نيابة عنّي.
فقال عليّ بن الحسين عليه السّلام: « عندما قرأ على المنبر آية: يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأنْذر (77) وذكر شأن نزولها، وطبّقها عليّ في الوقت الذي كان أبي ينادي: « هل من ناصر ينصرني ؟! » وبكيت أنا في الخيمة، سررت بذلك التطبيق، بل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد سُرّ أيضاً، ولهذا وهبته الخلعة وإن لم تكن تليق بشأنه، إلاّ أنّها تناسب هذا العالم، فما في هذا العالم ليس سوى ظلّ للأصل، ولكنّه عندما يصل إلى الموطن الأصلي سوف يصل إلى الحقائق الصرفة حيث: ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ».
وفجأة قاموا وركبوا خيولهم فطارت خارجة من المدينة إلى حيث مقامهم الشامخ. فأمسكت بيد الهادي وعدنا إلى البيت وأنا حزين على فراقهم.
في البيت لم يكن للأشياء مظهرها السابق، فقد تقطّعت خيوط تعلّق القلب بها.
قلت: « فلنرحل غداً ».
فقال: « لنا أن نستريح هنا مدّة عشرة أيّام ».
قلت: « تصعب عليّ حتّى عشر دقائق. فلن يقرّ لي قرار حتّى ألحق به، وأكون إلى جواره ».
قال: « ما أشدّ طمعك! لا يمكن تجاوز الحدود في هذا العالم. إنّنا هنا لسنا في دنيا الجهل حتّى ينتابنا الأسف أو الرغبة، أو يمكن تخطّي العدالة قيد شعرة. اللهمّ إلاّ شاؤوا هم التعطّف على بعض الأحبّة، أما جريان الأهواء والرغبات فلا. إنّهم في أوج العزّة وأنت في حضيض تراب المذلّة، فما للتراب وربّ الأرباب، حتّى لو لم تهدأ لوعتك ».
ما كان في اليد حيلة سوى الصمت والسكوت، إذ إنّ حالي كان من المتعذّر شرحه بالمقاييس المنطقيّة، ولم يكن الهادي يعرف منطقاً سواه، لذلك أطبقتُ فمي وفوّضت أمري إلى الله.
قال الهادي: « تعالَ نتفرّج فيما بين هذه البساتين والحدائق الغنّاء ».
فذهبنا، ولكن لم يكن شيء ليزيل غمّي، فكلام الحبيب أطيب الكلام.

------------

64 ـ الهُمزة / 1.
65 ـ المؤمنون / 1 ـ 3.
66 ـ الزلزلة / 7 و 8.
67 ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: مَن قال: « سبحان الله » غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومَن قال: « الحمد لله » غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومَن قال: « لا إله إلاّ الله » غرس الله له بها شجرة في الجنّة.
فقال رجل من قريش: يا رسول الله! إنّ شجرنا في الجنّة لكثير! قال: نعم، ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها! وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يقول: « يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ ولا تُبطلوا أعمالكَم ». ( بحار الأنوار، للعلاّمة المجلسيّ 187:8 عن أمالي الطوسيّ.
وقد جاء في الحديث: « الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ».
68 ـ البقرة / 1.
69 ـ إبراهيم / 18.
70 ـ الحجر / 47.
71 ـ ص / 1.
72 ـ الأعراف / 43.
73 ـ الواقعة / 15 ـ 26.
74 ـ القيامة / 14.
75 ـ الإنسان / 3.
76 ـ الصفّ / 13. وجاء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي أنّ المقصود من هذا الفتح القريب الذي يشترك فيه أهل الجنّة هو ظهور القائم عليه السّلام وانتصاره وانتقامه من أعداء شيعة آل محمّد صلّى الله عليه وآله.
77 ـ المدّثّر / 1 و 2.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية