قضية من نور فاطمة المعصومة (سلام الله عليها)
بسم الله الرحمن الرحيم
قضية من نور فاطمة المعصومة (سلام الله عليها)
إنّ الحديث عن أهل البيت (عليهم السّلام) لا يمكن بحال من الأحوال أن تسعه بضع وريقات أو تحيط به قراطيس الكتّاب وتلمَّ بدقائقه وتفاصيله ؛ إذ إنّ فضائلهم ومآثرهم ومناقبهم قد بلغت من الكثرة والسعة حدّاً بحيث أصبح من الصعب بمكان الإحاطة بها أو التحدّث عنها جميعاً .
ولكن , وانطلاقاً من المثل القائل : (ما لا يُدرك جلُّه لا يُترك كلُّه) فإننا نحاول في هذه الصفحات القليلة أن نقتبس جذوةً من أنوارهم , ونجتهد في نشرها بين القرّاء وخصوصاً مَن له رغبة واهتمام بمطالعة تراث أهل البيت (عليهم السّلام) عسى أن نكون قد ساهمنا ـ ولو بنزر يسير ـ في تعريفهم لمَن لم تسنح له الفرصة للتعرّف عن كثب عمّا حوته هذه الأنوار القدسية , وما انطوت عليه أرواحهم ونفوسهم من مُثل وسمو ورفعة ومناقب قد لا تجد لها مكاناً في غيرهم .
ومن بين هذه الأنوار التي انبثقت من ساحة بيت العصمة والطهارة , وتربّت في أحضان الإمامة , وارتشفت من معين الرسالة الزلال هي السيدة فاطمة المعصومة ابنة الإمام موسى الكاظم (عليهما السّلام) .
* اسمها :
هي فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم أفضل الصلاة السّلام)
* اُمّها :
اتفق المؤرّخون وعلماء الأنساب أنّ اُمّ السيدة المعصومة (عليها السّلام) كانت جارية من أشراف العجم وفي السنام الأعلى منهم ، وكانت من فضلى النساء عقلاً وكياسة وديناً ؛ الأمر الذي دفع بالسيدة حميدة المصفاة ـ اُمّ الإمام الكاظم (عليه السّلام) ـ إلى شرائها وإسكانها معها في بيت الإمام الصادق (عليه السّلام) , فكان هذا الأمر مدعاةً لتعلق هذه الجارية بأهل هذا البيت وتمسكاً بهم , بحيث بلغ من إعظامها لمولاتها حميدة المصفاة أنها ما جلست بين يديها منذ ملكتها ؛ إجلالاً وتعظيماً لها .
كان لشرف بقائها في هذا البيت الطاهر السعادة الكبرى في أن تتلقى علوم أهل البيت (عليهم السّلام) وتصبح من أبرز تلامذة السيدة حميدة المصفاة , ممّا زاد إعجاب مولاتها فيها ؛ لذا أشارت السيدة حميدة على ابنها الإمام الكاظم (عليه السّلام) بالاقتران بها والزواج منها , فكان لها الشرف والفضل والكمال بهذا الزواج المبارك .
لم تلبث مدة حتّى منَّ الله تعالى عليها بأن صيّرها وعاءً طاهراً للإمامة ؛ حيث أصبحت اُمّاً للإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) , الولد البكر لها , ومن بعده بما يقرب العشرين عاماً منَّ الله تعالى عليها ثانية بولادة فاطمة المعصومة التي زادها شرفاً بأن كانت شقيقة للإمام الرضا (عليه السّلام) .
ذكر المؤرّخون أنّ لهذه الجارية أسماءَ عدّة , فكانت تسمى تُكتم ، ونجمة ، وأروى ، وسمانة ، واُمّ البنين ، وخيزران ، وصقر ، وشقراء ، والطاهرة(1) .
فيما أضاف البعض بأنّ من جملة أسمائها هو : سكينة ، وسلامة ، وتحية ، ونجية ، وسها ، وشهد(2) .
* الولادة الميمونة :
لم يرد في أغلب كتب التراجم التي بين أيدينا شيء من ذكر السنة التي ولدت فيها السيدة فاطمة المعصومة فضلاً عن اليوم أو الشهر , وكلّ ما بأيدينا من المصادر التي اهتمت بهذا الجانب من حياة المعصومين (عليهم السّلام) ووفياتهم تكاد تجمع على أن ولادتها (عليها السّلام) كانت سنة (183) للهجرة النبوية ، وهي السنة نفسها التي استشهد فيها والدها الإمام الكاظم (عليه السّلام) .
ولكن هذا القول لم يُذكر له مستندٌ , بل يكاد يكون بعيداً عن الصحة عارياً عنها ؛ لأنّ السنوات الأربع الأخيرة من عمر أبيها الإمام الكاظم (عليه السّلام) ـ على أقل التقادير ـ كان فيها رهين السجون والطوامير العباسيّة , وكانت شهادته في زنزانات بغداد هي الخاتمة لهذه السنين العجاف التي قضاها هناك ؛ وعليه فلا بدّ أن تكون ولادة السيدة المعصومة قبل سنة (179) هـ ، وهي السنة التي قُبض فيها للمرة الأخيرة على الإمام الكاظم (عليه السّلام) واُودع السجن .
وهناك مَن ذكر أنّ ولادتها (عليها السّلام) كانت في غرّة شهر ذي القعدة سنة (173)(3) , والقائل بهذا وإن كان من ذوي التتبع والتحقيق إلاّ أنه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ , بل إنه ذكره استطراداً ضمن باب أسماه (في أحوال بعض النسوان المسمّاة بفاطمة) .
وربما كان هذا التاريخ الأخير هو الأقرب بالنسبة إلى ولادة السيدة المعصومة (عليها السّلام) ؛ إذ هناك من الأخبار ما يؤيده ويعضده , وهو ما روي من أنّ جماعة من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السّلام) للتشرف بلقائه والسّلام عليه ، فاُخبروا أنّ الإمام (عليه السّلام) قد خرج في سفر , وكانت لديهم عدة مسائل , فكتبوها وأعطوها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) ثمّ انصرفوا .
وفي اليوم التالي ـ وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم ـ مرّوا على بيت الإمام (عليه السّلام) لأخذ أجوبة مسائلهم , إلاّ أنهم فوجئوا بأنّ الإمام (عليه السّلام) لم يعد من سفره بعدُ ؛ ونظراً لعزمهم على الرجوع إلى أوطانهم طلبوا من السيدة فاطمة المسائل على أن يقدّموها للإمام (عليه السّلام) في سفر آخر لهم للمدينة , فسلّمت السيدة فاطمة (عليها السّلام) المسائل إليهم مع أجوبتها ، ولمّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم .
وفي أثناء عودتهم التقوا الإمامَ الكاظم (عليه السّلام) وهو في طريقه إلى المدينة ، فحكوا له ما جرى لهم , فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل وأجوبتها ، فلمّا نظر فيها قال ثلاثاً : (( فداها أبوها ))(4) .
* أسماؤها وألقابُها :
بما أنّ السيدة المعصومة (سلام الله عليها) كانت ربيبة بيت الإمامة فقد حظيت بالأسماء الحسنة والألقاب التي تتناسب وشخصها ؛ بحيث كان لأسمائها وألقابها من الدلالات والمعاني ما يشير إلى جلالها وشأنها وقدْرها ؛ ذلك لأنّ الاسم أو اللقب لم يُطلق عليها جزافاً ، وإنما كان صادراً عن المعصوم الذي تدور أقواله وأفعاله مدار وجود الحكمة وعدمها .
وأما أسماؤها وألقابها فهي :
1 ـ فاطمة
2 ـ المعصومة
3 ـ كريمة أهل البيت (عليهم السّلام)
وقد ذكر الشيخ علي أكبر مهدي پور(5) أنّ لها (عليها السّلام) أسماء وألقاباً عدّة غير ما ذكرناه ، وقد وردت في بعض المصادر والمراجع ، وهي :
1 ـ الطاهرة
2 ـ الحميدة
3 ـ البرّة
4 ـ الرشيدة
5 ـ التقيّة
6 ـ النقيّة
7 ـ الرضيّة
8 ـ المرضيّة
9 ـ السيّدة
10 ـ اُخت الرضا (عليه السّلام)
11 ـ الصدّيقة
12 ـ سيدة نساء العالمين
* سفرها إلى خراسان :
لما تسلّم المأمون العباسي زمام السلطة المطلقة للبلاد الإسلاميّة بعد مقتل أخيه الأمين على يدي طاهر بن الحسين قائد الجيوش الخراسانيّة التي أرسلها المأمون سنة (198) للهجرة , واعتلائه سدّة الحكم أمر جماعة من شَرَطته وقواد جيشه بالذهاب إلى مدينة الرسول (ص) ليصطحبوا معهم الإمام الرضا (عليه السّلام) من هناك إلى خراسان (عاصمة الخلافة العباسيّة) , زاعماً أنه يسلمه مقاليد الخلافة كونه الإمام المعصوم المفترض الطاعة .
اُخذ الإمام (عليه السّلام) قسراً إلى مدينة (مرو) مع علمه بأنّ شهادته ستكون على يد المأمون العباسي نفسه , وهو ما تحقق فعلاً بعد أن اُرغم الإمام (عليه السّلام) على قبول ولاية العهد ضمن شروطٍ ذكرتها جلّ كتب التاريخ .
وبعد مضي عام على سفر الإمام (عليه السّلام) , وحدوداً سنة (201) للهجرة لم تستطع السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) من تحمّل آلام الوحدة التي خلّفها عليها فراقُ شقيقِها الذي علم بحالتها وشوقها اللامتناهي إليه ، فكتب إليها بيد أحد غلمانه كتاباً يطلب منها القدوم إلى مقرّ إقامته في (مرو) . وما إن وصل الكتاب إليها ووقع بيدها حتّى تهيّأت للسفر وأعدّت العدّة للمسير إلى خراسان .
وقد ذكرت بعض المصادر أنها لما شدّت الرحال إلى أخيها تهيّأ معها ركبٌ قوامه اثنان وعشرون شخصاً ضمّ بعض إخوتها وأبنائهم وغلمانهم ، واتخذوا من الطريق المؤدّي إلى قم مساراً لهم إلى (مرو) . وفي الوقت نفسه تهيّأ ركب آخر قوامه ثلاثة آلاف شخص من بقية إخوتها ومَن انضمّ إليهم من بني أعمامهم وأولادهم , وأقاربهم ومواليهم وشيعتهم , وخرجوا قاصدين إلى (مرو) أيضاً ؛ حيث ذكروا أنّ الإمام (عليه السّلام) قد استأذن المأمون العباسي في قدومهم عليه (6) .
* أهم المحطات التي طوتها أثناء سفرها
اختار هذا الركب الأخير المسير إلى مدينة (مرو) عن طريق شيراز , وكان في طليعتهم أحمد ومحمّد والحسين أبناء الإمام الكاظم (عليه السّلام) , وما إن بلغوا أطراف مدينة شيراز , ووصلت أخبارهم إلى أسماع المأمون حتّى جُنّ جنونه , وأوعز إلى ولاته بصدّهم ومنعهم عن المسير , ومن ثمّ إرجاعهم إلى المدينة المنورة .
وعلى إثر هذه الأوامر الصادرة من مقر الحكومة العباسية خرج إلى هذا الركب جيشٌ قوامه أربعون ألفاً تحت إمرة والي شيراز ليقطعوا عليهم الطريق ، وبعد محاولة فاشلة في ردّهم عن الوجهة التي هم قاصدوها دخل الطرفان في معركة دامية أسفرت عن انكسار الوالي وجنوده ، فلجأ هذا الأخير ومَن معه إلى الحيلة والمكر ؛ فأشاعوا بين صفوف الركب العلوي : إنْ كان الغرض من سفركم هذا هو لقاء الإمام الرضا (عليه السّلام) فإنه قد مات ؛ الأمر الذي أدّى إلى زعزعة أفراد هذا الركب وتشتت شملهم وتفرّقهم في أطراف البلاد(7) .
وأمّا ركب السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) فقد اتخذ طريق قم ـ كما أسلفنا ـ مسلكاً للوصول إلى مدينة (مرو) ، ولكن ما إن وصل إلى ساوه ـ وهي بلدة لا تبعد كثيراً عن قم ـ حتّى حُوصر هو الآخر من قِبل أهلها ، فوقعت معركة دامية قُتل فيها إخوة السيدة فاطمة وأبناؤهم , وتشرّد مَن بقي منهم ، بحيث وصل الحال بأهل ساوه أن يهجموا على هارون ابن الإمام الكاظم (عليه السّلام) وهو يتناول الطعام ويقتلوه(8) .
ولما شاهدت فاطمة المعصومة إخوتها وأبناءهم صرعى مجزّرين , وقد قطّع القوم أجسادَهم وتركوها أشلاءً مبعثرة في تلك البقعة النائية , أصابها الإعياءُ والحزن الشديد , وأخذها المرض , وضعفت قواها بحيث لم تعد قادرة على مواصلة السفر (9) .
* تاريخ وصولها إلى قم :
لم تكن أرض ساوة ولا أهلها آنذاك أهلاً لاستضافتها وإكرامها ، وعليه فلا بدّ لها أن ترحل عن هذه الأرض إلى قم ، فسألت عن المسافة بينهما , فقيل لها : عشرة فراسخ ، فأمرت خادمها أن يحملها إلى هناك .
وما إن بلغ أهلَ قم نبأُ قرب وصولها إلى مدينتهم حتّى خرجوا زرافاتٍ لاستقبالها ، وكان في طليعتهم موسى بن خزرج بن سعد الأشعري ، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها واصطحبها إلى منزله(10) , فكان دخولها إلى هذه البلدة الطيبة يوم الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل .
* كراماتها (عليها السّلام) :
كثيرة هي الكرامات المتواترة التي اختصّت بها السيدة فاطمة المعصومة دون سائر أولاد المعصومين (عليهم السّلام) , بحيث احتلت مساحة واسعة من تراثنا الإسلامي بشكل عام والشيعي منه بشكل خاص ؛ الأمر الذي دفع بعض الكتّاب والباحثين المعاصرين إلى استقصاء هذه الكرامات وجمعها , ومن ثمّ إيرادها ضمن كتيّب خاص بها .
فقد أصبح من المألوف أن يسمع الإنسان عن كرامة لها (عليها السّلام) في شفاء مرض مستعصٍ قد عجز الأطباء عن علاجه ، أو نجاة من هلكة تبدو محقّقة الوقوع ، أو استجابة دعاء صالح يُرى أنه بعيد الاستجابة ، أو قضاء حاجة تبدو مستحيلة , أو حلّ مسألة علمية معضلة لا يظهر وجهها ، وغير ذلك من القضايا والحوادث التي ذكرت عنها .
وبما أننا لا نريد الإسهاب والإطناب بذكر هذه الكرامات الكثيرة ؛ كون البحث قائم على الاقتضاب والاختصار , فإننا نحاول أن نشير إلى واحدة منها على سبيل الاستشهاد لا الحصر :
نُقل عن المرحوم الحاج الشيخ محمود علمي الذي كان متولّياً على المدرسة الفيضيّة من قِبل آية الله البروجردي أنه قال : في زمان المرحوم آية الله الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم , المتوفّى في 17 ذي القعدة سنة 1355 هـ ، كنت أرى شخصاً عاجزاً لا يستطيع أن يجمع رجليه ، وكان يتّكئ على يديه ويسحب بدنه زاحفاً على الأرض ، وكان يأتي على هذه الحالة إلى الحرم للزيارة من دار الشفاء عن طريق المدرسة الفيضية .
فسألته يوماً عن حاله ، فقال : أنا من أهل القفقاز ( آذربيجان ) , وعروق رجلي يابسة ، ولا قدرة لي على المشي ، وقد زرت مشهد الإمام الرضا (عليه السّلام) للاستشفاء ولكن بلا فائدة ، فجئت ولعلّي أجد الشفاء هنا .
وكان من المتعارف في ذلك الوقت أنه إذا حدثت كرامة من كرامات السيدة المعصومة (عليها السّلام) تُضرب النقارة ويُسمع صداها ؛ إعلاماً لعامّة الناس بما وقع .
وفي ليلة من ليالي شهر رمضان رأيت النقارة تُضرب ، وسمعتهم يقولون : إنّ السيدة المعصومة قد شافت شخصاً مصاباً بالفالج . كنت مع بعض الأصدقاء في سفر إلى (أراك) , وركبنا عربة تجرّها الخيول ، وخرجنا من قم إلى (أراك) , فلمّا وصلنا إلى مسافة تبعد عن (أراك) ستة فراسخ وإذا بنا نرى ذلك الشخص الكسيح العاجز عن المشي ورجلاه سليمتان , وقد عوفي من مرضه تماماً ، وكان عازماً على زيارة كربلاء مشياً على قدميه ، فأركبناه في العربة معنا حتّى أوصلناه إلى أراك(11) .
* تاريخ وفاتها : ذكر بعض المؤرّخين أنّ السيدة فاطمة المعصومة بقيت في دار موسى بن خزرج بن سعد الأشعري سبعة عشر يوماً , ثمّ فارقت الحياة إثر السمّ الذي دُسّ إليها وهي في ساوة(12) , ولم يتجاوز عمرها الشريف ـ على أقصى التقادير ـ الثلاثين عاماً .
ولمّا توفيت أمر موسى الأشعري بتغسيلها وتكفينها , ثمّ قام بالصلاة عليها بنفسه ودفنها في أرض كانت له ، وهي الآن روضتها(13) .
ونُقل أنه لما توفيت (سلام الله عليها) وغُسّلت وكُفّنت حملوها إلى مقبرة (بابلان) , ووضعوها على سردابٍ حُفر لها ، فاختلف آل سعد في مَن يُنزلها إلى السرداب ، ثمّ اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السن يقال له : (قادر) .
فلما بعثوا إليه رأوا راكبين مقبلين من جانب الرملة وعليهما لثام ، فلما قربا من الجنازة نزلا وصلّيا عليها , ثمّ نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه , ثمّ خرجا ولم يكلّما أحداً , وركبا ولم يدرِ أحد مَن هما(14) .
واعتقد البعض(15) أنّ هذين الراكبين هما الإمامان المعصومان الرضا وابنه الجواد (عليهما السّلام) ، وقد جاءا ليتولّيا أمر الصلاة عليها وإنزالها في قبرها ودفنها ، وكان حضورهما عن طريق الإعجاز ، وقد طويت لهما الأرض من خراسان حيث كان الإمام الرضا (عليه السّلام) ، ومن المدينة حيث كان الإمام الجواد (عليه السّلام) .
وقد اختلفت الأقوال في تحديد وفاة السيدة المعصومة ؛ حيث ذكر أحد المتأخرين(16) أنها ثلاثة :
الأوّل : العاشر من ربيع الثاني ، وهو المنقول عن كتابي نزهة الأبرار في نسب أولاد الأئمة الأطهار للسيد موسى البرزنجي الشافعي المدني ، ولواقح الأنوار في طبقات الأخيار لعبد الوهاب الشعراني الشافعي .
الثاني : الثاني عشر من ربيع الثاني ، وهو المذكور في كتاب مستدرك سفينة البحار للشيخ النمازي .
الثالث : الثامن من شهر شعبان ، وهو المنقول عن كتاب العربية العلوية واللغة المروية للمحدث الحر العاملي .
وكيف كان فإنّ الاختلاف في تاريخ الولادة والوفاة هو السمة البارزة على مجمل تراثنا الإسلامي , بحيث انجرّ هذا الأمر على عظماء هذه الاُمة وقادتها ، وحسبك من اختلاف المسلمين في يوم ميلاد منقذ البشرية محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ويوم وفاته , أو أهل بيته (عليهم السّلام) ما يغنيك عن الحديث في هذا المجال .
* الحرم الشريف
يقع حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) في قلب المدينة المقدّسة قم على مساحة واسعة من الأرض تُقدّر بثلاثة عشر ألفاً وخمسمئة وسبعة وعشرين متراً مربعاً كما جاء في بعض التحقيقات(17) .
ويضم الحرم الشريف عدداً كبيراً من قبور العلماء والأولياء والصالحين , كما يضمّ في داخله عدداً كبيراً من العلويات وغيرهنّ اللواتي كان لهنّ الشرف في أن يرقدنَ بجوار السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) ؛ كاُمّ محمّد بنت موسى واُختها ميمونة اُختا محمّد بن موسى (عليه السّلام) ، واُمّ إسحاق جارية محمّد بن موسى ، واُمّ حبيب جارية أبي علي محمّد بن أحمد بن الرضا (عليه السّلام) ، واُمّ موسى بنت علي الكوكبي(18) .
وبعد دفن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) بنى موسى بن خزرج الأشعري مظلة (سقيفة) من القصب فوق قبرها الشريف , ثمّ بعد ذلك قامت السيدة زينب بنت الإمام الجواد (عليه السّلام) ببناء قبة من الآجر فوق القبر , ثمّ توالت على القبر الشريف العمارة والتجديد على مرّ العصور والأحقاب حتّى يومنا الحاضر .
* ما قيل في حقّها :
لقد وردت أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) تبيّن مقام وعظمة هذه السيدة الجليلة وعلو شأنها ومنزلتها , وقد أشارت هذه الأخبار إلى تلك المقامات قبل ولادتها (عليها السّلام) بفترة من الزمن , لا سيما الأحاديث الواردة على لسان جدّها الإمام الصادق (عليه السّلام) المتوفّى سنة (148) للهجرة .
ومن هذه الأخبار :
1 ـ قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( إنّ لله حرماً وهو مكّة ، وإنّ لرسول الله حرماً وهو المدينة ، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة ، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم ، وستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة ، فمَن زارها وجبت له الجنة ))(19) .
2 ـ وفي رواية اُخرى عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنه قال : (( ألا إنّ لله حرماً وهو مكّة ، ألا إنّ لرسول الله حرماً وهو المدينة ، ألا إنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة ، ألا إنّ حرمي وحرم ولدي بعدي قم ، ألا إنّ قم الكوفة الصغيرة . ألا إنّ للجنة ثمانية أبواب ؛ ثلاثة منها إلى قم ، تُقبض فيها امرأة من ولدي ، واسمها فاطمة بنت موسى ، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم ))(20) .
3 ـ ما روي عن سعد أنّ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) قال له : (( يا سعد , عندكم لنا قبر )) .
قلتُ : جُعلت فداك ! قبر فاطمة بنت موسى (عليهما السّلام) .
قال : (( نعم ، مَن زارها عارفاً بحقّها فله الجنّة ))(21) .
4 ـ روى الشيخ الصدوق بسنده عن سعد بن سعد قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهم السّلام) ، فقال : (( مَن زارها فله الجنّة ))(22) .
5 ـ عن الإمام الرضا (عليه السّلام) قال : (( مَن زار المعصومة بقم كمن زراني ))(23) .
6 ـ روى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن الإمام الجواد (عليه السّلام) أنه قال : (( مَن زار قبر عمتي بقم فله الجنة ))(24) .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) منتهى الآمال 2 / 404 ـ 405 .
(2) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 86 .
(3) الشيخ علي النمازي ـ مستدرك سفينة البحار 8 / 261 .
(4) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 62 ـ 64 .
(5) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 47 ـ 48 .
(6) سيدة عش آل محمّد ( صلى الله عليه وآله) / 69 .
(7) سيدة عش آل محمّد ( صلى الله عليه وآله) / 71 .
(8) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السّلام) 2 / 435 .
(9) الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السّلام) / 428 .
(10) تاريخ قم / 213 .
(11) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 277 ـ 278 .
(12) الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السّلام) / 428 .
(13) منتهى الآمال 2 / 378 ـ 379 .
(14) تاريخ قم / 213 .
(15) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 38 .
(16) كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) / 105 ـ 106 .
(17) مجلة الهادي / 109 , العدد الثاني من السنة الثانية ـ ذو القعدة 1392 هـ .
(18) تاريخ قم / 214 .
(19) بحار الأنوار 60 / 216 ـ 217 .
(20) بحار الأنوار 60 / 228 .
(21) بحار الأنوار 99 / 266 .
(22) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2 / 267 .
(23) رياحين الشريعة 5 / 35 .
(24) كامل الزيارات / 536 .