شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

صبر يوسف عليه السلام

0 المشاركات 00.0 / 5

لا شكّ أنّ الصبر إنّما يتحقّق إذا فرضنا أنّ هناك ابتلاءً ، أو امتحاناً يمرّ به الإنسان فيصبر عليه ، ومن ثمّة ينبثق السؤال الآتي : ما هو الابتلاء الذي مرّ به يوسف عليه السلام وعلى ماذا صبر ؟

يظهر للمتدبّر في قصّته التي عرضها القرآن أنّ هناك مجموعة من الابتلاءات مرّ بها هذا النبي الصدّيق ، ويمكن تلخيصها بما يلي :

إنّ يوسف (عليه السلام) كما تحدّثنا السورة عن مقاطع حياته ، كان ذلك الطفل الصغير الذي حوّلته أيدي المقادير ، وسلكته في سبل الابتلاءات ، فمن كيد إخوته إلى رميه في غيابة الجبّ ، إلى بيعه بثمن بخس إلى أن وصل إلى بيت العزيز ، ومن هنا أيضاً تبدأ مرحلة أُخرى من الابتلاء ، أشدّ وأصعب ممّا مرّ به سابقاً .

إلاّ أنّه في خضم هذه المحن والبلايا التي تواترت عليه كان مليء القلب بما يشاهده من لطيف صنع الله به ، فهو على ذكر دائم ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ، ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولم يكن لينسى ما فعله به إخوته ، ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن الأسباب كافّة ، من أنّه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية ، وسينبئ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون .

وهذا هو الذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب والبلايا ، فصبر عليها على ما بها من المرارة ، وفي كلّ هذه الأحوال لم نره شكّ أو أظهر شيئاً من الجزع ، بل كان محبوراً بصنائع ربّه الجميلة ، لا يرى إلاّ خيراً ولا يواجه إلاّ جميلاً ، وهذا ما حكته لنا آيات متعدّدة من السورة كقوله : (( مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي )) وقوله: (( مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْء )) وقوله : (( إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ )) وقوله: (( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) (1) ، فلم يكن يرى إلاّ ربّه ومالك أمره ، وهو الذي يسدّده كيف يشاء .

ولعلّ الاختبار الأصعب الذي مرّ به ؛ هو ما جرى من حكايته مع امرأة العزيز ، فإنّ هذه القصّة تقرّر أنّ جميع الإمكانات الفردية ، وظروف الزمان والمكان التي تؤدّي إلى الانحراف ، قد توفّرت بيد يوسف (عليه السلام) على أحسن وجه ممكن .

فكان مع هذه المرأة في خلوة ـ كما تتصوّر هي ـ وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور ، وكانا في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر ، لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم يكن مع يوسف ما يدفع به عن نفسه ، وينتصر به على هذه الأسباب القوية ؛ إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله ، وبعبارة أُخرى ، ليس له إلاّ أن يتترّس في خندق المحبّة الإلهية ، التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع إصبع .

يقرّر العلاّمة الطباطبائي هذه الحال التي مرّ بها يوسف بهذا التعبير الرائع : ( فهذه أسباب وأُمور هائلة ، لو توجّهت إلى جبل لهدّته ، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها ) (2) ، إلاّ أنّ كلّ شيء يضمحل ويتفتّت أمام المحبّة الإلهية التي يمتلكها أولياء الله المخلصون .

هذا على المستوى الفردي ، أمّا على المستوى الاجتماعي فقد ابتلاه الله عزّ وجلّ بذلك المنصب الذي وصل إليه في دولة مصر آنذاك ، وهو أن يكون أميناً على خزائن الدولة ، ولا يخفى أنّ هذا المنصب المالي الكبير قد انزلق فيه كثير من الخلق ، وهلكت فيه أسماء كبيرة ، عندما وجدت نفسها على محكّ الاختبار المباشر ، المتمثّل بالسيطرة على الأموال الضخمة العائدة إلى خزائن الدول .

إلاّ أنّ حال يوسف (عليه السلام) لم يكن كذلك ، وهل ثمّة مكان للمال في قلبه الشريف لكي يميل إليه أو يطمع فيه ؟ ! كلاّ .. بالتأكيد ، بل وجدناه هو الذي جمع أرزاق الناس ، وادّخرها للسنين السبع الشداد التي ستستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ، ويقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بينهم وإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه ، من غير حيف أو ظلم .

قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام) : (( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )) (3) ، انظر كيف خصّ بالذكر صفتي (حفيظ) و (عليم) ، فإنّهما الصفتان اللازم وجودهما فيمن يتصدّى لهذا المقام الخطير .

________________

(1) يوسف:   23 ، 38 ، 40 ،  101 .

(2) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج11، ص129.

(3) يوسف: 55.

---------------------------------

مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية